هل يكتسب اللوبي الصهيوني قوته وكفاءته فقط من دوائره الناشطة في الولايات المتحدة أو مراكز دعمه الكبرى في سوق المال والإعلام دوليًا؟ تساؤل واجب في اللحظة الراهنة، رغم ابتعاده قليلًا عن التطورات بين غزة ولبنان وإيران.
فمع بلوغ الجرائم الإسرائيلية مستوىً غير مسبوقٍ تخطَّى كلَّ الخطوط الحمراء ودمَّر كلَّ قواعد الاشتباك المتعارف عليها منذ إنشاء الأمم المتحدة، اكتسبت القضية الفلسطينية زخمًا شعبيًا وسياسيًا هائلًا، تجلَّى في المظاهرات المستمرة دون انقطاع في العديد من المدن الأوروبية واللاتينية والأمريكية، وفي التحركات القانونية والدبلوماسية الفعالة لعشرات دول الجنوب، وأسفرت عن صدور قرارات تاريخية من محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة، اتفقت جميعًا على ضرورة إنشاء دولة فلسطين المستقلة وحماية شعبها الصامد.
مذهلٌ بحقٍّ أنَّ هذا التوافق الأممي الواسع لم يوقف مجازرَ يشاهدها مليارات البشر على الهواء، بسبب الڤيتو الأمريكي. لكنْ في خلفية المشهد سببٌ آخر ربما له تأثيره؛ هو أن الجهود التضامنية تمضي في مسارات متفرقة، مما يفقدها التراكم والتكثيف الذي يميِّز أداء اللوبي الصهيوني، باستراتيجياته الدعائية القديمة التي لا تزال صالحةً لتوجيه الرأي العام.
فمن خلال الهجوم الشخصي والتنميط والكذب والتكرار والإيحاء بالأخطار المزيفة، سرًّا وجهرًا، ينجح الصهاينة في صرف النظر عن جوهر القضايا. ثم تكمن البراعة في اختيار المنصات المناسبة بصورة متزامنة، وبناء سرديات تشمل كلَّ جوانب القضية وأطرافها، وتكثيف بثها بالتوازي في مختلف الدوائر ذات التأثير.
مثال عمليٌّ معاصر: لا يكفي الدفاع القانوني عن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت والهجوم على طلب الاعتقال الصادر من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان.
الأهم الضغط على حكومات الدول الأكثر دعمًا للأمم المتحدة كالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، لتنخرط في القضية وتُعطَّلها، ثم استغلال الإعلام البريطاني، بلد خان، للطعن في نزاهته ونزاهة المحامين الذين استعان بهم في مرحلة التحقيقات الأولية مثل أمل كلوني.
وبعد استشهاد يحيى السنوار وإسماعيل هنية، ومزاعم إسرائيل بقتل محمد الضيف، وهم قادة حماس الثلاثة المطلوبون في القضية، بدأت مرحلة جديدة بتشويه سمعة خان واتهامه بالتحرش الجنسي من خلال وسائل الإعلام ذاتها.
أين العقل المركزي للقضية؟
في المقابل؛ يبذل أنصار فلسطين ومناهضو احتلال الإبادة جهودًا هائلة في الشهور الأخيرة، لإبقاء القضية حيةً في مواجهة الزيف والتضليل، ولكن في غياب عقل مركزيٍّ واحد وظيفته جمع الخيوط التضامنية وتطويرها بالتكثيف والتراكم والتوجيه في مختلف المساحات.
الطبيعي أن يكون هذا العقل المركزيُّ عربيًا أو فلسطينيًا. وفي وضع مثالي حالم، يُنتظر هذا الدور من جامعة الدول العربية. ولنتذكر كيف كان الدفاع عن فلسطين من الأهداف المباشرة لإنشائها قبل ثمانين عامًا.
لكننا في الواقع متخلفون عن مواكبة تحركات أنصار القضية عالميًا، ولا تلعب أيُّ دولةٍ عربيةٍ أو إسلاميةٍ دورًا رائدًا في جهود القانون أو الدبلوماسية ولا في محاولات الضغط الاقتصادي.
كما أننا غافلون عن جهود مهمة لا يعيرها إعلامنا ولا دبلوماسيتنا أدنى اهتمام، رغم ضرورة التضامن معها والاقتداء بها، على رأسها المواقف النرويجية المنطلقة من دوافعَ إنسانيةٍ بحتةٍ، ورغبة في تكريس موقف سياسي مستقل له احترامه.
الشمال يتذكَّر
لا يعرف كثير من العرب اليوم عن النرويج الثرية إلّا أنها بلد هداف الدوري الإنجليزي إيرلينج هالاند!
لكن قد تكون مفاجأة لكثيرين أن تلك الدولة، التي اعتُبرت لعقود من أقرب أصدقاء إسرائيل، أصدرت منذ خمسة أيام بيانًا تنصح فيه الشركات المحلية بـ"عدم الانخراط في التعاون التجاري الذي يخدم استمرار الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني لفلسطين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وإنشاء المستوطنات وبقائها بالمخالفة للفتوى الصادرة من محكمة العدل الدولية في يوليو/تموز الماضي".
بلغةٍ ماهرةٍ، تجاوز البيان النصيحة إلى التحذير من مخالفة قانون الشفافية النرويجي والمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة إذا ما ارتبطت الشركات بجهات أو أطراف إسرائيلية تتورط فيما يُمارس من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني "مما تكون له آثار قانونية واقتصادية على الشركة وسمعتها".
وسبق أن وجهت الحكومة النرويجية بيانًا بالنصيحة ذاتها بلهجة أخف في مارس/آذار الماضي، قبل صدور فتوى محكمة العدل الدولية. وآنذاك استبق وزير الخارجية إسبن بارث إيدي الهجوم الإسرائيلي المتوقع بقوله إن "مجتمع الأعمال النرويجي طلب إرشادات استشارية منا منعًا للانخراط في أي أنشطة تمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان".
وفي خضمِّ انتقادها المستمر للممارسات الإسرائيلية، أعلنت النرويج في مايو/أيار الماضي اعترافها بدولة فلسطين، معلنةً أن "السلام في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق إلا بحل الدولتين"، واستدعت نجاحها الدبلوماسي الأبرز على مدى تاريخها بمساعدة واشنطن على إبرام اتفاقيات أوسلو بين السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وحكومة إسحق رابين.
"أوسلو" أيضًا تؤدي إلى "روما"
بعد ثلاثة عقود من التنصل الأمريكي والحيل الإسرائيلية للنكوص وتفريغها من مضمونها؛ ظلَّت النرويج بمثابة الأم الشرعية لتلك الاتفاقيات والمدافعة الأبرز عن قابليتها للتطبيق، وعن تفسيرها الصحيح أيضًا.
فتوجهت أوسلو إلى المحكمة الجنائية الدولية في أغسطس/آب الماضي بواحدة من أقوى المذكرات الداعمة لطلب اعتقال نتنياهو وجالانت، تتصدى فيها لمن ادعوا أن اتفاقيات أوسلو تحظر استفادة الفلسطينيين من نظام روما الأساسي للمحكمة وتحصّن المواطنين الإسرائيليين، مؤكدة أنَّ على المحكمة ممارسة اختصاصها على فلسطين أيًّا كانت جنسية المتهمين، وأنَّ اتفاقية أوسلو لا تحدُّ من اختصاص المحكمة بنظر الوضع في فلسطين منذ انضمامها إلى "روما".
ولأنَّ إسرائيل تعي جيدًا ما يمثله هذا الرأي من حجية وتأثير، قررت بعد 72 ساعة فقط إجبار ممثلي النرويج الدبلوماسيين لدى السلطة الفلسطينية على الرحيل من رام الله، وألغت الاتفاق المعروف بـ"حساب العهدة" الذي كان يتضمن تحويل أموال السلطة الفلسطينية إلى النرويج أولًا كوسيط.
لكنَّ التصعيد الإسرائيلي لم يمنع أوسلو من مواصلة خطابها الدبلوماسي القوي وإجراءاتها اللافتة.
فمنذ ثلاثة أيام أعلنت شركة ستروبراند النرويجية لإدارة الأصول انسحابها من شركة بالانتير الأمريكية الشهيرة في مجال تكنولوجيا البيانات، بسبب المخاوف من تعاونها مع إسرائيل في مجال التحليل العسكري وتوفير نماذج الذكاء الاصطناعي للاستخدام في الحروب.
وهذا صندوق الثروة السيادي النرويجي، الأكبر من نوعه في العالم بقيمة 1.7 تريليون دولار، يراجع الشهر الماضي موقف استثماراته في إسرائيل التي تبلغ 1.41 مليار دولار أمريكي موزعة على 77 شركة، ويبحث في ارتباط بعض شركائه بموردي الأسلحة، بهدف تحقيق الالتزام بالقواعد الأخلاقية المقررة من البرلمان النرويجي، من بينها الالتزام بقرارات القضاء الدولي، مما يعني الامتثال لفتوى محكمة العدل الدولية بإنهاء الاحتلال غير المشروع ووقف الاستيطان.
قبله بثلاثة أشهر؛ أعلن أكبر صندوق معاشات في النرويج (KLP) بيع استثماراته في شركة كاتربيلر الأمريكية العملاقة احتجاجًا على استخدام منتجاتها في هدم منازل الفلسطينيين وإنشاء المستوطنات، في قرار أعاد للأذهان خطوة مشابهة اتخذها الصندوق تجاه شركة موتورولا للاتصالات والأجهزة عام 2021 لدعمها إنشاء مستوطنات.
الأيام تكشف الحقائق
في عام 2022 استوردت إسرائيل من النرويج سلعًا بنحو 430 مليون دولار، وصدّرت لها سلعًا وخدمات وخبرات في مجالات زراعية وتقنية مختلفة بقيمة 120 مليون دولار، وتتشارك الدولتان منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي مشروعات عنوانها الود والتعاون، حيث كان النرويجيون يرون إسرائيل "جنة الأحلام الاشتراكية في الشرق" حسب المؤرخة النرويجية هيلدي ڤاجه المتخصصة في الشأن الإسرائيلي.
تقول ڤاجه إن حكومات اليسار النرويجية المتعاقبة لنحو ثلاثين عامًا بعد الحرب العالمية الثانية دعمت إسرائيل تمامًا، وكانت تنظر إلى العرب المحيطين بالدولة العبرية كـ"جحافل تهدد بقاء كيان يافع فقير". يعكس هذا بالطبع نجاح الآلة الدعائية الإسرائيلية مبكرًا في أوروبا، واستغلال عقدة الهولوكوست وتهجير اليهود، لا سيما وأنَّ النرويج كانت مسرحًا لبعض تلك الممارسات في ظل تواطؤ الحكومة الموالية للنازي.
هكذا يكتب اللوبي الصهيوني التاريخ؛ بضعة سطور لكاتب متوسط الشهرة تصنع أسطورة كاملة
وتعتقد ڤاجه أن تورط إسرائيل في مذابح مثل صبرا وشاتيلا واحتلال لبنان ثم انتشار الصور ومقاطع الفيديو لفظائع الاحتلال، خلقت تعاطفًا نرويجيًا فطريًا مع الفلسطينيين يتصاعد بمرور السنين، كما دعم ذلك ما أفرجت عنه إسرائيل من وثائق أرشيفية كشفت كذب قدر كبير من المعلومات التي راجت في أوروبا الغربية بعد نكبة فلسطين.
جادلت رسالة الدكتوراه والأبحاث التي أنجزتها ڤاجه بين 1996 و2005 بأن "النرويج أفضل صديق أوروبي حظت به تل أبيب"، وأنها قدمت خدمات تفضيلية للإسرائيليين في مفاوضات أوسلو، لكنها ترى اليوم تحولًا كبيرًا لا يعود فقط للحكومة اليسارية بزعامة يوناس جار ستور، بل أيضًا لانكشاف الحقائق أمام الرأي العام والقادة السياسيين.
فزاعة النازية
ونظرًا لفشل إسرائيل الرسمية في وقف المد النرويجي الداعم لفلسطين، بدأ اللوبي الصهيوني، كالمعتاد، في العمل التراكمي والمكثف، فنشرت بعض المعاهد والمنصات الأوروبية والأمريكية مقالات وتعليقات تصف حكومة ستور بـ"المتطرفة، المضطهدة لإسرائيل، المنحازة، المعادية"، زاعمة زوال صلاحية النرويج للعب دور الوسيط أو الميسّر في أي مفاوضات أو علاقات بعد الحرب الحالية.
واختار المؤرخ الأمريكي مايكل روبين، المؤيد المتحمس لنتنياهو، أن يبدأ حملةً لترهيب ستور شخصيًا، من خلال مقارنة خبيثة وغير علمية مع رئيس الوزراء النرويجي المتعاون مع النازي فيدكون كوسلينج، الذي أُعدم عقب استسلام ألمانيا، مشيرًا إلى أن سلوك النرويج حاليًا "تنازل أخلاقي (..) كالذي خلّد بعض الأشخاص لتعاونهم مع الشر".
هكذا يكتب اللوبي الصهيوني التاريخ. تكون البداية ببضعة سطور لكاتب متوسط الشهرة وينتهي الأمر بصناعة أسطورة كاملة. ولعل أحفادنا يقرأون بعد عقودٍ سرديةً تلعب فيها النرويج دور صديقٍ خائنٍ دعم شعبًا إرهابيًا استحق الإبادة!
في زمنٍ شديد الرداءة تقدم النرويج نموذجًا مبدئيًا ليقظة الضمير الإنساني، إلى جانب جنوب إفريقيا وأيرلندا وإسبانيا وبلجيكا وتشيلي والبرازيل ونيكاراجوا وغيرها. نماذج مهمة تستحق منا المتابعة والإشادة والتضامن عبر مختلف المنصات، سعيًا لبلورة المواقف الأخلاقية والبناء عليها.
أما حكومات الدول التي تقول إن "فلسطين هي قضيتها الرئيسية"، فأضعف الإيمان أن تستثمر في تطوير العلاقات مع تلك النماذج، وأن تبادر للتكامل مع مواقفها لتدشين شراكات مستدامة، لعلها تنجح في انتزاع مكانة مستقلة في عالم الغد.