صفحة الأمم المتحدة على فيسبوك
الجمعية العامة للأمم المتحدة، نوفمبر 2023

من يفسد عرض نتنياهو في موقعة نيويورك

منشور الاثنين 1 أيلول/سبتمبر 2025

تُكَرِّسُ الأممُ المتحدةُ دورتَها العاديةَ المقرر انعقادها في نيويورك من 23 إلى 29 سبتمبر/أيلول الجاري للاحتفال بالذكرى الثمانين لإنشاء المنظمة الأممية "من أجل السلام والتنمية وحقوق الإنسان"، غير أن المؤشرات تتجه إلى اندلاع موقعة سياسية خطيرة تواجه الولايات المتحدة وإسرائيل خلالها  أكثر من 140 دولة داعمة للشعب الفلسطيني، من بينها دول غربية كبرى مثل فرنسا وكندا وأستراليا أعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطين، إضافة إلى بريطانيا التي تحدثت عن "اعتراف مشروط".

موقعة مرتقبة لها أهمية استثنائية، تستحق استنفار كل الضمائر الحية والجهود، والتقاط الأفكار المحلِّقة خارج إطار إبراء الذمّة والبيانات الروتينية، التي استنفدت أهدافها المأمولة منذ وقت طويل.

رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو يريد تحويل هذه الدورة إلى إعلان صريح لإعدام فرص إقامة دولة فلسطينية. ومن هذا المنطلق فقط يمكن فهم قرار وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بإلغاء تأشيرات الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأعضاء السلطة الفلسطينية وأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية، لمنعهم من المشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، والاكتفاء بحضور المندوب الدائم لفلسطين في نيويورك.

تعكس هذه الخطوة مدى اتساع وعمق تحكم اللوبي الصهيوني بقيادة نتنياهو في إدارة دونالد ترامب. إذ تهدف في المقام الأول إلى تجريد الدول الغربية الساعية للاعتراف بدولة فلسطين من هذه الورقة السياسية التي أثبتت الشهور الأخيرة أنها "الوحيدة" التي تتحمس الدول الأوروبية لاستخدامها بغية وقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

بأيِّ دولة ستعترفون؟!

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستعرض خريطة لإسرائيل تتضمن الضفة الغربية المحتلة، 4 سبتمبر 2024

تجاهَل ترامب الجهود الأوروبية والعربية خلال المؤتمر الدولي لتنفيذ حل الدولتين برعاية فرنسية سعودية نهاية يوليو/تموز الماضي، كنتيجة واضحة لإصرار نتنياهو على اغتيال الدولة الفلسطينية بتقطيع أوصال الضفة الغربية وعدم قبول أي مخططات لتسليم قطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية ورفضه جميع التصورات التي عُرضت لحلحلة "اليوم التالي" طوال عامين تقريبًا من المفاوضات.

لكن محدودية التحركات العربية والغربية أغرت نتنياهو وترامب بمزيد من التصعيد، كما يستهويهما السقف المنخفض لممارسة إجراءات خشنة كمنع حضور محمود عباس وأعضاء سلطته، ولسان حالهما يقول هازئًا "أيّ دولة ستعترفون بها؟ بأيّ حدود؟ وبأيّ تمثيل؟"، ولا مانع من إضافة حيثيات للقرار على قدر من التفاهة مثل التي ساقها روبيو، من نوعية "ضرورة تنقية مناهج التعليم الفلسطينية من الأفكار الإرهابية".

كان مؤتمر حل الدولتين ذاته نموذجًا لـ"المحدودية وانخفاض السقف"، وأفصحت خطابات الدول المشاركة، وكذلك الإعلان الختامي، عن تباين الأولويات، فبدا وكأنه محاولة ترويجية لإقناع ترامب وشراء الوقت وعرقلة الإبادة وتأجيل "تصفية القضية" كما يحلم نتنياهو، من دون أن يتضمن الإعلان مواقف فارقة لمساندة الشعب الفلسطيني في غزة أو دعم السلطة في الضفة الغربية، وأقصد بذلك قرارات واضحة ضد مصالح الاحتلال الاقتصادية والعسكرية، كالتي أعلنتها دول مجموعة لاهاي في مؤتمر بوجوتا الذي عُقد يوليو/تموز الماضي بحضور ضعيف من العرب والأوروبيين.

هذه الفجوة تؤكد أن هناك حلقة مفقودة تخلخل الجهود التضامنية من الشرق والغرب مع الشعب الفلسطيني، حيث يغيب التنسيق الفعّال بين مجموعات مختلفة من الدول، بأولويات متباينة بحسابات التاريخ والجغرافيا، واستنباط أكبر قدر من المشتركات ومحاولة بناء مواقف موحدة وقوية لإحراج واشنطن وإجبارها على الاستفاقة من حالة "السائرين نيامًا" غير المسبوقة خلف رغبات نتنياهو.

ولا يمكن الرهان على دولة أخرى قبل مصر، ولا على مجموعة أخرى غير المجموعة العربية، للعب هذا الدور بصورة فعّالة.

مسار 1988 الواضح

وإذا كانت الآمال قد تضاءلت إلى نقطة الصفر تقريبًا في اتخاذ موقف عربي مشترك ومؤثر تجاه مستقبل القضية الفلسطينية بينما تتحمل المقاومة وحدها مسؤولية هز ثقة الداخل الإسرائيلي في حكومته، فإن الشهر الحالي وموقعة نيويورك المرتقبة فرصة كبرى لإحياء الدور المصري والعربي على الصعيد الدبلوماسي وتنسيق موقف دولي قوي من أجل وقف الإبادة والمجاعة، وتوسيع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتصدي لمخطط احتلال الضفة وضم غزة.

نستلهم هذه الفرصة من قصة نجاح شهيرة وقعت أحداثها عام 1988 حين قررت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان منع دخول الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أراضيها لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة حول "مسألة فلسطين"، على أثر إعلان منظمة التحرير من الجزائر قيام "دولة فلسطين" فقررت الجمعية العامة بأغلبية ساحقة (154 دولة) نقل الاجتماع إلى جنيف حتى يتمكن عرفات من إلقاء خطابه بلسان الشعب الفلسطيني.

https://youtu.be/Rk1oymqG0Yc?si=m0db93Ulc-s16vfR

كانت هذه المرة الأولى التي ينقل فيها الاجتماع رسالة احتجاج على سلوك الولايات المتحدة، مما شكل صفعة لها في زمن آخر غير ما نعيشه، ولم تنجح المجادلات القانونية في إثناء الجمعية العامة عن قرارها القوي، إذ زعم بعض المتخصصين وقتها أن قرار النقل ينطوي على مخالفات إجرائية، لأن النظام الداخلي يشترط اتخاذ القرار في دورة سابقة.

كما أن واشنطن حاولت شرعنة قرارها ضد عرفات بادعاء أنه إرهابي، وأنها تسمح بوجود بعثة المراقبة الفلسطينية في الأمم المتحدة منذ عام 1975، وهو ما يتردد الآن أيضًا، لكن الجمعية العامة اعتبرت منع عرفات "ظرفًا قهريًا".

لم يهبط وحي التضامن الجماعي على الجمعية العامة، بل كان قرارها السريع الذي صدر خلال أسبوع واحد من القرار الأمريكي ضد عرفات ثمرة جهود دبلوماسية مكثفة، قادتها جامعة الدول العربية ومجموعة دول عدم الانحياز، وفي قلب التحركات كانت مصر والأردن تنشطان.

اعتبرت الدول العربية القرار الأمريكي خرقًا لاتفاقية مقر الأمم المتحدة، وقدمت سريعًا رؤية متكاملة لنقل الجلسة الخاصة بفلسطين إلى جنيف. قدمت المقترح منظمة التحرير رسميًا إلى الجمعية العامة بدعم من القاهرة وعمّان، ومن خلفهما باقي الدول العربية وبالأخص الجزائر والعراق، إضافة إلى عدد كبير من الدول الآسيوية والإفريقية. أخذًا في الاعتبار الدعم المتبادل وقتها بين القضية الفلسطينية وقضية تحرر شعبي جنوب إفريقيا وناميبيا من نظام الفصل العنصري.

التضامن قاعدة للانطلاق

نجح الحشد السياسي داخل الجمعية العامة بفضل نشاط دائم ومستمر، وتوافق على تقسيم العمل بين العواصم العربية، وتواصل على أعلى مستوى مع عدد من المجموعات الرئيسية ذات الثقل العددي والسياسي، إلى حد انتزاع تأييد دول لم تكن لها مواقف داعمة للقضية الفلسطينية من قبل كاليابان التي وصفت القرار بأنه كان "قاسيًا للغاية" رغم تصويتها لصالحه!

واختتم اجتماع جنيف أعماله بمجموعة من القرارات المهمة التي ما زالت آثارها قائمة، أبرزها الاعتراف بإعلان دولة فلسطين الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني، وضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته على أراضيه المحتلة، واستخدام اسم فلسطين بدلًا من منظمة التحرير الفلسطينية داخل الأمم المتحدة.

القرار الأمريكي ليس إجراءً عقابيًا ضد محمود عباس ولا علاقة له بحماس بل تحدٍّ للدعم الدولي للإنسان الفلسطيني

نعم، سياق واقعة 1988 كان مختلفًا، فبالتوازي مع تلك الجهود في نيويورك كان عرفات يسعى جاهدًا لفتح قناة تواصل مباشرة مع واشنطن، الأمر الذي تحقق لاحقًا بعدما أدان في خطابه "الإرهاب" نتيجة اتصالات مكثفة قادتها مصر، وشاركت فيها السويد وفرنسا ودول أخرى، مما دفع إدارة ريجان للموافقة على الاشتراك في اجتماع جنيف منتصف ديسمبر/كانون أول 1988.(*)

لكن الواقع الحالي يزخر بإيجابيات مختلفة يمكن استخدامها في بناء موقف مشترك، ليس فقط لنقل اجتماع الجمعية العامة خارج نيويورك ليتسنى لممثلي دولة فلسطين الحضور والمشاركة، وأيضًا اتخاذ خطوات أكثر فاعلية تطبيقًا لفتاوى محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال الإسرائيلي، واستخدام سلاح الاقتصاد ضد جيش الاحتلال والمستوطنات.

بالعودة إلى عام 1988 سنجد أن ممثلي فلسطين كانوا منفيين خارج أراضيهم، يبحثون عن أي مسار للاعتراف الدولي. أما اليوم فأكثر من 76% من دول العالم تعترف بدولة فلسطين، ومن المنتظر أن يزيد العدد خلال الشهر الحالي.

في عام 1988 كانت واشنطن تشترط إدانة ما تصفه بـ"الإرهاب" أما الآن فقد بات العالم أكثر وعيًا لحقيقة الممارسات الإجرامية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتزيد أرصدة التعاطف مع غزة والمواقف الداعمة من دول كإسبانيا وسلوفينيا والبرازيل وكولومبيا وتشيلي، على الرغم من الاتهامات اليومية للمقاومة بالإرهاب وتحذيرات نتنياهو من مغبة التفريط في أمن "الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، وتراكمت الأحكام والفتاوى القضائية الدولية التي تتفق على أن العقدة في الاحتلال لا الشعب الفلسطيني.

خيارات معركة نيويورك

هنا يطرح البعض آراء حول ضرورة إعلان حماس التخلي عن السلطة أو إعلانها الاستسلام كسبيل وحيد لاتخاذ مواقف دولية واسعة كعام 1988، وفي المقابل يتهم آخرون عرفات بأنه "خان البندقية" عندما قبل "إدانة الإرهاب". والحقيقة أن هذا الجدل لا محل له عندما نتحدث عن الموقف التضامني العالمي المنشود، الذي ينبغي أن تلعب مصر والدول العربية الكبرى دورًا في رسمه لتنتصر القضية الفلسطينية في موقعة نيويورك.

فالقرار الأمريكي الجائر ليس إجراءً عقابيًا ضد محمود عباس ولا علاقة له بحماس، بل هو جزء من مخطط نتنياهو لتحدي الدعم الدولي للإنسان الفلسطيني.

والجعبة الدبلوماسية مليئة بالخيارات. بدءًا من عقد اجتماع بديل للجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف أو مكان آخر بحضور فلسطيني ولإعلان الاعتراف بدولة فلسطين، واتخاذ قرارات عقابية جماعية ضد الإبادة والاستيطان، وحتى استخدام كل وسائل التعبير المتاحة ضد نتنياهو وسرديته الشريرة التي سيلقيها في نيويورك، بالأخص مقاطعة خطابه والاحتجاج ضد اعتلائه منصة الأمم المتحدة وهو مطلوب رسميًا كمتهم بارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية. والهدف الواضح هو تعميق الشعور الإسرائيلي بالعزلة، وتطوير آليات التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإشعار واشنطن بتهديد مصالحها.

لا تشوب ذرّةٌ من التهاون تعاملَ نتنياهو مع موقعة نيويورك، وهكذا يجب أن يكون الأداء المصري والعربي. فالتاريخ لن يُسامحَ في تحويلها إلى فرصة ضائعة، أو مسرح منفرد للإجرام الصهيوني.


(*) للتوسع في هذا الموضوع، راجع مذكرات وزير خارجية مصر الأسبق د. عصمت عبد المجيد زمن الانكسار والانتصار، ومذكرات الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر الأسبق د. نبيل العربي طابا- كامب ديفيد - الجدار العازل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.