تصميم: أحمد بلال- المنصة

"نيباتيا" صوت نساء الصعيد في عالم السينما

منشور الاثنين 3 فبراير 2025

ذات مساء سبتمبري من عام 2023، كانت نوال محمود الشابة ذات التسعة وعشرون عامًا متجهة نحو محطة القطار في مدينتها أسوان، على موعد مع رحلة سفر إلى القاهرة تمتد إلى 14 ساعة، عازمة على المشاركة في ورشة تدريبية في البودكاست السرد القصصي النسوي.

متغلبة على خوفها من المدينة، تصفها لـ المنصة "مدينة قاسية، مليئة بالضوضاء والزحمة، كلما فكرت في النزول بمحطة مصر ومواكبة السرعة والازدحام، زاد شعوري بالضيق". لكن تظل بوابة مصر الجنوبية بكل ما فيها من جمال وهدوء الطبيعة الخلابة مع عبق الثقافة النوبية، مكانًا تحده القيود، خاصة في مجالات مثل الصحافة والإعلام وصناعة الأفلام.

من طفلة تحب الراديو إلى منتجة بودكاست

"أنا خريجة بكالوريوس آداب، قسم إعلام، شعبة صحافة"، هكذا عرفت مؤسسة "بودكاست نيباتيا" نفسها معتزة بهذا المؤهل. فمنذ الصغر، كان لديها شغف الاستماع للراديو والمسلسلات الإذاعية، ومع ظهور المدونات الصوتية، تطوَّر اهتمامها بالبودكاست، خاصة في مجالات السينما والفن والأدب.

"رغم خوفي من صوتي وضعف نطقي لبعض الحروف، قررت دخول عالم البودكاست بعد تشجيع صديقة لي، وأول حلقة لي عن نجيب محفوظ أخدت إشادة كبيرة من المستمعين" تقول نوال.

لم تنجح نوال في الحصول على فرصة مزاولة الصحافة كمهنة، تقول "الصحافة في الصعيد مش بتلاقي الاهتمام الكافي، بعيدة عن رؤيتي النسوية لقضايا النساء، وعلشان كده اتوجهت للكتابة في منصة جندريست عن قضايا العنف ضد النساء، وعن السينما ومراجعات الأفلام".

المجتمع القبلي تتزايد هذه القيود مع المخاوف المرتبطة بـ"كلام الناس"

كلما راودها حلم العمل في الصحافة أو النقد الفني، تجد نفسها محاصرة بالواقع، فليس من السهل أن تجد مكانًا لفكرة نسوية في بيئة محافظة، والمجتمع القبلي الذي نشأت فيه كان يرفض فكرة سفر الفتيات للتدريب والبحث، والمسافة والوقت والجهد تجعل من القاهرة ملاذًا بعيد المنال. 

في مواجهة القبيلة

نوال محمود صاحبة بودكاست نيباتيا

في قريتها الأعقاب قبلي القريبة من أسوان، تسود تقاليد قبيلة الجعافرة التي تنتمي إليها نوال، التي تُضفي قيودًا أكبر على حياة البنات. يُعتبر السفر وحدهن أمرًا غير مقبول في معظم الأحيان، إلا في حالات الضرورة القصوى كالتعليم الجامعي أو العلاج، وحتى في هذه الحالات يجب أن يكون برفقة أحد أفراد العائلة أو مجموعة معروفة.

"السفر بالنسبة لبنات القرية تحدي كبير، بشوف الأمور أقل تعقيدًا بالنسبة للبنات في المدينة" تقول نوال قبل أن تستدرك "وإن كانت نفس الأعراف حاضرة بدرجات متفاوتة".

مع صعوبة دراسة النقد الفني والسينمائي في ظل وجودها بأسوان، بدأت نوال تنجذب لعالم البودكاست عبر الإنترنت لتبدأ رحلة التعلم على فيديوهات يوتيوب وكورسات على منصات أون لاين.

"عايزة يكون في صوت للنساء عشان يقدروا يعبروا عن رأيهم بحرية"، صار لدى نوال هدف مساعدة الفتيات مثلها في الصعيد لتعلم صناعة البودكاست، وتمكينهن من العمل في مجال الصوتيات أو الحكي لفتح أبوابًا جديدة لهن للعمل والإبداع، فأصبح هدف "بودكاست نيباتيا".

بين موت هيباتيا وإحياء نيباتيا

استوحت نوال اسم "بودكاست نيباتيا" من الفيلسوفة هيباتيا السكندرية، التي أصبحت رمزًا نسويًا وفكريًا عبر التاريخ. الاسم يحمل رمزية خاصة، يعبر عنها حرف النون إذ يبدأ به اسمها والأسماء التي تعبر عن هويتها وهوية البودكاست "نوبة ونساء ونقد".

تشرح نوال "هيباتيا كانت رمزًا للحرية الفكرية في مواجهة الجهل والتعصب. وجودها كامرأة وسط مجتمع يهيمن عليه العلماء والفلاسفة الذكور كان أمرًا استثنائيًا. دفعت حياتها ثمنًا لأفكارها، وهذا يجعلها مصدر إلهام لكل من يواجه قيودًا اجتماعية أو ثقافية".

على الرغم من الصعوبات المجتمعية التي قد تواجهها الفتيات في الصعيد، حصلت نوال على دعم شقيقها الأكبر  محمد والشريك المؤسس لمشروعها الذي تولى كتابة مقترحات المنح، وتنسيق الورش، واختيار المشاركات والأفلام ذات الطابع الشخصي، تقول نوال "دوره الفني والتنسيقي كان أساسي لنجاح المشروع".

في البرنامج تعلَّمت الفتيات تسجيل الصوت من المنزل بأقل التكاليف

بدأ "بودكاست نيباتيا" في ديسمبر/كانون الأول 2023، بدعم من معهد جوته بالقاهرة، في إطار مشروع خارج حدود العاصمة، الذي يقدِّم منحًا تمويلية وتدريبية ودعم فني للمشروعات الثقافية في المحافظات.

كانت استجابة المجتمع المحلي للمشروع مُرضية منذ لحظة إعلان الورشة "تلقينا العديد من الأسئلة حول طبيعة الورشة، مثل: ليه بنات بس؟ وهل فيه ورش للشباب أو للأطفال والمراهقين؟". كان المشروع عبارة عن برنامج تدريبي وإنتاجي يهدف إلى تدريب فتيات ونساء من أسوان على صناعة البودكاست في مجال النقد السينمائي من منظور نسوي.

خلال البرنامج تدربت الفتيات على كيفية صناعة البودكاست باستخدام الموارد المتاحة والحد الأدنى من الإمكانيات، تعلَّمن تسجيل الصوت من المنزل بأقل التكاليف، وذلك لأن محافظة أسوان تفتقر إلى الاستوديوهات المخصصة، مما شكل تحديًا كبيرًا للفريق في البداية.

استهدف المشروع الفئة العمرية بين 21 و40 سنة، وتدريب 15 فتاة، أغلبهن يتعرفن لأول مرة على النقد السينمائي وصناعة البودكاست بمراحله المختلفة، ونجحت المشاركات في 11 حلقة بودكاست في نهاية المشروع. ونشرن الحلقات الصوتية التي تناولت قضايا المرأة وارتبطت بتجاربهن الشخصية.

أصوات متنوعة

تنوعت خلفيات المشاركات في التدريب، فضمت المجموعة صانعات أفلام وكاتبات وناشطات في قضايا حقوق المرأة، بالإضافة إلى نساء لديهن تجارب في التعليق الصوتي والدوبلاج. هذا النهج أسهم في إثراء الورش التدريبية، مما جعلها ملهمة ومفيدة للمبتدئات، مع تحقيق توازن بين الجوانب الفنية والاجتماعية.

المشاركات في برنامج بودكاست نيباتيا

حتى الورش التقنية، مثل "الهندسة الصوتية"، التي كانت معقدة للبعض، لم تخلُ من المتعة والتفاعل. تقول نوال "كان من المهم أن تكون الورش مُلهمة للمشاركات المبتدئات، وأن تحقق التوازن بين الجوانب الفنية والاجتماعية".

مع تقدم التدريب، بدأت المتدربات في تطوير "عدسة تحليلية" للنظر إلى السينما. تقول نوال "أصبحت لديهن القدرة على تحليل تفاصيل الفيلم مثل التصوير، والموسيقى، والديكور، وليس فقط التركيز على السيناريو والإخراج". هذا التغيير في الطريقة التي يشاهدن بها الأفلام كان من أبرز مخرجات المشروع.

تسترجع نوال اللحظات المؤثرة التي صاحبت كتابة وتسجيل الحلقات "كل واحدة اختارت فيلم مرتبطة بيه بشكل شخصي أو ليها معاه تجربة، وده إداهم الفرصة يسترجعوا ذكريات ومشاعر عاشوها، وحابين يعبروا عنها".  

لاقت الحلقات ردود فعل إيجابية "الجمهور  حب أصوات الفتيات ورؤيتهن المختلفة للأفلام"، وهو ما حفزهن لإنشاء منصة بودكاست خاصة بهن لنشر الحلقات الصوتية التي يعملن عليها.

فصل جديد لناقدات الصعيد

تفتخر نوال بإنجازها في توفير فرصة للفتيات اللاتي يعانين التهميش في الجنوب "قدمتلهم الفرصة اللي كانت ناقصاني".

ولا يزال دور النساء في المشهد الفني بالصعيد غير بارز بما فيه الكفاية، لقلة الدعم الفني، خاصة في مجال النقد السينمائي "أعتقد إن نيباتيا خطوة لتغيير ده، بيفتح المجال قدام البنات والستات عشان يتعلموا أساسيات النقد السينمائي في بيئة بعيدة عن المجال".

تتطلع نوال إلى توسيع مشروع "نيباتيا" في المستقبل ليشمل ورشًا تدريبية أكثر تنوعًا، مع التركيز على تحويل التدريبات من الإنترنت إلى أرض الواقع.

"حلمي الشخصي إن نيباتيا يبقى مركز يحتضن منصات صوتية مرتبطة بالفن، ومساحة للصعيديات إنهم يعبروا عن نفسهم".