imdb
يوسف عثمان ومحمود حميدة في مشهد من فيلم بحب السيما، إخراج أسامة فوزي (2004)

الطفل في السينما.. من المفعول به إلى محرك الأحداث

منشور الأربعاء 10 أيلول/سبتمبر 2025

مع مطلع الألفية الجديدة، تراجعت الصورة القديمة للطفل في السينما المصرية التي ارتبطت بالسلوك الطفولي من غناء ورقص ولسان يتحدث كالكبار في مفارقة للواقع، لصالح صورة قاتمة لكن أكثر واقعية، تُرسم ملامُحها وتُنحت شخصيتُها وفق ظروف اجتماعية كالفقر والفقد والتشدد الديني للأسرة أو بعض أفرادها.

لم يعد ظهور الأطفال مقتصرًا على تصويرهم ضحايا قسوة زوجة الأب، أو غلظة قلب زوج الأم، كما اعتادت السينما تقديمهم في السابق، بل امتدت إلى مناطق جديدة لم تكن مألوفة، لتتواءم مع المرحلة الجديدة وتتناسب مع عقلية مختلفة لم تألفها السينما من قبل.

في بحب السيما (2004) للمخرج أسامة فوزي، نرى الطفل فاعلًا يرفض وصاية والده المتشدد دينيًا، ولديه الخبرة والإحساس الكافيان لاختيار صديقه، وإن اختلفا في العمر والعقيدة كما في يوم الدين (2018) للمخرج أبو بكر شوقي، وفيه يرفض الطفل وصاية الأب الذي تجاهله لسنوات، كما في برا المنهج (2021) لعمرو سلامة.

أصبح الطفل ابنَ عصره، يحمل سماتٍ شخصيةً تدفعه إلى رفض الواقع الذي يعيشه، والبحث عن واقعٍ آخرَ وحياةٍ مختلفةٍ يتمناها ويتوق إليها. ورأيناه شخصيةً محوريةً، تُروى الأحداث من خلالها، باعتباره ذاتًا مستقلةً مركزيةً في الأحداث، تشكّل محورًا رئيسيًا للتطور الدرامي. بات بإمكانه الاعتماد على نفسه واتخاذ القرارات في شؤون حياته واختيار الطريقة المناسبة للعيش، دون وصايةٍ من أحد.

يحسب للسينما المصرية أنها طرحت صورة الطفل بزوايا مختلفة، تجاوبًا مع تطورات المرحلة الجديدة التي يعيشها، من تنوع ثقافي وفضاء مفتوح في ظل ثورة الإنترنت، خصوصًا مع طفرة الإنتاج السينمائي التي بدأت مع صعود النجوم الجدد أواخر القرن الماضي. عندما أقدم المنتجون على تقديم أفلام مختلفة أكثر جرأة في تناولها للمسكوت عنه اجتماعيًا، دون أن يخشوا فشلها وتراجع إيراداتها.

من هنا يمكننا ملاحظة فوارق جوهرية بين صورة الطفل في أفلام السبعينيات، ونظيرتها في الألفية الجديدة. فمع استثناءات، استُخدم الأطفال في سينما السبعينيات رموزًا لشرح أبعاد اجتماعية واقتصادية، تعبِّر عن ضغوط وأعباء الحياة التي يواجهها الآباء. انظر مثلًا إلى أفلام إمبراطورية ميم (1972) لحسين كمال، وعالم عيال عيال (1976) لمحمد عبد العزيز، وأفواه وأرانب (1977) لبركات. أما الاستثناء، فكان في السقا مات (1977) لصلاح أبو سيف، حيث نرى الطفل مثالًا للحيوية والمساعدة في عمل شاق، ولا يمثل عبئًا على أسرته.

https://www.youtube.com/watch?v=1MFkaNOG1QQ

قضية التشدّد الديني

لكن اليوم، اتسعت أكثر رقعة النظر إلى العلاقة بين الطفل والمجتمع، وأصبحت الأفلام المعنية بالطفولة تنظر إلى الطفل باعتباره عقلًا مفكرًا، لا تستطيع أن تلقنه ما تشاء، لأنه نتاج بيئة وثقافة وحضارة مختلفة، نظرًا لتغير المرحلة ومعطياتها.

وأنتجت السينما المصرية في الفترة الأخيرة أفلامًا غير نمطية، تمحورت حول الأطفال وعالمهم الجديد في المرحلة الزمنية الأحدث، مثل فيلمي "بحب السيما"، ولا مؤاخذة (2014) لعمرو سلامة، اللذين غاصا بعيدًا في مناطق لم تطأها السينما المصرية من قبل. تناول الفيلمان العلاقة بالدين وإن من منظورين مختلفين؛ الطفل في كليهما محور الأحداث.

توقف "بحب السيما" أمام المغالاة في التدين وانعكاسها على طفلٍ منفتحٍ على الحياة محبٍّ للفن، دائم الأسئلة بفطرة وعمق طفوليين مفعمين بالحياة، لأب مسيحي متشدد يعيش في رعب دائم بسبب خوفه من عذاب الآخرة رغم عدم اقترافه المعاصي تقريبًا، حتى وإن كان ذلك سيسبب له مشاكل قانونية، مثلما رأيناه يتجاهل نصيحة المحقق القانوني بعدم الاعتراف بضربه الناظر.

عمل الفيلم على رصد المعاناة التي تعيشها الأسرة بسبب التشدد، أما الطفل نعيم (يوسف عثمان) فقد استطاع أن يتعايش بطريقته مع هذا الوضع وأن يحقق بعض المكاسب الصغيرة التي تمثل له الحياة نفسها مثل دخول السينما.

استطاع المخرج أسامة فوزي جذبنا من البداية بفوتو مونتاج عن شبرا، صاحبه في الخلفية عزف موسيقي رقيق. فيما يقدم نعيم (الراوي) نفسه وأسرته وجيرانه بطريقة مبتكرة، أبدع فيها المخرج ومدير التصوير، كما استطاع الماكيير إبراز الملامح المعبرة عن كل شخصية بخبرة كبيرة.

أما "لا مؤاخذة" فيتناول انعكاس التوترات الطائفية على طفل مسيحي في مدرسة كل تلاميذها من المسلمين، يقرر أن يعتمد على نفسه ويواجه الحياة الجديدة بعد وفاة أبيه، ويضطر إلى إخفاء ديانته عندما يظن الجميع أنه مسلم. نتيجة لذلك تنشأ مفارقات درامية عدة.

الفيلم الذي اكتسب أهميته من العمق الفكري في تناوله لبعض القضايا الاجتماعية، بيّن أن المشكلة ليست في الأطفال فحسب، بل لدى الكبار أيضًا. وقد توقف الفيلم عند إشكالية الدين بذكاء، متجاوزًا فكرة العقيدة، باعتبارها مسألة شخصية، إلى العلاقات الإنسانية. 

https://www.youtube.com/watch?v=gMKdG8yUMxQ

سمات الفقد والرفض والتمرد

يطرح فيلم "يوم الدين" بعدًا آخر عن الفقد واليُتم وضرورة الاعتماد على النفس من خلال الشخصيتين المحوريتين (بشاي وأوباما)، اللذين دارت حولهما الأحداث، فالأول تركه أبوه عند باب مستعمرة المجذومين ورحل، وعانى الفقد طوال حياته حتى اعتاد عليه، والآخر طفل يتيم، وجد في شخصية بشاي الأب والصديق فاقترب منه.

خاض الاثنان رحلة بحث عن الأهل والحب والحياة، وعند وصولهما للقرية؛ تأكدا أن الأهل والحب والحياة هناك في المستعمرة، فعادا إليها.

هكذا جاءت صورة الطفل في الألفية الحالية مختلفة في وعيها بهموم الطفل وبحثه الدؤوب عن استقلاله، قاتمة، ترتبط بالتمرد والتشرد واليُتم والبحث عن خلاص، في مواجهة تشدد ديني يواجهه الطفل إما من أسرته أو من محيطه الاجتماعي.

ولا غرو أن تتفق الأفلام على أن يكون العبء الذي يواجهه الطفل، البطل، خلال الأحداث، همًا اجتماعيًا وماديًا، يعبر عن الوجود والحياة ويتسبب في الانتقال إلى بيئة أخرى غير البيئة المعتادة، وهو ما يرتبط، غالبًا، بالأحوال المادية المتردية للوالدين وأثرها على الأسرة.

لم تتوقف السينما عند اليُتم بمعناه المباشر، المألوف، في السينما الكلاسيكية، إذ لم تعدْ معاني الوحدة والفقد والإحساس باليُتم مرتبطة بفقدان أحد الوالدين، فيكفي أن يشعر الطفل بالعزلة الاجتماعية والابتعاد عن والديه رغم وجودهما، ولذلك لم تهتم الأفلام في الآونة الأخيرة بتناول قضية اليُتم وأولاد الشوارع بالصورة التي كانت عليها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.