برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي، فليكر
مسيرة الجيزة إلى التحرير 25 يناير 2012

الحنين إلى الناس: الرعاع والحشود والكتل

منشور الأحد 26 مايو 2024

يعيش الناس تتنازعهم غريزتان أساسيتان؛ الأولى تدفعهم لتحسين ظروف حياتهم وتنفرهم من الفقر والضعف، والثانية خوف يجنبهم الخطر والوقوع في المهالك. القاعدة، أن الغريزة الثانية تكون أقوى وأكثر قدرةً على التحكم في اختياراتهم؛ فيعيشون مغلوبين على أمرهم، مستسلمين لمشيئة من يقمعونهم ويستغلونهم، يتحايلون على حياتهم البائسة بالتحمل والتكيف، لتكون المقاومة هي الخيار الأخير.

المقاومة إذن هي خيار لقلة، هنا وهناك، أكثر شجاعةً وإقدامًا، تنهزم ويُنكَّل بها، فيخاف الجميع من رأس الذئب الطائر، أو تنتصر القلة في انتزاع مكسب أو حق، فيزداد الأمل في إمكانية حياة أفضل وتزداد الثقة في خيار المقاومة وتزداد أعداد المقاومين.


أنا الناس - الرعاع - الحشود - الكتل.

هل تعلم أنَّ كل عمل عظيم في الدنيا تم من خلالي؟

أنا العامل، المخترع، صانع طعام وملابس العالم.

أنا الجمهور الذي يشهد التاريخ.

أنا بذور الأرض. أنا مرج سيصمد أمام الكثير من الحرث. تمر فوقي العواصف الرهيبة. وأُنسى. يتم استنزاف وإهدار أفضل ما لدي. وأُنسى. يأتيني كل شيء ما عدا الموت ويجعلني أعمل وأتخلى عما لدي. وأُنسى.

أزمجر أحيانًا وأهتز وأنثر بضع قطرات حمراء ليتذكرها التاريخ. ثم أُنسى(*).


متى تصبح المقاومة خيار الجموع؟

لا أحد يعرف. إنه أحد أسرار الكون. في لحظة سحرية يصبح فعل المقاومة فجأة خيارًا واقعيًا للملايين. كل الهبَّات والانتفاضات والثورات تكون مفاجئة حتى لمن حلموا وبشروا بها لسنوات. وعندما يكون التجمع والتنظيم والتعبير عن الرأي والمظالم جرائم كبرى عقابها الموت والسجن الطويل، تصبح المفاجأة حتمية. مفاجأة يكسر خلالها الناس، الرعاع والحشود والكتل، أغلالهم ويتركون مقاعد المتفرجين التي رضوا بها طويلًا، ويتم استدعاؤهم منها في أحسن الأحوال، كل بضع سنوات، في انتخابات تتفاوت درجة جديتها ونزاهتها.

وفي خضم الواقعية السحرية للثورات، يصبح الناس فجأة، الرعاع والحشود والكتل، فاعلًا أصليًا. يَعُونَ أن قوتهم في تجمعهم، وأنهم بهذا التجمع قادرون على تغيير مصيرهم الذي ظنّوا طويلًا أنه محتوم، ويصبح حلم الخلاص الجماعي ممكنًا، "فقط لو ظللنا سويًا".

ونتيجة لهذا اليقين الجديد تواجه الجموع بأكتافها المتلاصقة وصدورها العارية الهراوات والرصاص الحي والدبابات، ويذوب الخوف الغريزي تمامًا. يرسمون صورًا للشجاعة والبسالة وملاحم بطولية، تخلدها الأغاني. ثم، ننسى! ويبقى الحنين لهذه اللحظة التي اتخذ فيها الناس، الرعاع والحشود والكتل، قرار المقاومة الجماعية، وواجهوا بأجسادهم جيوش ماكينة القمع، واستطاعوا ببسالتهم أن يُسقطوا طغاة، هو الحافز الأكبر لاستمرار السعي لاستمرار المقاومة والتمسك بحلم الخلاص الجماعي، والانفراجة الوحيدة التي يمكن من خلالها أن يتمكن، الناس، الرعاع والحشود والكتل، من الوصول.

تسبب مشاهد الملايين في الشوارع الرعب للكثيرين فتجتمع إرادة النظام القديم والنظام الجديد لكبح جماحها

وبنفس المقدار الذي يكون فيه هذا الحنين السبيل الوحيد لوصول أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير والإمكانية الوحيدة لخلاصهم، يكون كابوسًا لآخرين. ليس فقط كابوسًا لأنظمة تحتكر السلطة والمال وأدوات القمع، ولكن أيضًا لأغلب المنادين بالتغيير ومن يتم اعتبارهم ضمن "معسكر الثورة".

يسعى كثيرون ضمن هذا المعسكر في استخدام الناس؛ الرعاع والحشود والكتل، ورقة ضغط عند التنسيق والتفاوض، لأخذ نصيب من كعكة السلطة التي ألقيت على الأرصفة بسبب فعل المقاومة الجماعي. لكن يظل الرعاع والحشود والكتل، بالنسبة للقادة العقلاء والواقعيين، مجرد أداة. أما السلطة، فهي ليست لعبة ليتصور الجهلة والعوام أن لهم فيها رأيًا أو دورًا.

في بداية الثورات يحتفي بها الجميع. لكن عندما يأتي وقت التفاوض، فإن مشاهد الملايين في الشوارع والميادين، ومحاولات التنظيم في الأحياء والقرى، ومحاولة أي جماعة التعبير عن مصالحها والمشاركة في صنع القرار والتحكم في مصيرها، تسبب الرعب للكثيرين. فتجتمع إرادة رموز النظام القديم والرموز الطامعة في النظام الجديد، على ضرورة كبح جماح هذا المارد الذي صار مقتنعًا أن من الواقعية المناداة بالمستحيل.

عندها يُكَوِّن أعداء الأمس حلفًا غير معلن، يعمل بدأب على إعادة إخضاع المارد قبل أن ينفلت عياره ويصبح التحكم فيه مستحيلًا. وتصبح هذه هي المهمة المُعرّفة، بالألف واللام، للحلف الجديد. ويُغني جميع من فيه لحن الواقعية وضرورة عودة عجلة الإنتاج للدوران.

عندها تصبح المقاومة "فوضى وتخريبًا"، وأي مناداة بحق أو مصلحة مطالب فئوية وأنانية. فلا صوت يعلو على صوت "التفاوض". وعندما ينجح هؤلاء في إعادة الناس، الرعاع والحشود والكتل، لموقعهم "الطبيعي" وإعادة تدجينهم، تكون الثورة قد انهزمت!

احتجاجات في ميدان التحرير يوم 8 أبريل 2011

سأحكي لكم..

سأحكي لكم عن وصول محمد علي للسلطة في سياق ثورة شعبية عبرت عن رفض المصريين عودة الأمور إلى حالها قبل الحملة الفرنسية، عن المملوك البرديسي الذي نجح في 1804 في الانفراد بالسلطة، مؤقتًا، وحاول فرض ضرائب جديدة، فخرج أهالي القاهرة في ثورة عارمة تهتف الهتاف المشهور "إيش تاخد يا برديسي من تفليسي؟"، مما ساعد محمد علي في القضاء على المماليك فيما سُمى بمذبحة المماليك.

عن كيف حاصر في العام التالي أربعون ألفًا من القاهريين، بسلاحهم، القلعةَ لثلاثة شهور، مطالبين بإسقاط الوالي العثماني خورشيد باشا وتعيين محمد على بديلًا له. وكيف تقدم أهالي الحسينية، بقيادة واحد من "أولاد البلد" اسمه حجاج الخضري، والخضري هنا لقب ومهنة، ونظموا أنفسهم في ميليشيا منعت قوات خورشيد باشا من فك الحصار المضروب عليها.

عن كيف تم هذا تحت قيادة أحد العلماء، هو السيد عمر مكرم، الذي أمر بوضع أحد مدافع الحملة الفرنسية على مئذنة جامع السلطان حسن استعدادًا لضرب القلعة إذا لزم الأمر.

وعن توتر العلاقة بين حجاج الخضري ومحمد علي، بعد تولي الأخير للحكم، لاستمرار الخضري في حشد الجموع ضد ما لا يراه في مصلحة المصريين. وعن عمر مكرم، الذي حاول خلق سلطة رقابية شعبية على الوالي الجديد، وهدد بالثورة عليه عندما فرض ضرائب جديدة. وعن نجاح محمد علي في تصفية الثورة وقادتها بالتحالف مع رموز من معسكر الثورة، حتى أصبح الناس يومًا فوجدوا الخضري مشنوقًا على باب حارته، وعمر مكرم منفيًا!


سأحكي لكم أيضًا عن الحركة التي قامت في الجيش بقيادة كل من الأميرالاي أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي، للمطالبة بمساواة الضباط والجنود المصريين مع زملائهم من الأتراك والشراكسة وبعزل عثمان رفقي ناظر الجهادية، مما أسفر عن القبض على الضباط الثلاثة وتقديمهم للمحاكمة العسكرية، فما كان من البكباشي محمد عبيد إلا أن هجم على قصر النيل بجنوده في فبراير/شباط 1881 لتحريرهم، وخرجوا جميعًا متوجهين إلى ميدان عابدين فيما عُرف بمظاهرة عابدين الأولى، التي أرغمت الخديوي على عزل عثمان رفقي وتعيين محمود سامي البارودي بدلًا منه.

عن الثورة الشعبية التي اندلعت نتيجة لهذا الانتصار، وبسبب نمو الوعي وسخط المصريين من سوء الأحوال الاقتصادية، ومن القمع الذي يتعرضون له. وعن ذروة هذه الثورة في سبتمبر 1881، حين تحركت جميع الوحدات العسكرية المتمركزة في القاهرة إلى ميدان عابدين، بمشاركة من مصريين مدنيين من كل الطوائف، والنجاح في عزل الوزارة وإنشاء مجلس نواب وزيادة عدد الجيش، وإعلان الدستور.

عن مهاجمة قوات الاحتلال البريطاني للإسكندرية، ووضع الخديوي نفسه تحت حمايتهم وصدور أوامره لعرابي بالكف عن الاستعدادات الحربية. عن الجمعية العمومية التي تكونت، بطريقة شبه تلقائية، من رؤساء الطوائف الدينية وكبار الموظفين والعسكريين وأعضاء مجلس شورى النواب، وقررت عدم تنفيذ أوامر الخديوي ونظّاره.

وعن تجمع الرجال بأسلحتهم والخيول والمؤن من القرى والعزب والكفور للدفاع عن البلاد، وتشكيل مجلس عرفي بديلًا عن مجلس الوزراء يصبح هو السلطة التنفيذية.

معركة التل الكبير، لوحة للفنان الفرنسي هنري لويس دوبراي

وعن الفلاحين الذين امتنعوا عن سداد الإيجارات لكبار الملاك واحتلوا الأرض. وعن نزع ملكيات عائلات من كبار ملاك الأراضي الزراعية بسبب انحيازهم للإنجليز وقت الحرب. وعن ذلك الجناح في قيادة الثورة، الذي طالب بعزل الخديوي وإعلان الجمهورية بقيادة محمد عبيد ومحمود سامي البارودي. وعن محمد عبيد، ومعه ألفا مقاتل، رفضوا الاستسلام وقاتلوا جميعًا حتى الموت في معركة التل الكبير.

وعن كيفية العصف بالثورة نتيجة التناقض بين جذريتها ومهادنة المجلس العرفي، الذي قال بعض أعضائه لعرابي "نحن لنا مصالح في هذه البلد التي تقوم أنت بتخريبها"، وقالوا ردًا على المقاومة الشعبية التي تتشكل "نحن لا نأمن على أنفسنا من تسليح الرعاع". وعن يعقوب سامي الذي ترأس المجلس، وكان يلعب دورًا مزدوجًا؛ يقبع في معسكر الثورة، ويطلع الخديوي على كل تفاصيل ما يحدث، وقام بدور أساسي في إقناع حملة كفر الدوار بالتسليم.

وعن ديليسبس الذي رفض ردم قناة السويس بحجة أنها حيادية، ولكنه سمح للإنجليز بالمرور فيها. وعن تواطؤ بعض البدو والضباط مع قوات الاحتلال. عن السلطان العثماني الذي كفّر عرابي وأعلن أنه ومن معه خارجون عن الشرع. عن نهاية ثورة عظيمة بنفي أو عزل قادتها، ثم احتلال الإنجليز لمصر!


وسأحكي لكم عمَّا عاناه المصريون أثناء الحرب العالمية الأولى مع فرض الحماية البريطانية. عن مصادرة مواشي ومحاصيل الفلاحين وإجبارهم على زراعة ما يتناسب مع متطلبات الحرب. عن تجنيد مئات الآلاف منهم قسريًا فيما سُمي بـ"فرقة العمل المصرية" التي استخدمت في الأعمال المعاونة وراء خطوط القتال. وعن ارتفاع الأسعار ونقص السلع ومظاهرات العاطلين ومواكب الجائعين. عن منع الوظائف العليا عن المصريين وقصرها على الإنجليز.

وعن إلغاء الدستور وإعلان الأحكام العرفية ومراقبة الصحف وإجهاض النشاط النقابي وتجريم التجمهر والإضراب. وعن الوفد الذي شكله أعضاء الجمعية التشريعية، منهم سعد زغلول، ليمثل مصر في مؤتمر الصلح بباريس ويطالب بالاستقلال عن طريق التفاوض.

وعن حركة جمع التوكيلات لأعضاء الوفد التي تحولت لحركة شعبية ضمت كل الفئات والطبقات. وعن اعتقال سعد زغلول وثلاثة من أعضاء الوفد ونفيهم إلى مالطا. عن عبد العزيز فهمي الذي قال لوفد الطلبة، الذين قابلوه في اليوم التالي لنفي سعد زغلول ورفاقه "إنكم تلعبون بالنار دعونا نعمل في هدوء ولا تزيدوا النار اشتعالًا". فلم يأبه به الطلبة وأشعلوا شرارة الثورة بإضرابهم وتظاهرهم.

الثورة ليست حربًا ضد النظام القديم فحسب لكن أيضًا ضد بعض من يقبعون في معسكرها

عن تظاهر النساء واعتصام المسيحيين في الكنيسة المُرقسية الكبرى، وإضراب الموظفين والمحامين وسائقي التاكسي والعمال وإتلاف محولات حركة القطارات وقطع خطوط السكك الحديدية.

عن سكان الأحياء الفقيرة الذين نظموا لجانًا شعبيةً وأقاموا الحواجز والمتاريس وحفروا الخنادق لمواجهة القوات البريطانية وقوات الشرطة، واعتدائهم على المحلات التجارية وممتلكات الأجانب وتدمير مركبات الترام وإتلاف خطوط الهاتف. ومهاجمة أقسام ومراكز الشرطة والاستيلاء على السلاح وإطلاق سراح المعتقلين. ومهاجمة البدو للقوات البريطانية وقوات الشرطة عندما اعتدت على المتظاهرين. عن زفتى التي أعلنت الانفصال والجمهورية.

وعن أعضاء الوفد الذين ظلوا في مصر وأرسلوا برقيات إلى السلطان فؤاد الأول يؤكدون أن لا صلة لهم بأعمال الجماهير، ووجهوا نداءً إلى المصريين يحذرونهم من الآثار المترتبة على قطع خطوط السكك الحديدية ومهاجمة الممتلكات، ويستحلفونهم باسم مصلحة الوطن تجنب كل الاعتداءات حتى يستطيع الذين يخدمون الوطن بـ"الطرق المشروعة" المضي قدمًا في مساعيهم، دون أي اهتمام من "زعماء الأمة" بالعنف الذي مُورس ضد الثوار!

وعن سفر سعد زغلول ورفاقه إلى باريس وفشلهم في مسعاهم، ما شكّل ضربة كبرى لنهج التفاوض، لم تُثنِ الوفد عن الاستمرار في المفاوضات العقيمة لسنوات طويلة. وعن المقاومة السلبية بامتناع السياسيين المصريين عن تشكيل الوزارة. والمقاطعة الشعبية للشركات الإنجليزية.

وعن جني الثمار وإنهاء الحماية ونشأة حزب الوفد وأحزاب الأقليات وإعلان استقلال شكلي وإعلان الدستور والبرلمان وتشكيل أول حكومة منتخبة هي حكومة الوفد. وعن التضحية بأعضاء جماعة اليد السوداء، ذراع الوفد السرية، التي كانت وراء اغتيال سياسيين إنجليز، والصمت أمام تشويه سمعتهم ونفيهم وقتلهم. وعن سعي حكومة الوفد للسيطرة على الحركة النقابية وحظر الحزب الشيوعي واعتقال ومحاكمة كوادره ونفيهم لروسيا!


عندما أتعلّم، أنا، الناس، أن أتذكر،

عندما أستخدم، أنا، الناس، دروس الأمس ولا أنسى من سرقني العام الماضي، والذي استغفلني واستخدمني لمصلحته الخاصة - فلن يجرؤ متحدث في العالم على نطق اسمي: "أنا الناس" بنبرة احتقار أو بابتسامة سخرية.

عندئذ سنصل نحن - الرعاع - الحشود - الكتل(*).


ثورة مبتورة من داخلها

في مراجعاته التي نشرتها المنصة مطلع هذا العام، يقول السياسي زياد العليمي "لم تنجح ثورة يناير في تحقيق أحلام شعبنا بسبب تآمر المنتفعين من الفساد والاستبداد، لكن يتحمل أبناؤها الجزء الأكبر من هذا الإخفاق، لعجزهم عن حماية حلمهم!".

وأنا أقول: لا يا زياد. طبعا أخطأ الحالمون لكن ليس هذا سبب الإخفاق. فالثورة حرب لا يخوضها الحالمون في مواجهة النظام القديم فحسب، ولكن أيضًا في مواجهة من يقبع في "معسكر الثورة"، ولا يرى في حركة الناس، الرعاع والحشود والكتل، سوى ورقة ضغط، ويتحالف مع قوى من النظام القديم لإخماد هذه الحركة.

ثورتنا بترت، عندما نجح هذا الحلف في مسعاه!


مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.