
ستيفن هوكينج.. الأسود ليس قاتمًا تمامًا
في زاويةٍ مظلمة من الغرفة، يتكوم جسده النحيل، تلتصق ركبتاه بصدره، بينما ثبتت عيناه على الحائط المواجه. موسيقى فاجنر الصاخبة تملأ الفراغ، تمرُّ أمامه لقطاتٌ سريعة من ذكريات لا يربط بينها سوى أنها سُجِّلت في هذا العقل المنهك. عقل يحاول انتشال صاحبه من هوة النسيان، فقد أخبره الطبيب منذ أيام أن الوقت المتبقي له عامان، وأنه لا يستطيع أن يفعل له شيئًا!
لم يكن ستيفن هوكينج المولود في أوكسفورد بإنجلترا عام 1942 تجاوز عامه الثالث والعشرين عندما واجه حقيقة مرضه القاسية؛ التصلب الجانبي الضموري/ALS الذي يُسبب ضمور الخلايا العصبية في الدماغ والنخاع الشوكي، ليفقد المريض بالتدريج قدرته على التحكم في جميع عضلات الجسم إلى أن يصير جثة هامدة، لكنها حية.
نبوءة اقتراب النهاية أغرقت الشاب في اكتئاب لشهور، تعثر خلالها عمله في رسالة الدكتوراه، إلى أن أضاءت حياته فجأة عندما ظهرت فيها جين وايلد التي أحبَّها وكان لها أثر عظيم عليه. أصرت أن يتزوجا سريعًا متجاهلةً نبوءة الأطباء ونصائح العائلة والأصدقاء. فعلى لطفها ووداعتها، تميزت جين بشخصيتها القوية.
تحوّل زواجهما إلى قصة صمود أسطورية وظهرت إرادة لا حدود لها تجاوزا بها تحديات الجسد. هكذا بدأت مسيرة هوكينج العالم والانسان التي لم نرَ مثلها من قبل.
https://www.youtube.com/watch?v=Salz7uGp72cأستكشف الأفكار بمفردي
نشأ ستيفن ويليام هوكينج في عائلة شغوفة بالمعرفة، والده، الدكتور فرانك هوكينج، عالم مرموق في أبحاث الطب الاستوائي. ووالدته، إيزوبيل هوكينج درست الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة أكسفورد. استقرت العائلة في هاربنجهام، شمال لندن، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، ثم انتقلت إلى مدينة سانت ألبانز حيث قضى ستيفن معظم طفولته.
لم يكن ستيفن طالبًا متفوقًا في المدرسة الابتدائية، بل وصف نفسه بأنه كسول خطُّ يده سيئ للغاية. لكن فضوله كان كبيرًا لفهم كيفية عمل الأشياء. كثيرًا ما فكك الأجهزة ليعرف طريقة عملها، وكثيرًا ما فشل في إعادة تجميعها مرة أخرى!
وقتها لم تكن الدراسة بالمعنى الأكاديمي الصارم هي كل اهتماماته. بل وجد متعة خاصة في مراقبة الأشياء مثل حركة قطاره اللعبة على القضبان وكذلك في بناء الأشياء. فقد انضم إلى مجموعة من أصدقائه لبناء جهاز كمبيوتر بدائي من مكونات قديمة، مما أظهر شغفه بتحليل وحل المشكلات في سن مبكرة.
في عام 1959، وفي سن السابعة عشرة، حصل هوكينج على منحة دراسية للالتحاق بجامعة أكسفورد. يحكي عن سنواته الجامعية هناك فيقول إنه لم يكن طالبًا مجتهدًا، فقد ملَّ الدراسة أحيانًا وفضَّل استكشاف الأفكار بمفرده أو مع زملائه. ومع ذلك، تخرج بمرتبة الشرف الأولى في الفيزياء عام 1962.
الدكتوراه ونظريات التفرد
بعد أكسفورد، انتقل هوكينج إلى جامعة كامبريدج لدراسة الدكتوراه، ووقع اختياره على علم الكون كأحد تطبيقات نسبية آينشتاين العامة. وبعد تجاوز عثرات اكتئاب ما بعد التشخيص بالمرض، سرعان ما أكمل رسالته بقوة في أحد أشد المواضيع صعوبة في مجال الجاذبية؛ وهو نظريات التفرد/singularity theorems.
"المتفردة" هي نقطة مكانية، ولحظة زمنية معينة، تصبح فيها قوانين الفيزياء المعروفة غير قابلة للتطبيق، بل تُعرف بخصائصها الغريبة. المثال على ذلك نقطة بداية الكون، فنحن نعرف الآن أن الكون دائم التمدد والمجرات تتباعد عن بعضها البعض. أي أننا إذا عُدنا بالزمن للخلف، سنجد الكون يصغر ويصغر إلى أن ينكمش في نقطة ذات كثافة وحرارة لا نهائيَّين، تكون عندها قوة الجاذبية أيضًا لا نهائية.
نوع آخر من المتفردات، ينشأ عندما ينهار النجم على نفسه مُكوِّنًا ثقبًا أسودَ؛ حيث تزداد كثافته وحرارته الداخلية لتتكون متفردة في مركزه.
طوَّر هوكينج بالتعاون مع روجر بنروز عددًا من نظريات التفرد. لم يكُن هدفها الرئيسي بالطبع وصف ما يحدث حول المتفردة، لأنه غير قابل للوصف الفيزيائي، ولكن لإثبات حدوث التفرد في ظل ظروف عامة عديدة. يدل ذلك على أن المتفردات ليست تكوينات استثنائية، بل يمكن أن تحدث نتيجة أشكال عديدة للمادة والطاقة.
كان لنظريات التفرد أثرها المهم على فيزياء الثقوب السوداء، التي طالما اعتُقِد في السابق أنها مجرد حلول رياضية غريبة لمعادلات آينشتاين، لكنها بعد دراسات عديدة ظهرت كناتج طبيعي لظواهر الجاذبية.
الثقوب السوداء
الثقب الأسود هو أحد أكثر الأجرام الفلكية إثارة للدهشة والغموض معًا. هو ليس ثقبًا بالمعنى الحرفي، بل منطقة في نسيج الزمكان الذي يتكوّن منه الكون، تكون فيها قوة الجاذبية هائلة بسبب تركز كمية كبيرة من الكتلة في حجم صغير جدًا، لدرجة أنْ لا شيءَ، حتى الضوء، بإمكانه الهروب منها!
هناك نوعان لهذه الثقوب حيث تصنف حسب كتلتها: الأكثر شيوعًا يتكون في نهاية دورة حياة النجوم الكبيرة التي تكافئ كتلتها 20 مرة كتلة الشمس أو أكثر.
تُنتج التفاعلات النووية في داخل معظم النجوم، بالإضافة إلى الحرارة، قوة ضغط للخارج تحاول أن تزيد من حجمه، فتعادل بذلك قوة الجذب الكبيرة التي تعمل في الاتجاه المعاكس على تقليل حجمه.
لكن عندما ينفد الوقود النووي، لا يعود هناك ما يدعم النجم ضد قوة جاذبيته الهائلة، فينهار على نفسه تحت وطأة جاذبيته. تُعرف هذه العملية باسم الانهيار الثقالي/gravitational collapse. هذا الانهيار الكامل يضغط الكتلة المتبقية إلى نقطة لها كثافة لا نهائية، أي "متفردة".
عند ذلك تتكون منطقة حول النجم تسمى أفق الحدث، وهي سطح كروي مُتخيل يلف النجم تمامًا، لا يمكن لأي شيء، ولا حتى الضوء، أن يهرب منها بمجرد الدخول فيها، لذلك هي حقًا سوداء!
لا يُعد أفق الحدث سطحًا ماديًا، بل حد مُتخيل يرسم حدود المنطقة التي لا يصبح الضوء قادرًا على الهرب منها. فأي شيء يعبر أفق الحدث يُسجن للأبد في سجن كوني نسميه الثقب الأسود. لهذا السبب، لا يمكن رؤية الثقوب السوداء بشكل مباشر بالتلسكوبات الضوئية، بل تكتشف من خلال قياس تأثير جاذبيتها الهائلة على النجوم والغازات المحيطة بها، أو برصد الأشعة عالية الطاقة المنبعثة من مناطق حول الثقب، توجد بها غازات وغبار على وشك السقوط فيه.
كذلك توجد ثقوب سوداء فائقة الكتلة، تُقدر كتلتها بملايين أو حتى مليارات المرات من كتلة الشمس، ولا نستطيع حتى الآن تفسير طريقة تكوينها، لأن محاولة فعل ذلك بنفس طريقة النوع الأول تتطلب زمنًا أكبر بكثير جدًا من عمر الكون! لكننا نعرف أنها موجودة في مراكز معظم المجرات الكبيرة، بما في ذلك مجرتنا درب التبانة التي يستقر في قلبها الثقب الأسود "ساجيتاريوس A". وهي من أسباب استقرار هذه المجرات.
إشعاع هوكينج
إذا كانت نسبية آينشتاين العامة، التي تصف التجمعات الكبيرة من المادة كما في النجوم وغيرها من الأنظمة الفلكية، تنبأت بابتلاع الثقوب السوداء كل ما يتجاوز أفق الحدث، فماذا لو أن هذه النسبية دُمجت مع ميكانيكا الكم، التي تصف عوالم المادة الدقيقة مثل الإلكترونات وغيرها من الجُسيمات المكونة للمادة؟ هل سيتغير هنا سلوك الثقوب السوداء؟
هذا ما حاول هوكينج الإجابة عنه عندما درس ثقبًا أسودَ محاطًا بجسيمات مثل الإلكترونات وغيرها من الجسيمات الدقيقة، فوجد أنه لا يكون مُعتمًا تمامًا، بل يَصدر عنه إشعاع حراري مماثل لذلك الصادر عن جسم ساخن له درجة حرارة معينة.
يُعرف هذا بإشعاع هوكينج الذي يستنزف كتلة الثقب الأسود ببطء شديد فتتبخر كتلته تدريجيًا بمرور الوقت! كان هذا الاكتشاف صادمًا للفيزيائيين لعدة أسباب، أولها أنه كسر قناعتهم التقليدية بأن الثقوب السوداء لا يخرج منها شيء. وثانيها؛ إثبات أن للثقب الأسود درجة حرارة، يعني أن بالإمكان دراسته كنظام حراري تسري عليه القوانين المعروفة للديناميكا الحرارية.
وجد هوكينج أن درجة حرارة الثقب الأسود تتناسب عكسيًا مع كتلته. كذلك وجد أن الإنتروبي، وهي كمية حرارية تقيس مقدار الفوضى في النظام، تساوي مربع الكتلة (أي حاصل ضرب الكتلة في نفسها).
كانت النتيجة الأخيرة غريبة وازدادت غرابتها عندما استخدمها هوكينج في صياغة إحدى أهم مفارقات الفيزياء في القرن العشرين؛ "مفارقة معلومات الثقب الأسود"، التي جعلت عددًا من فيزيائي النسبية مثل بنروز وهوكينج نفسه وغيرهما يُصرحون بأن إشعاع هوكينج يتعارض مع أحد مبادئ ميكانيكا الكم المعروفة، وهو مبدأ حفظ المعلومات!
أين ذهبت المعلومات؟
لا يُقصد بـ"المعلومات" في هذا السياق البيانات المعالجة أو المنظمة فقط، لكنها تعني أيضًا الخصائص الكاملة لجسيم ما أو نظام فيزيائي معين. فكّر في كل ذرة أكسجين في هواء غرفتك: موقعها، سرعتها، طاقتها، كل هذه التفاصيل هي "معلومات".
لا يمكن لهذه المعلومات أن تُمحى أو تختفي من الكون. قد تتغير، أو تتخذ شكلًا آخرَ. لكنها ستظل باقية أو محفوظة بطريقة ما، وذلك وفقًا لمبدأ "حفظ المعلومات" في ميكانيكا الكم.
لكن إذا افترضنا أننا ألقينا بمكتبة ضخمة بها كم مهول من المعلومات في ثقب أسود، فإن هذه المعلومات بمحتواها وترتيب ذراتها ستعبر أفق الحدث وتختفي داخله. في الوقت نفسه، سيبدأ الثقب الأسود بالتبخر تدريجيًا عبر إشعاع هوكينج الحراري والعشوائي إلى أن يختفي.
لكن إذا تبخر الثقب الأسود واختفى، فأين ذهبت المعلومات التي دخلته؟ إشعاع هوكينج عشوائي، ولا يحمل أي معلومات عن المادة التي ابتلعها الثقب الأسود، وهذا يعني أن المعلومات دُمرت بالكامل!
تؤكد ميكانيكا الكم عبر مبدأ حفظ المعلومات، القدرة على تتبع حالة نظام ما مستقبليًا إذا عرفنا حالته الابتدائية. لكن قدرة الثقب الأسود على تدمير المعلومات بلا رجعة، حسبما يبدو، تُبرز مفارقةً مشكلتها أن إحدى النظريتين؛ النسبية العامة أو ميكانيكا الكم، تحتاج إلى تعديلات أساسية لنستطيع وصف سلوك الثقوب السوداء بنجاح.
رأى العديد من العلماء أن حل هذه المفارقة يُعد مفتاحًا لتطوير "نظرية الجاذبية الكمومية"، وهي النظرية الموحدة التي يحاول الفيزيائيون الوصول إليها لوصف الكون على جميع المستويات، من الأصغر إلى الأكبر.
لكن حتى الآن لا يوجد حل يتوافق عليه الفيزيائيون لهذه المفارقة، رغم وجود اقتراحات عديدة أهمها "المبدأ الهولوجرافي" أو فكرة أن المعلومات لا تُفقد فعلًا، بل يمكن الحصول عليها بطريقة ما في إشعاع هوكينج بعد زمن معين، يبلغ تقريبًا نصف عمر الثقب الأسود.
في عام 1997، دخل ستيفن هوكينج في رهان شهير مع زميليه الفيزيائيين كيب ثورن وجون بريسكيل، حول مفارقة معلومات الثقب الأسود: هل ستُدمر المعلومات نهائيًا أم أنها ستظل محفوظة بشكل ما؟ راهن هوكينج وثورن على أن المعلومات ستُفقد للأبد، بينما راهن بريسكيل على حفظها.
رفض ثورن الاعتراف بخسارة الرهان لصالح بريسكيل، لكن هوكينج أعلن عام 2004 أنه تراجع وغير رأيه، بعد اقتناعه بأن مبدأ الهولوجرافي يمكن أن يحل مفارقة معلومات الثقب الأسود. واشترى هوكينج لبريسكيل موسوعة "بيسبول" لفوزه بالرهان.
عاش ستيفن هوكينج حياةً حافلة ثرية إلى أن توفي عام 2018. خابت نبوءة الأطباء بشأن قصر أيامه الحتمي نتيجة المرض، ولم يكن الأمر بهذا السواد على الشاب الذي قطع الجميع في ستينيات القرن الماضي بأن حياته ستكون قصيرة، لكنها امتدت وطالت وشملت تجربة إنسانية وعلمية ثرية، قدَّم فيها أفكارًا ملهمةً للعلم والإنسانية.