تصوير سالم الريس ، المنصة
عشرات الجثامين لقتلى تفجير المستشفى المعمداني مُلقاة على أرضية مستشفى الشفاء بغزة، 18 أكتوبر 2023

مجزرة المعمداني.. استعادة اللغة من أنياب الحياد

منشور الخميس 21 أغسطس 2025

في مساء السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023، انفجرت السماء فوق غزة. قصفٌ مُركّزٌ استهدف مستشفى المعمداني، أحد آخر الملاذات التي لجأ إليها آلاف المدنيين في ظل حرب إبادة مفتوحة.

في لحظة، تحوّل فناء المستشفى إلى ساحة جثث، ومشهد متلفز لمؤتمر صحفي فوق الأكفان، في تلك الليلة لم أكتب شيئًا. جلست أمام الشاشة أتابع الصور تتوالى. نقالات، أشلاء، طبيب ينهار، وطفل يرتجف بين الأنقاض.

أردت أن أكتب. لكن أول رسالة وصلتني من محرّر في منصة إقليمية كنت أتعامل معها "نُفضل التريث، ننتظر تحقيقًا رسميًا يُحدّد المسؤول".

الاستهداف كان مباشرًا، الصور دامغة، والشهود بالعشرات، ويُطلب منّا الانتظار حتى تُصبح الحقيقة بلا معنى و بلا أثر. هنا كان السؤال الأبسط والأعقد في آن، من يحتاج إلى تحقيق حين تتحدث الدماء؟

اللغة سلاحًا في الحرب

تضمن الخطاب الإعلامي بعد 7 أكتوبر كلمات مثل "توتر"، "تصعيد"، و"اشتباك" بوصفها أدوات تضليل ناعمة. تبدو محايدة لكنها في الحقيقة تزيل الفاعل، وتجمّل الجريمة.

حين يُقال إن "اشتباكًا" وقع في جنين مثلًا، يُخيَّل للمتلقي مشهد مواجهات متكافئة، لكنه في الواقع قصف جوي واقتحامات لبيوت مدمّرة من الأساس وترهيب للفلسطينيين. حين يُقال "تصعيد" يفهم المُتلقي أن الحرب تبدأ من الفراغ أو من السماء.

إطلاق نار متبادل تعبير  يُساوي بين طائرات F-16 وصواريخ بدائية

لا يُذكر من بدأ القصف مثلًا، ولا يُذكر الاحتلال، ولا يوضع التصعيد في سياقه الممتدّ من 1948 فيبدو الحدث كأنه كارثة طبيعية.

في "توتر يسود القدس" لا تُذكر الاعتقالات ولا الاقتحامات في المسجد الأقصى ولا القمع اليومي. تصور حالة انفعالية مجردة بدون سياق. أما التعبير الأكثر سخرية فهو "إطلاق نار متبادل"؛ تعبير جامد ومجرّد يُساوي بين طائرات F-16 وصواريخ بدائية، بين قنابل محلية وصواريخ تحرق الأرض ومن وما عليها.

توثر التحديات التي تواجه الصحفيين في تغطية العدوان على غزة، إلى جانب الضغوط السياسية والإعلامية، على "حيادية التغطية"، بحسب شبكة Ethical Journalism Network (EJN) وهي شبكة دولية غير ربحية تُعنى بتعزيز الصحافة الأخلاقية، وهو ما ينتهي لتبني خطاب منحاز يُغيّب السياق التاريخي والإنساني للصراع، ويشوّه الرواية الفلسطينية.

حين تُصبح الحقيقة "مؤجلة"

تضج السوشيال ميديا ببوستات توصف مثل تلك الممارسات عبر الإخفاء الرمزي؛ إخفاء الحقيقة السياسية وراء غموض متعمد ولغة مزدوجة، فحين يُقصف مستشفى، لا يجوز للإعلام التذرع بانتظار التحقيقات، وانتظار هذه التحقيقات لا ينبغي أن يكون ذريعة لعدم تحميل المسؤولية.

منظمة هيومن رايتس ووتش اعتبرت التستر خلف الحياد الشكلي شكلًا من أشكال "نزع المسؤولية القانونية والسياسية عن المعتدي".

صور الألم الحقيقي تحوّلت في أحسن الأحوال لقصص إنسانية

وصفت نقابة الصحفيين الفلسطينيين "مجزرة المعمداني" صراحة بأنها جريمة حرب مكتملة الأركان. الحياد الإعلامي في مجزرةٍ كهذهِ هو انحياز  مُقنّع مثلما نستنتج من أول تقرير لوكالة رويترز للأنباء؛ مصطلحات توزع الشك واللَبس وتُحرف الوقائع وتقلل من فداحة الفعل، لتمريره عبر الدبلوماسية الدولية ووسائل الإعلام الرسميّة، لا تتجاوز كونها طمسًا للحقيقة في الخطاب الإعلامي.

صور الألم الحقيقي تحوّلت في أحسن الأحوال إلى "قصص إنسانية" عابرة، لا تتعدى التعاطف السطحي، ولا تفرض على المتلقي واجبًا أخلاقيًا. بهذا الشكل، يُسلب المرضى مثلًا دورهم شهودًا على الجريمة، ويفقد الحدث أبعاده السياسية التي تَفرض مساءلة الاحتلال وتحرِّك الرأي العام العربي والعالمي.

من صمت القنوات إلى تبييض الجريمة

بعد قصف مستشفى المعمداني، لم تُواجه القنوات الإخبارية الواقعة بما تستحقه من تسمية واضحة ومباشرة، ولجأت إلى خطاب مراوغ يلتفّ حول الحقيقة ويُجرّدها من معناها، باستخدام عبارات من قبيل "ننتظر تأكيد المسؤولية" أو "الأرقام لم تُحسم بعد".

لم تكن مجرد صيغ حذرة، إنها أدوات تواطؤ ناعم، تُفرغ الحدث من أثره وثقله القيمي والإنساني والإخلاقي والسياسي، وتُحيله إلى لغزٍ لغويّ معلّق بلا فاعل ولا مساءلة. هذا النوع من التغطية لا يُسمّي الجريمة إنما يُفرغها من مضمونها. لا يُعرّف الضحية، بل يُحمّلها احتمال التورط.

لا تُنكَر الجريمة دفعة واحدة بل تمحى آثارها تدريجيًا

في علم تحليل الخطاب، تُعرف هذه الممارسة بـ تبييض الجريمة/Crime Whitening، تقنية خطابية تُمارَس عبر تعبيرات محايدة أو مبهمة، تُخفف وقع الفعل الإجرامي، وتُحرّف لغته الأصلية، ثم تُعيد تقديمه في صورة خبر رمادي، مُفرغ من كل أبعاده.

بهذا الشكل، لا تُنكَر الجريمة دفعةً واحدةً؛ تُمحى آثارها تدريجيًا من الذاكرة الجمعية وينتهي كل شيء قبل أن يبدأ. لا غضب، لا تحقيق، ولا حتى اعتراف بالمسؤولية السياسيّة، فقط لغة مُتواطئة، تصنع من المأساة مادة إعلامية قابلة للاستهلاك ثمّ النسيان.

المشفى رمزًا.. آخر ملاذ وأول هدف

قصف المعمداني ليس مجرد انتهاك فجّ لقوانين الحرب، لكنه ضربة مباشرة للقيمة الرمزية للمكان ذاته، حيز الأمان الأخير، وملجأ الحياة في قلب الموت.

في سياق إعادة قراءة الجريمة سنكتشف أن إسرائيل مهدت مسرحها كما كتبت الناشطة والشاهدة نعمة حسن في تعليقها على قصف المستشفى على صفحتها على فيسبوك، التي حولتها ساحة أرشفة "المستشفيات هي القشة الأخيرة لوجود المواطنين في غزة والشمال وهذا ما تعرفه إسرائيل جيدًا، لذلك الخطوة القادمة للعدو بعد إخلاء القنوات الإعلامية من محيط المكان هو قصف المستشفى".

الجريمة التي لا تُروى بلغتها الحقيقية جريمة قابلة للتكرر

في تقاريره، شدّد الصليب الأحمر الدولي على أن استهداف المنشآت الطبية يُعد جريمة حرب تستوجب تحركًا دوليًا عاجلًا. لكن الأخطر من القصف الخطاب الذي يُخفيه، واللغة التي تُفرغ معناه من بعده السياسي والجنائي.

في تغطيات كثيرة، تحوّلت المجزرة إلى قصة "إنسانية" مُجردة، تُروى بضمير مستتر، أناس يُبكون، أجساد تُنتشل، طواقم طبية تُصدم.

لا ذكر للمُعتدي، لا إشارة للاحتلال، لا مسؤول واضح في السرد. مجرد صور دامعة وموسيقى حزينة. بهذه الطريقة، يُسلب الضحايا حقهم في الشهادة، لا يعودون شهودًا على الجريمة. مجرّد رموز عاطفية تُستخدم لمرة واحدة، ثم تُطوى في أرشيف النكبات ويتحوّل المشفى من مسرح للعدوان إلى خلفية درامية، والمجزرة من فعل سياسي مدروس إلى حادث عابر بدون اتهام، بدون محاسبة.

أخطر ما يُرتكب اليوم ليس فقط القصف، بل شكل السرد الذي يُجمّل الجريمة ويُعقمها، لأن الجريمة التي لا تُروى بلغتها الحقيقية هي جريمة قابلة للتكرر.

التعب.. المصيدة الخطابية

مع توالي المجازر، لا يُقتل الناس فقط تحت الأنقاض، إنما يُقتل الحسّ الجمعي نفسه. يصاب الجمهور بما يمكن تسميته بـ"تعب الخطاب"، حالة إنهاك نفسي، وعجز سياسي متراكم تجعل الفظائع تُستقبل كأنها مجرّد خلفية متكررة لنشرة الأخبار.

تتحوّل الإبادة إلى روتين بصري يفرغ الكارثة من معناها

تتحوّل الإبادة إلى روتين بصري؛ مشاهد مكرورة تُفرغ الكارثة من معناها، وتُجرّد الضحايا من فردانيتهم، فيغدو المتلقي أمام مشهد مأساوي لا يُثير سوى صمت داخلي، أو دعاء عابر.

ينتشر خطاب الهزيمة "ماذا يمكن أن نفعل؟"، "الأمور أكبر منّا". عبارات لا تُعبر عن القنوط فقط. تُعيد إنتاجه. تتحول من رد فعل إلى قناعة جماعية، تُشجّع على الانسحاب من المعركة الرمزية، وتترك الساحة خالية لآلة القتل وكل من يُبرّر لها.

يدار كل هذا ويُستثمر بوعي من قبل مؤسسات إعلامية وسياسية تسعى إلى تفريغ الحدث من بعده التحريضي والتعبوي، وتحويل القتل الجماعي إلى مسألة تقنية، ومأساة إنسانية معزولة بلا جذور سياسية. تُفكك كل دينامية شعبية، وتُجهض أي حراك مدني أو مبادرة مقاومة رمزية، وتُبقي الجمهور متلقيًا خاملًا بدل أن يكون فاعلًا غاضبًا.

تحرير اللغة.. مقاومة تبدأ بالكلمة

المطلوب ليس فقط رفض هذه المصطلحات، بل تفكيكها وفضح انحيازها. كسر هذه الدائرة واجبٌ أخلاقي واستراتيجي يقع على عاتق الصحفيين والناشطين والمثقفين. أن يستعيدوا اللغة من أنياب الحياد الكاذب، ويستخرجوا من رحم الألم وعيًا سياسيًا قادرًا على الفعل، لا على التبلد. فالمعركة اليوم ليست على الأرض فقط، بل على المعنى والرواية والقدرة على أن نشهد ونسمّي ونحرّض.

اللغة إذًا ليست أداة نقل هي أداة سلطة

كما يقول نورمان فينكلشتاين، باحث وناقد سياسي أمريكي من أصل يهودي فلسطيني، متخصص في قضايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في مقابلته مع The Electronic Intifada فإن "الكلمات التي نختارها تُحدّد من هو الضحية، ومن هو الإرهابي، ومن يستحق الحياة".

اللغة إذًا ليست أداة نقل، هي أداة سلطة. وإذا استُخدمت لتخفيف وقع القتل، أو لتقسيم المسؤولية بين الجلاد والضحية تتحوّل إلى درعٍ لغوي يُخفي نيران الحرب.

المجزرة التي لم تُكتب

ما حدث في المعمداني لم يكن مجرد قصف. كان رسالة علنية، لا مأوى لكم، لا صوت لكم، ولا اسم. لكن الأسوأ والأقسى علينا من القصف كان الصمت والتعنّت في تحليل المجزرة ورفض تسمية الأشياء بمسمياتها. ما كان أخطر من الجريمة في بعدها الضيق كان "تمييعها" في إطارها الأوسع والأشمل، والإخفاء القسري لأصوات الناس، شهداء كانوا أم ناجين.

ما هو أشد فتكًا من صواريخ المحتلّ اللغةُ التي تُعيد رسم الحقيقة على مقاسه، وعملية "التسويف" الممنهجة التي مورست علينا في إطار الصدح بالحقيقة العارية، كنتم شركاء في الجريمة أيضًا. وسط الركام، تظل الكلمات الدقيقة آخر أشكال المقاومة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.