imdb
فاتن حمامة تؤدي دور عاملة التراحيل عزيزة في فيلم الحرام، عن رواية يوسف إدريس وإخراج هنري بركات (1965)

"سوق الرجالة" والنساء أيضًا

منشور السبت 2 أغسطس 2025

خلال رحلة السفر إلى القاهرة سواء عبر الطريق الصحراوي أو الزراعي، كنت أصادفُ عرباتِ النصف نقل وهي تخرج من مدقات جانبية لا تُرى، مُحمَّلةً بالفتيات الصغيرات بفساتينهن المبهجة بألوانها، في طريقها لقريةٍ ما من أجل جني أحد المحاصيل الموسمية.

كان غناء الفتيات الجماعي والفرحة التي تقفز مع تموجهن في مقطورة العربة تمنح تلك الدقائق التي يسرن فيها بجوارنا، حِسًّا شجيًّا رغم الخطر المتربص بهن.

لكنْ الخطر داهمهن بالفعل في حادث الطريق الدائري السريع في منوف، الذي راحت ضحيته 18 فتاة أعمارهن بين 14 و22 وهنَّ في طريقهنَّ لمزرعة عنب تبعد 100 كيلومتر عن قريتهن، ليعملن على جمعه للتصدير.

كتائب من عاملات اليومية يخرجن من بيوتهن في الصباح الباكر ويعدن في المساء، ويحملن معهن الريف وأغاني الغربة، كما كان يفعل آباؤهم وأجدادهم من عمال التراحيل.

بدأت فتيات العنب يومهن كالمعتاد في السادسة والنصف صباحًا. مررن في طريقهن على الفرن ليأخذن إفطارهن من القُرص، أو الفطير، أو الفينو، "زوادة" السفر التي سيأكلنها في العربة. في هذا اليوم لم يلحقن بهذا الطقس المحبب، الذي قد يصاحبه غناء، كما يحدث دائمًا على الطرق السريعة، كأنه مصل ضد الأخطار. وقع الحادث في السابعة صباحًا، بمجرد أن لمست العربة الطريق السريع.

زوادة السفر

غلاف كتاب عمال التراحيل، عطية الصيرفي، دار الثقافة الجديدة، سلسلة قضايا اقتصادية، 1975

كانت زوادة سفر الآباء والأجداد عبارة عن "جوال عيش بتّاو مصنوع من الذرة المخلوطة بالحلبة، ومحلبة المش والمخلل"، كما يذكر الكاتب عطية الصيرفي في كتابه عمال التراحيل.

يذكر الصيرفي واقعة فارقة عن الفيلق المصري من الفلاحين الذين اختطفوا من قراهم للعمل خارج مصر في تقديم الخدمات اللوجيستية للقوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى.

"تعرض هؤلاء الفلاحون باستمرار لعلاقات عمل غير إنسانية، مثل القانون الذي طبقته السلطات البريطانية في بلادنا أيام الحرب العالمية الأولى، واستطاعت بفضله تسخير قرابة مليون فلاح مصري أو أكثر، مات الكثير منهم بعيدًا عن أرض مصر".

المؤرخ الأمريكي كايل أندرسون، المتخصص في التاريخ الاستعماري في مصر، قدَّر في كتابه "فرقة العمال المصرية: العرق والفضاء والمكان في الحرب العالمية الأولى" عدد هذا الفيلق بنحو نصف مليون فلاح "قُتل ومات منهم ما لا يقل عن 20 ألفًا".

الحرام

يعرِّف عطية الصيرفي عمال التراحيل بأنهم من "ينتسبون اجتماعيًا إلى كادحي الريف وفقرائه وأُجرائه الزراعيين ويمارسون فلاحة الأرض وزراعتها، وكذلك أشغال الإنشاءات وأعمال الحفر والردم، بواسطة مقاول الأنفار. أعمالهم موسمية لذا تسيطر عليهم البطالة، ارتضوا حياة الغربة الاجتماعية التي تبرزها مشاعرهم المتقاربة من مشاعر الغجر والبدو الرُّحل".

لا ذاكرة تحفظ مشاعر الغربة في الريف أكثر من الأغاني التي تحنو على النفس، وتعيد ملء الفراغ بسبب الفقر والإزاحة عن المكان، وهشاشة إحساسهم بأنفسهم، فالرحلة والترحل ليسا اختيارًا، بل هما مشوبان بقهر خفي للمغادرة.

تدور أحداث رواية الحرام ليوسف أدريس حول عزيزة عاملة التراحيل التي تلد طفلًا وتتركه حيث ولدته، ليعثر عليه أهالي العزبة ميتًا على جانب من جسر الترعة.

أصبح سر هذا اللقيط القنبلة التي أُلقيت داخل مجتمع أهل العزبة المغلق، وكشفت عن شكوك نسائها وتجاوزات ولعب ذيل رجالها مع النساء الغريبات. مساحة من التسيب والمخاوف المخفية تنتظر من يوقظها.

كشف هذا الطفل اللقيط الوجه الآخر لأهل العزبة.

يلعب عمال التراحيل، بالنسبة لأهل العزبة، دور البرابرة في قصيدة "في انتظار البرابرة" للشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، عن انتظار مجيء "البرابرة" وتأثير ذلك على المجتمع. وكيف أن هذا الانتظار يغيّر من سلوكيات الناس. فعمال التراحيل يمثلون الآخر العدو الذي يحتقره أهل العزبة، ويخشون منه،  لأنهم يحملون كل الصفات غير الطيبة، ويعلقون عليهم أي سوء يحيق بهم.

ولكن في النهاية تحدث المفاجأة، يُعاد النظر في علاقتهم بالغريب، ويتعاطف أهل العزبة مع عمال التراحيل "الغرابوة"، كما يطلقون عليهم، بسبب الطفل ووفاة أمه. فهذا اللقيط ابن الحرام جعل القرية تعيد النظر في مفهومه، وفي إرث المحرمات لعزبتهم المنغلقة على نفسها.

وانطلقت عقائر الأنفار

يصف يوسف إدريس كيف يُجمَع الأنفار كأنهم بضاعة لا روح فيها؛ كيف يسافر فكري أفندي مفتش العزبة لقرى الدلتا في المنوفية والغربية، ليأتي بالأنفار لتنقية اللطع يدويًا من النباتات المصابة. يلتف أهل القرية حوله بالمئات "يسيرون أمامه، وخلفه وعلى جانبيه ويرمقونه في توله وأمل وكأن لديه أجولة أعمار سيفرقها عليهم بعد حين".

يوسف إدريس

نتابع عزيزة، بطلة الرواية، وهي تركب مع الأنفار وتغني معهم، بعد أن وقع عليها الاختيار بدون زوجها المريض. فهي مجبرة على أن تذهب مع هذه الترحيلة وإلا هلكت عائلتها المكونة من زوجها المريض وأولادها الثلاثة.

"وامتلأت العربة، وزمر السائق وانطلقت، وانطلقت معها عقائر الأنفار تغني للمحبوب وللغربة وتعتب على الزمان. والغريب أن عزيزة بعد حشرجة بكاء أول الأمر، ثم صمت، بدأت تُغني معهم، وشيئًا فشيئًا بدأت تحس أنها تغادر أرض الفقر والعلل وجذور البطاطا، وأنها تدخل في الحياة المضمونة الجديدة. واشتَغلت عزيزة ونَسيت كل شيء".

رائحة الترحيلة

تصل العربات للعزبة تصحبها "سحابات غبار ضخمة"، والغناء مصل الترحيلة الأليف كأنهم ذاهبون في إجازة طويلة؛ "يصبح الصباح وتأتي خمس من عربات النقل الكبيرة ذات التصاريح الخاصة بنقل الأنفار 'مثلها مثل التصاريح بنقل أجولة الأرز أو المواشي'، تحمل كل منها أكثر من مائة نفر من الرجال والبنات والنساء والأطفال، وتحمل أيضًا صررهم وقففهم وقد ملؤوها لآخرها بزوادة العيش وزلع المش والجبنة، تحملهم في كتلة ضخمة متزاحمة لا تكاد تميز فيها الرجل من المرأة، ولا الولد من البلاصي، ومع انطلاق العربات تنطلق الحناجر المتلاصقة، المحشورة تغني وتضحك ويصل زعيقها الفرحان إلى عنان السماء".

و"قبل شروق الشمس لليوم التالي تطفح في الجو رائحة المش وقد فتحت أوانيه"، وهي الرائحة التي تنسب لعمال التراحيل، أو البرابرة القادمين.

يتكرر انتشار الرائحة أيضًا عند الغروب لكن هذه المرة مخلوطة بروائح أهل العزبة، الذين يحبون أكل السمك "تختلط رائحة الزيت المقدوح برائحة السمك المشوي برائحة الجبنة القديمة والعدس والبصل، الصابون الفنيك، تختلط الروائح في مزيج نافذ غريب مكونة رائحة خاصة، من شدة دلالتها ونفاذها يسميها الفلاحون رائحة الترحيلة".

سوق الرجالة

في الفيلم التسجيلي سوق الرجالة للمخرج حسام علي، يتحرك عمال التراحيل في فضاء مديني مختلف عن الريف، يتحلقون حول مقلاة الطعمية، يخطفون "زوادة" النهار السريعة من حبات الطعمية داخل رغيف بلدي. يتراصون في الأركان، المقاهي، والأرصفة، تحت الكباري، وأمام كل منهم عدة الشغل، يعرضون قوّتهم كي تلفت لها عين المقاول.

نرى الجلابيب المعلقة في غرف النوم، فارغة من أرواحهم، على مسامير رشقت صدفة، أو هي ميراث تلك الغرف المقبضة التي حملت جدرانها صمت شكوى آلاف العمال الذين مروا بها.

في تلك الغرفة قليلة الإضاءة، كأننا في معبد للشقاء، حيث تدور الكاميرا حول وجوههم الشاحبة، يتناولون وجبة طعامهم الخشنة من الجبن القديمة، والبصل الأخضر والزيتون المخلل والباذنجان المقلي والبطاطس المقلية والطعمية وكمية كبيرة من الأرغفة الساخنة.

https://youtu.be/szwq-xsCGO8?si=6iWzE2wJ8dz8VBKw

حراجي القط.. أشهر عامل ترحيلة

أمام الأراضي الفضاء في القاهرة والإسكندرية، كانوا يتحلقون حول الغنيمة يعرضون بضاعتهم بسخاء، كنت لعقد مضى أسمع صوت غنائهم، رجالًا ونساءً، لكنه اختفى الآن. يتحول الغناء إلى ذاكرة جمعية مسافرة، تعيدهم لمكانهم القديم داخل وخارج نفوسهم حيث بدأوا التغريبة. تشعبت ظروف العمل، وامتدت المدن إلى الصحراء، وامتدت صلافة المدن لتعمر قصورًا وحصونا في هذه الصحراء، ولم تعد حقول القطن الرحيمة هى مرقد الذاكرة.

تبيض جلودهم من تراكم طبقات الجير والتراب والأسمنت، يفقد الوجه وضوحه، تظهر منه نسخة أخرى شاحبة مخلوطة بلون أبيض جيرى مع تسلخات القدمين المغموسين في الحذاء الجلدي المغموس في صبة الخرسانة، كما يظهر في الفيلم. لقد تغيروا خلال الرحلة، وتغير لون جلودهم، لذا تبقى بلادهم ليست فقط مكان الولادة، ولكن المكان الذي يحفظ لهم نسخة حقيقية من هذه الوجوه، والغناء ما هو إلا صورته المسافرة.

يمتلك الغناء شفرةً تصعد بالقوة من أعماق الإنسان، من سحر كامن في اللغة، وسط هذا السحر تحضر المعجزة، تظهر تلك القوة الجسمانية الكامنة في أعماقهم، تجعلهم يساوون الآلة فى قوتها، وينتعون كل الأحجار.

يطول زمن الرحلة، قد تأخذ سنوات، مثل رحلة حراجي القط العامل في السد العالي، أشهر عامل ترحيلة مصري. ولكن حراجي يحول اغترابه إلى رحلة استنارة يكتسب فيها وعيًا جديدًا، ويعيد تقليب الكون داخل عقله، ويرى حدودًا أوسع من كونه القديم الكائن في جبلاية الفار، حيث تعيش فاطنة زوجته وعزيزة وعيد ولداه، لارتباطه بمشروع كبير كالسد العالي.

يقرر حراجي أن يتعبد في السد، ويسير وراءه أينما يذهب، مهما كانت تضحيات قراره، ولكن في رحلة وجده، يترك وراءه، لزوجته ولولديه، ذاكرة جديدة؛ أجمل رسائل لعامل ترحيله مصري.

في نهاية رواية الحرام، تنهي ثورة 1952 ظاهرة عمال التراحيل، ولكن أثرها يظل باقيًا في الأرض عبر هذه الشجرة التي نبتت على جانب الخليج من عود الصفصاف الذي وضعته الأم عزيزة في فمها قبل موتها بسبب حمى النفاس. حيث يشق العود طريقه في الطين ليسجل هذه الواقعة ويخلدها بطريقته، لينبت شجرة أصبح أهل القرية الذين لم يسمعوا عن حكاية الأم وابنها من قبل يتباركون بها.

تحولت رحلة ألم عزيزة إلى عزاء ودواء.