أرشيف رائد بدار، بإذن خاص لـ المنصة
جرترود لبيب بين زملائها دفعة كلية العلوم جامعة فؤاد الأول

اكتشاف الآنسة جرترود لبيب.. محاولة لتتبع مسيرة ملكة الصحراء الشرقية

منشور الجمعة 31 يناير 2025

كتب علي أمين في رثائها "كنا نقف فى الباخرة بين ركاب الدرجة الثالثة، نرقب شاطئ لندن وهو يبتعد عنا، كنت يومها تلميذًا أدرس الهندسة، وأتمنى أن أكون صحفيًا، وكانت تلميذة تدرس العلوم، وتتمنى أن تكون أول مكتشفة للحديد فى بلادنا، وضحكت من أحلامها، وضحكت من أحلامي. قالت لي في دهشة: صحفي في بلد ليس فيه قرّاء، وقلت لها في دهشة: مكتشفة للحديد في بلد ليس فيه حديد.

كان ذلك منذ أكثر من 30 سنة وكانت الصحف يومها تتعثر، وكانت فكرة العثور على حديد في أسوان مجرد أحلام مجانين! التقيت بها بعد عشر سنوات وقلت لها: لقد وجدت القرّاء.. فهل وجدت أنت الحديد؟

فقالت: سأجد الحديد، سيأتي يوم ترى فيه الحديد يتدفق من أسوان. لم أسخر منها، فقد رأيت في عينيها إيمانًا عجيبًا، وإصرار رجل لا حلم امرأة.

وعاشت جرترود السنوات الطوال بين رمال صحراء أسوان تبحث عن حلمها العجيب، كانت المرأة الوحيدة بين عشرات الرجال الأشداء. كان الرجال يتعبون من الإرهاق والإجهاد، وكانت جرترود لا تتعب، كان الفشل يحطم قلوب الرجال الأشداء، وكان يدفعها أن تحاول مرة أخرى وعشرات المرات. وأخيرًا عثرت جرترود لبيب نسيم على الحديد في أسوان، وعاشت حتى رأت في بلادها مصنعًا من أكبر مصانع الحديد في العالم.

وأمس قرأت اسمها في صفحة الوفيات، لقد ماتت زميلتي في ريعان الشباب، ماتت بعد أن رأت حلم شبابها يتحقق، وبعد أن أثبتت أن المرأة المصرية قادرة على صنع المعجزات، إني أضع اليوم زهرة صغيرة على قبرها، ولكن التاريخ هو الذي سيغطي قبرها الصغير بباقات الورود".  

عبّر الكاتب الراحل عن قيمة العالمة المصرية الدكتورة جرترود لبيب نسيم، في مقاله المنشور في صحيفة الأخبار(1). أما أنا فتعرفت عليها مصادفةً، ففي خريف 2023 كنت في زيارة إلى صديق لإهدائه كتابي منقريوس بن إبراهيم، وحين تركني صديقي مع مكتبته الزاخرة بمدونات قديمة، كان بين ما تصفحت عدد من مجلة المصوّر يعود إلى أربعينيات القرن الماضي.

أدهشني ذلك الريبورتاج المصوّر عن شابة مصرية اكتشفت خام النيكل في أسوان، نشرته المجلة متبوعًا بصورتها في الصحراء، وحمل عنوان "آنسة مصرية تكتشف النيكل". طالعت التفاصيل المُقتضبة بانبهار إذ كانت هذه المعلومات الأولية جديدة عليّ، وبعدها قررت البحث عن الشابة الحسناء التي كانت تُغرد منفردة في زمنها.

نموذج مصري يماثل البريطاني

في 21 أبريل/نيسان 1891 وُلد والدها الدكتور لبيب نسيم، وتعود أصول عائلته إلى قرية بنجا التابعة لمركز طهطا بمحافظة سوهاج جنوب مصر. حصل لبيب على درجة الدكتواره من بريطانيا في الهندسة الجيولوجية، وأثناء وجوده في لندن ارتبط بفتاة بريطانية وتزوجها، وعادا معًا ليستقرا في القاهرة، وأنجب منها أربعة أبناء؛ ألفريد، ورمسيس، ولويس، ثم أصغرهم جرترود. 

تأثر الجيولوجي الأب بالمسيرة المهنية والصيت الواسع الذي حازته المستشرقة وعالمة الآثار البريطانية جرترود مارجريت لوثيان بيل، التي مارست نشاطها في المنطقة العربية وصحاريها ومنها العراق وسوريا. لذلك أطلق اسمها على نجلته التي وُلدت بالقاهرة في 30 يوليو/تموز 1915. وعندما بلغت جرترود الصغيرة 11 عامًا، توفيت العالمة البريطانية سنة 1926. ولكن لبيب كان بالفعل قد رسم مسارًا مشابها لحياة ابنته الوحيدة.

حاز لبيب على ترخيص من الحكومة المصرية لاستخراج أكاسيد الحديد المنتشرة في صحاري وجبال أسوان

افتتن لبيب بجروترود بيل، المُلقبة بـ"ملكة الصحراء"، وقرر أن يقدّم النسخة المصرية الأولى منها، ووجد في ابنته خامة جيدة حيث ورثت نبوغه وفطنته، وكان القاسم المشترك بين جرترود البريطانية ونظيرتها المصرية هو ارتياد الصحاري والاكتشافات وإن اختلف التخصص.

بالمسار الذي رسمه لابنته، غامر نسيم بصناعة نموذج مُغاير في مجتمعه رغم الأصول الأرستقراطية لعائلته، والأعراف المجتمعية التي كان معمولًا بها، فقد منحت النُخبة في ذلك الوقت فرص التعليم العالي في مصر والخارج للفتيات، لكن دون إلحاقهن بأعمال ولو في تخصصاتهن اللاتي درسنها.

لاحقًا، وبعدما أتمت جرترود دراستها، ألحقها لبيب بكلية العلوم قسم الكيمياء والجيولوجيا بجامعة الملك فؤاد الأول وتخرجت بدرجة الشرف الثانية سنة 1939، لتكون الفتاة الأولى في مصر والعالم العربي التي تلتحق بهذا التخصص العلمي، وكان عمرها وقتها 24 عامًا.

كرر الأب الأمر أيضًا مع أشقائها الثلاثة؛ إذ ألحقهم جميعًا بكلية العلوم جامعة الملك فؤاد الأول، القاهرة حاليًا، في تخصصات مختلفة، فأداروا بمهارة مصنع البويات الذي يملكه في ضاحية العباسية شمال شرق القاهرة، لإبقاء أسرار الصنعة قاصرة على ملاّك المصنع.

جيولوجي يُمصّر التعدين

يمكن تأريخ بداية المسيرة المهنية للعالمة المصرية الراحلة جرترود لبيب بعام 1939؛ حين رافقت والدها في رحلاته بمجرد تخرجها، عقب حصوله على أول ترخيص من الحكومة المصرية لاستخراج أكاسيد الحديد المنتشرة في صحاري وجبال أسوان جنوب مصر. وكان لبيب نفسه انكب على دراسة قوانين المناجم في عدة دول، وشارك في إعداد قانون المناجم في مصر سنة 1956، عقب انقلاب الجيش عام 1952، فضلًا عن مؤلفاته في تخصصه، فكان من طلائع رجال التعدين المصريين.

كان الرعيل الأول من العاملين في قطاع التعدين في مصر من الأجانب الذين استعان بهم محمد علي باشا مؤسس الأسرة العلوية ليكونوا أذرعه في التنقيب عن الثروات لتمويل مشروعه في تحديث البلاد؛ واستمر ذلك في فترات لاحقة أثناء حكم خلفاء الباشا لمصر، ومن بين هؤلاء السير برنارد هولمان، والمستر ليتل، ودافيد كروكستون، ووالتر أونتجر، وأدولفو لاورنتي، والكونت دي لافيزون(2).

نشط الجيولوجي لبيب نسيم في منطقتين في مصر؛ شبه جزيرة سيناء وأسوان. ويقول حفيده المهندس رائد عزمي بدار، الابن الوحيد لجرترود، لـ المنصة إن جده أسس شركة خليج السويس للمنجنيز في أوائل أربعينيات القرن الماضي، وأسس ميناءً في منطقة أبو زنيمة بشبه جزيرة سيناء؛ لتصدير الخام الذي يدخل في صناعة الأسلحة إلى الخارج.

وعقب قرارات التأميم التي أقرتها حركة الضباط الأحرار، انتقلت ملكية هذه الشركة إلى الدولة، وتغيّر اسمها إلى شركة سيناء للمنجنيز، وكذلك تأممت معظم أملاك لبيب نسيم وعائلته.

ورغم فقدان ممتلكاتهم، لم تغادر الأسرة إلى بريطانيا، بل فضّلوا البقاء في مصر والاحتفاظ بجنسيتها.

يحكي الحفيد لـ المنصة أن جده كان يُلقب بـ أبو الحديد، لاكتشافه ثلاثة مناجم من خام الحديد فى أسوان، وكان ينقل منها أكاسيد الحديد إلى مصنعه في القاهرة، كما اكتشف منجمًا للذهب في منطقة أبوسويل بالصحراء الشرقية، وهو المنجم ذاته الذي استغله المصريون القدماء، غير أن لبيب وجد صعوبة في استخراج خام الذهب منه، فلم تساعده تقنيات زمنه.

رافقت جرترود والدها في رحلاته الاستكشافية في جنوب أسوان في فصل الشتاء ولمدة 3 أشهر سنويًا، وكانا يخصصانها لجلب العينات، ثم يعودان إلى القاهرة لتحليلها في المعمل الذي أقامه لبيب في منزله، خلال أشهر الصيف، وإذا ما أسفرت نتائج التحاليل عن وجود معادن ما، يعودان معًا إلى الموقع المأخوذة منه لتعميق البحث في المنطقة.

مستشارة لحكومة الملك

قبل الإطاحة بالنظام الملكي بعامين، وتحديدًا في صيف 1950، رافق المُترجم ومدرس الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الراحل وديع فلسطين، صديقه الصحفي قرياقص ميخائيل المُقيم في لندن، في زيارة إلى معمل جرترود بضاحية العباسية شرق القاهرة، بناءً على طلب الأخير الذي كان سمع عنها في الأوساط اللندنية. تكشف هذه الزيارة بعض المعلومات عن الحياة المهنية للعالمة الراحلة(3).

يقول فلسطين "في شارع الطرابيشي ترجّلنا من السيارة عند نهايته، وكان الشارع وقتها ينفتح على الصحراء ولم يكن طريق صلاح سالم قد أنشئ، ولا كان هناك أي عمران في المنطقة. ودخلنا إلى المعمل الخشبي الذي تديره هذه الشابة المتخصصة في الكيمياء والجيولوجيا، وهو عبارة عن غرفة واسعة تحتل المئات من القوارير أرففها من الجهات الأربع".

يتابع "كانت عاكفة على إجراء تجارب على عيّنات من الصخور والرمال التي جمعتها من صحاري مصر، بما فيها صحراء سيناء، وأدرت عيني متأملًا كل تلك القوارير، وسألتها إن كانت تعرف محتوياتها جميعًا، فقالت طبعًا، فهي تحتوي على أحماض ومواد وعناصر ومركبات هي بالنسبة لي مثل الألف والباء. وسألتها عن طبيعة عملها، فقالت إنها تُجري تجارب على مئات العينات من الصخور والرمال والأتربة لاكتشاف خواصها الكاملة ومدى إمكانية الاستفادة منها في أغراض العمران".

أخبرت جرترود ضيفها أنها تعد بحوث مفصلة لتستعين بها الهيئات التي تضطلع بالمشروعات العمرانية وشق الطرق ورصفها وبناء الجسور، حتى لا تستخدم في عملياتها إلا المواد التي تحقق أفضل النتائج من حيث المتانة والقدرة على المقاومة والقابلية المطلقة للتعويل عليها، فلا نسمع بعد ذلك عن انهيار عمارة أو تشقق جسر أو تداعي طريق.

وسألها فلسطين، كيف اكتسبت هذه الخبرة؟ فقالت إن البداية كانت في كلية العلوم، لكنها تفرغت بعد ذلك تفرغًا تامًا لهذا العمل وعكفت على مطالعات واسعة باللغة الإنجليزية حتى صارت تتفرد بهذه الخبرة في وقتها.

الملك يفوز بسبيكة نيكل

في سنة 1940، وبعد تخرجها بسنة واحدة؛ بدأت جرترود الإعداد لرسالة الماجستير بجامعة الملك فؤاد الأول، وأثناء اشتغالها بتحضير الرسالة عكفت على دراسة منجم قديم للنحاس بصحراء أسوان، سبق أن استغله قدماء المصريين كما استغلته شركة إنجليزية في سنة 1904، وكان معروفًا لدى جميع المشتغلين بالمناجم والتعدين أنه منجم نحاس فقط.

اكتشفت جرترود خلال تحليل العينات وجود خام النيكل فعمقت بحثها في المنطقة لتكتشف احتواءها على كميات هائلة من خام النيكل الاستراتيجي.

ونشرت جريدة المصري اليومية، التي كانت تصدر في ثلاثينيات القرن العشرين، عن شركة النشر والأنباء المصرية، خبرًا مقتضبًا عن الاكتشاف دون ذكر أسماء، مفاده أن آنسة مصرية عثرت على منطقة واسعة زاخرة بالحجارة التي تحوي كثيرًا من معدن النيكل.

وذكرت الجريدة أن لبيب أجرى تحليلًا كيمائيًا للعينات. لم يُصرح لبيب نسيم وقتها لمحرر الصحيفة بموقع اكتشاف النيكل، إذ لم يكن حصل بعد على تصريح السلطات المصرية باستغلاله(4).

يُفصح أرشيف الحفيد رائد عزمي بدّار عن الاهتمام الواسع الذي ناله اكتشاف النيكل في مصر، حيث نشرت الصحافة المصرية الناطقة باللغتين الإنجليزية والفرنسية والصحافة الأجنبية أيضًا تقارير مُطولة عن جرترود مُكتشفة الخام، وتحيطنا الصور الفوتوغرافية القديمة والنادرة بالتكريم الذي حظيت به من الملك.

دعا الملك جرترود ووالدها إلى حفل شاي بقصر رأس التين بالإسكندرية بحضور الملكة نازلي، وأحمد محمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي، ومجموعة كبيرة من رجال الحاشية. وأهدت جرترود إلى الملك أول سبيكة من خام النيكل، وكان هذا التكريم هو الأول والأخير الذي حظيت به العالمة الراحلة إلى وقتنا هذا، دون أسباب واضحة.

ولكننا عرفنا المزيد من التفاصيل من خلال مقابلة صحفية أجراها مندوب مطبوعة المُقطم(5) مع جرترود، روت فيها قصة الاكتشاف، وكيف عكفت بعد تخرجها من كلية العلوم قسم الكيمياء على تحليل قطع الحجارة التي ازدحم بها معمل والدها، والتي عثر عليها أثناء طوافه بالصحاري المصرية.

لاحظت جروترود حجرًا لم تكن فيه مميزات تدل على نوع معدنه "إحساسي الداخلي كان يحدثني بأني سأعثر على شيء ثمين من استمرار تحليله، وبعد تجارب عدة عثرت على معدن النيكل بكميات وافرة".

وتابعت "عند عثوري على المعدن كدت أطير فرحًا حتى عاد والدي الأستاذ لبيب نسيم المهندس، فلم يصدق الخبر واشترك معي فى إعادة التحليل حتى تأكد من وجود معدن النيكل في عينات كثيرة مأخوذة من أماكن شتى في الصحراء الشرقية".

إسهامات علمية

ومن ضمن وثائق اكتشاف النيكل، وجدنا مقال علمي مُقيد باسم جرترود لبيب ومؤرخ بسنة 1949، يحتفظ به أرشيف منظمة الجيولوجيين الاقتصاديين/Society Of Economic Geologists، بولاية كولورادو الأمريكية، ومنشور بموقع Economic Geology، توضح جرترود في مقدمته أن الوجود الوحيد لمعدن النيكل في مصر كان رواسب قليلة جرى اكتشافها في جزيرة سانت جونز المعروفة بجزيرة الزبرجد والواقعة بشبه جزيرة رأس بناس جنوب مدينة مرسى علم بمحافظة البحر الأحمر.

إلى أن اكتشفت جرترود في سنة 1940 معدن النيكل في منجم نحاس قديم في أبوسويل بالصحراء الجنوبية الشرقية القريبة من حدود السودان الشمالية، وتحتوي مقدمة ذلك المقال على وصف علمي لطبيعة الخام المكتشف وموقعه الجغرافي وتشابكاته مع المعادن الأخرى في المنطقة.

وتُبيّن هذه الوثيقة العلمية أن منجم أبوسويل استخدم في العصور القديمة لاستخراج النحاس، تحديدًا حتى عصر ما قبل الأسرات الحاكمة في مصر الفرعونية، إذ وُجدت أثناء التنقيب بقايا أفران وأوانٍ فخارية وغيرها من الشواهد الأثرية الدالة على استخدامه قديمًا.

وتكشف العالمة الراحلة في مقدمة المقال أسباب صلابة أدوات النحاس القديمة، إذ أكسب اختلاط النيكل بالنحاس في أبوسويل صلابة مقارنة بأدوات النحاس المصنعة في العصور الحديثة.

وبعد عقد كامل، نشرت نفس الدورية في عام 1950 مقال آخر باسم جرترود أيضًا، تشير في مقدمته إلى اكتشاف والدها لبيب نسيم، مهندس التعدين المصري، لرواسب معدن الهيماتيت سنة 1917 شرق أسوان جنوب مصر.

ويعضد ذلك ما قاله رائد بدّار لـ المنصة بشأن استغلال وتصدير جده لخام أكسيد الحديد الأحمر/ الهيماتيت من أسوان لصالح تشغيل فابريقة البويات المملوكة له بالقاهرة.

وحسب موقع هيئة تنمية الصادرات المصرية، فإن خام الهيماتيت مازال متاحًا للتصدير للخارج من منبعه بجنوب مصر، ويستخرج الآن بواسطة شركة القاهرة للتعدين.

دكتوراه.. لكن بحكم قضائي!

كباحثة مُتمكنة ونابغة في عصرها كان من المنطقي أن تستأنف جرترود مسيرتها الأكاديمية التي بدأتها بالحصول على درجة البكالوريوس فى الكيمياء والجيولوجيا من جامعة الملك فؤاد الأول، لتصل إلى درجة الدكتواره وقبلها الماجستير، لكن حدث العكس.  

يكشف تقرير صحفي مزيل باسم كاتبه رفعت كمال بعنوان "الباحثة التي حوّلت رمال الصحراء إلى ذهب"(6)، أن جرترود بعد اكتشافها النيكل تقدمت بأبحاثها لنيل درجة الماجستير، ولكن رئيس القسم نصحها بأن تتقدم لنيل الدكتوراه مباشرة، فمستوى الأبحاث التي أجرتها يعطيها الحق في ذلك.

ويُورد كاتب التقرير أن جرترود قسمت بحثها إلى جزئين؛ الأول يتناول فحص المنطقة الموجود بها المنجم، بهدف الحصول على درجة الماجستير، وحصلت عليه بالفعل، والثاني خاص بفحص المنجم ذاته واكتشاف النيكل، وقدمته للحصول على الدكتوراه.

ولكن اللجنة المختصة عندما اجتمعت، امتنعت عن إعلان قرارها بشأن نتيجة جرترود بينما منحت الدكتوراه لأربعة آخرين، دون أن يكون أحدهم حاصل على الماجستير.

ويضيف كاتب التقرير "رفَعت جرترود قضية على الكلية بمجلس الدولة، وطالبت المحكمة الكلية بتقديم التقارير الخاصة بالبحث. ولكن الكلية امتنعت عن ذلك، فتقرر انتقال أحد أعضائها وهو المستشار سعيد الديواني في ذلك الوقت، إلى الكلية وبعد فحص الأوراق تأكد المستشار أن الكلية رفضت منحها الدكتوراه قبل أن يصل إليها تقرير الممتحن! وكسبت الباحثة القضية".

وتتفق شهادة رائد بدّار مع التقرير، إذ يقول إن والدته حصلت على الماجستير من كلية العلوم، ثم تقدمت للحصول على الدكتوراه، لكن الكلية لم تمنحها الدرجة العلمية فأقامت دعوى قضائية، وبالتزامن سافرت إلى لندن وحصلت على الدكتوراه بالفلسفة في الجيولوجيا ولما عادت إلى مصر وجدت أن الحكم القضائي صدر لصالحها؛ لتحمل درجتي الدكتوراه من مصر وبريطانيا في وقتٍ واحد.

الزواج يُفرق الثنائي لبيب - جرترود

وبدءًا من سنة 1952 سيحدث تغيير كبير فى مسيرة جرترود المهنية، بسبب الارتباط، فرغم أنها لم تكن تنوي الزواج حبًا في العلم والاستكشاف، ارتبطت وهي في عمر الـ37 عامًا بالطبيب عزمي بدّار الذي تعود جذور عائلته إلى نقادة والأقصر جنوب مصر.

كان هذا تغيرًا كبيرا في حياتها، فقد انفصلت وقتها عن والدها مهنيًا وعمليًا، وأنجبت من زوجها ولدًا واحدًا، أسمته رائد؛ رغبة منها أن يُكمل مسيرتها فى ارتياد الصحاري واكتشاف المعادن.

تحيطنا الكاتبة الراحلة أمينة السعيد، في مقال منشور في مجلة المصوّر، علمًا بأسباب ذلك الانفصال وقصة ارتباط جرترود بزوجها، تقول "كان لجرترود مبادئ في الحياة غاية السمو، فحين وجدت الرجل القدير على إسعادها، وتأكد لها أنه الشريك الذي لا يُبارى في كرم الخلق وصفاء النفس، رأت نفسها مضطرة إلى الاختيار بين ما تملكه أسرتها من ثروة ضخمة، وبين الحياة مع الطبيب الوفي الناشئ، الذي لا يملك ما يقدمه سوى قلبه الكبير النبيل"(7).

و"أدارت جرترود ظهرها للثراء غير مبالية، واختارت بساطة العيش في ظل الحب، ويشهد الله أنني ما رأيتها يومًا من الأيام آسفة على ضيعة المال، إنما رأيتها دائمًا مع الرجل النبيل الذي اختارته شريكًا لحياتها والابتسامة لا تفارق ثغرها الجميل، وبصحبته عادت تجوب الصحاري، وتكتشف المعادن، وتحقق لبلادها أجَلّ الانتصارات في باطن الأرض".

جمعت بين جرترود وعزمي قصة حب، وبسببها ارتبطت به رغم الفوارق الاجتماعية، إذ تخلت عن الحياة المخملية التي كانت تنعم فيها لأجله. وفي وقت لاحق سيبرهن الزوج على وفائه لزوجته التي أحبها، بعزوفه عن الزواج بعد وفاتها، رغم أنها تركت له طفلًا صغيرًا يحتاج إلى الرعاية.

يروي المُترجم الراحل ومدرس الصحافة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وديع فلسطين، أنه بعد وفاة جرترود بسنوات طويلة تعرّف على زوجها وابنها مصادفةً، إذ كان ابنه زميلّا لرائد في المدرسة الثانوية، وطلب منه رائد ترجمة بعض المستندات إلى اللغة الإنجليزية لصالح والده عزمي بدار.

يقول فلسطين، "لمّا تسلمت الأوراق وقرأتها اكتشفت أن رائد هو الطفل اليتيم الذي أنجبته جرترود لبيب نسيم من زوجها الطبيب. قمت بترجمة الأوراق، وأرفقت بها مظروفًا مغلقًا طويته على صورة من مقالي القديم عن جرترود المنشور في مجلة لبنانية، مع بطاقة تحمل عبارة مع عظيم إجلالي لتلك السيدة".

ويضيف فلسطين أن والد رائد هاتفه قائلًا "قرأت مقالك والدموع سجام، وها أنت قد عرفت قبلي عظمة تلك السيدة ولهذا أقسمت أن أعيش عمري كله أعزب، ورفضت حتى التفكير في الزواج لأنني لن أجد بين نساء العالمين زوجة تضاهي جرترود".

ويكمل فلسطين "وقد برّ الزوج المخلص بقسمه حتى توفي قبل سنوات قليلة، ووجدت من واجبي أن أختلي برائد وأقص عليه ما عرفته عن والدته الرائدة. فهو عاش يتيم الأم في رعاية عمّته، ورائد هذا أصبح اليوم مهندسًا، وهو يشارك فى جميع سباقات رالي الفراعنة إما بسيارة سباق، أو بدراجة بخارية فيطوف صحاري مصر، كما كانت والدته تفعل لا لكي يفحص صخورها ورمالها، ولكن ليكتشف دروبها ومسالكها ومرتفعاتها ومنخفضاتها، أملًا أن يرفع راية مصر عالية فى هذا السباق".

الابن يُكمل مسيرة الوالدة

بعد 6 سنوات من زواج جرترود من الطبيب عزمي بدار سنة 1952، رزقت بابنها الوحيد، بالتحديد سنة 1957، فأصبحت أمًا في عمر الـ42.

يقول رائد عزمي بدّار لـ المنصة عن اختيار والدته لاسمه "كان في مخيلتها أن أكون امتدادًا لها وأن أُكمل مسيرتها، ولكني لم أدرس الجيولوجيا وتخرجت من الجامعة الأمريكية في قسم هندسة المواد. وهو تخصص ليس بعيدًا عن تخصص والدتي".

رغم أن رائد لم يدرس الجيولوجيا ولم يعمل في حقل التعدين، فإن نشاطه لم يكن بعيدًا عن الصحراء، فهو أول مصري يشارك في مسابقة رالي الفراعنة الدولية، ويجوب الصحاري بالدراجات النارية والسيارات.

يتذكر  ابن الـ67 عامًا مواقف من طفولته "كنت أرافق والدتي ووالدي فى رحلاتهما في الصحاري لاكتشاف المعادن، ومن أساسيات أدوات العمل الجيولوجي الشاكوش وأتذكر أن أسرتي أحضرت لي شاكوشًا صغيرًا لأحاكي والدتي وهي تعمل في الصحراء".

اكتشاف الجرانيت الرمادي

يُطلعنا أرشيف المهندس رائد بدار عن إحصائية مقتضبة بالإسهامات التي حققتها العالمة الراحلة؛ فمن خلال فحص تقرير صحفي مذيل باسم رفعت كمال؛ وهو منشور في صحيفة الأهرام بعد وفاتها، يمكن التقاط بعض التفاصيل بشأن اكتشاف خام النيكل وغيره.

يقول التقرير، "بدأت الباحثة أبحاثها بطريقة جديدة على الأوساط العلمية في ذلك الوقت، إذ ارتدت زي العمال وعاشت في صحراء أسوان وبالتحديد في شرق أسوان، وبدأت بحفر بئر عمقها 25 مترًا وتحت هذا العمق حفرت نفقًا أفقيًا طوله 20 مترًا حتى تصل إلى عينات لم تتأثر بالعوامل الجوية التي قد تغيّر من طبيعتها ونجحت أبحاثها في اكتشاف أول وأغنى مناجم النيكل في بلادنا"(6).

وفي فقرة أخرى من التقرير "واكتشفت منجمًا للنحاس ووصلت إلى عمق 40 مترًا تحت سطح الأرض في الصحراء الشرقية الجنوبية؛ وهو أحد خمسة مناجم موجودة في بلادنا، وقدمت الاكتشاف الثاني وهو منجم للمنجنيز".

يتابع التقرير "الاكتشاف الثالث منجم الثوريوم الغني بالمواد المُشعة والموجود بجبال دهميت بالصحراء الشرقية الجنوبية، والذي أهدته للدولة، ثم كانت آخر ما قدمته لبلادها البحث الذي انتهى بتصنيع أرقى أنواع الرخام الذي يُضارع أرقى الأنواع المستوردة".

بالنسبة لاكتشاف الرخام، يُبيّن بدّار أن هذا النوع من خام الرخام لم يكن معروفًا قبل اكتشاف والدته له، وأنه يمتاز بأن عروق الرخام موحدة باللون الرمادي، وقد سُمي الخام باسمها إلى وقتنا الحالي، جرانيت جرتي، نسبة إلى لقب والدته التي كانت معروفة في الدوائر القريبة منها بالدكتورة جرتي.

الاكتشاف القاتل 

في نهايات سنة 1961 وبالتزامن مع بداية الشتاء، كانت جرترود في رحلة استكشافية للبحث عن معدن النحاس في الصحراء الشرقية، وأثناء الرحلة انتابتها رعشة في جسدها وأصيبت بإعياء شديد مفاجئ. شعرت أن الأمر غير طبيعي، فاستخدمت عداد جايجر لقياس نسبة الإشعاع في موقع العمل، واكتشفت احتواءه على مادة ثاني أكسيد الثوريوم، وهي مادة مُشعة أعلى من اليورانيوم، حسب ما قال رائد بدّار.

في تلك اللحظة، عرفت جرترود أنها تعرضت لإشعاع فغادرت موقع العمل فورًا. ولكن بعد شهرين فقط عرفت أنها أصيبت بمرض السرطان. وفي محاولة للنجاة من المرض الذي كان فتاكًا في تلك الحقبة، سافرت سنة 1962 إلى السويد التي كانت متقدمة في ذلك الوقت في علاج الأورام. وبالفعل، تحسنت صحتها نسبيًا فعادت إلى مصر. ولكن بعد شهرين فقط من عودتها نشط المرض مرة أخرى في جسدها، وتوفيت في 21 فبراير 1963 عن عمر 48 عامًا.

بعد وفاة جرترود بثلاثة أيام نشرت صحيفة الأهرام "زهرة بيضاء بجانب اسم العالمة الجيولوجية جرترود لبيب نسيم، أول رائدة عربية ترتاد الصحراء، باحثة عن عناصر كيميائية وألوان، وتحت شمس أسوان حاولت أن تكشف مناجمها؛ ونجحت أن تعثر عليها وأنتجتها ووفرت على البلد استيرادها". وطلبت الجريدة تكريم العالمة من خلال رسم لوحة تذكارية تخلد ذكراها في مدخل وزارة البحث العلمي(8).

مر 62 عامًا على مطالبة الأهرام بتكريم جرترود لبيب، لكن ملكة الصحراء الشرقية لم تحظ به حتى وقتنا هذا، دون أسباب معلومة.

كان عمر رائد 6 سنوات حين فقد والدته بسبب تعرضها لمادة مشعة، فكان ضمن ما تعلمه عن الريادة والمغامرة واستكشاف العلوم أنها ساحرة ولكنها أيضًا قد تكون قاتلة. تولّت عمته رعايته، بعدما عزف والده عن الزواج مرة أخرى بعد وفاة جرترود حبه الوحيد. وبعد وفاتها بعامين فقط، فقد رائد جده لأمه أيضًا، إذ مات لبيب نسيم عام 1965.

حاليًا، يعيش رائد في منزله بحيّ مصر الجديدة على تركة كبيرة من الذكريات التي أحاطت بحياة والدته الاستثنائية.


مصادر:

(1) مقال، الكاتب الراحل، علي أمين، فكرة، جريدة الأخبار، 23 فبراير 1963.

(2) كتاب، رواد التعدين والبترول فى مصر، الدكتور محمد الطحلاوي، ص 7.

(3) مقال، كل الدنيا، وديع فلسطين، مجلة نصف الدنيا، إصدارات مؤسسة الأهرام، 28 نوفمبر 1999

(4) خبر، جريدة المصري، 21 مارس 1940

(5) مقابلة، جريدة المقطم، 19 مارس 1940

(6) تقرير صحفي، الكاتب رفعت كمال، تاريخ النشر: ما بعد 1963

(7) مقال، الكاتبة أمينة السعيد، كلمة صريحة، المصوُر، 1 مارس 1963

(8) باب، تحت الأضواء، الأهرام، 24 فبراير 1963