تصميم أحمد إسماعيل
قيود كثيرة تسعى المرأة للتحرر منها في المجتمعات الشرقية

الغسيل البنفسجي.. تجميل وجه السلطة بألوان التمكين الباهتة

كيف يساعد تمكين النساء السلطات على حفظ ماء وجهها؟

منشور الاثنين 21 يوليو 2025

للونين الوردي والبنفسجي مكانةً خاصةً ومُميّزة في وجداننا كنساء. أقولها من منظورٍ يعي ذاته أولًا، ليتمكّن من إدراك ما حوله ثانيًا؛ الوردي يعكس رقتنا، والبنفسجي يعكس قوتنا.

الألوان سلاحنا الناعم، لا نريدها أن تتحوّل إلى سلاح يُشهَر في وجهنا سياسيًا، ولكن السياسة لا تترك للألوان براءتها الأولى. يُستخدم البنفسجي لتغليف سياسات أبعد ما تكون عن تحررنا من القيود التي فُرضت علينا كنساء. فهل نعي المعنى الحقيقي لمصطلح الغسيل البنفسجي/Purplewashing؟ ألفظه بالعربية، لا ترفًا لغويًا، بل كي نحفظه أولًا ونعرّيه ثانيًا، طبقةً تلو الأخرى؛ "الغسيل البنفسجي" هو التمكين المزيّف الذي يُستخدم لتزيين القمع.

المصطلح مشتق من مفاهيم مشابهة كالغسيل الوردي/Pinkwashing المستخدم لتسويق دول وسياسات من خلال قضايا المثلية الجنسية، والغسيل الأخضر/Greenwashing الذي تستخدمه الشركات لتبدو صديقةً للبيئة دون تغيير فعلي.

هكذا تبرِز حكوماتٌ ومؤسساتٌ وشركاتٌ دعمها لحقوق النساء من خلال تعيينهن بمناصب، وإطلاق حملات تمكين، أو ترويج خطابات نسوية دون تغيير حقيقي في بنية التمييز أو العنف أو الإقصاء ضد النساء.

التمكين واجهة

منذ عام 2016، بدأت المملكة العربية السعودية في الترويج لصورة المرأة المُمكنة عبر رؤية 2030؛ تم تعيين نساء في مناصب عليا، وسمح لهنّ بقيادة السيارات، والعمل في مجالات جديدة.

لكن بالتوازي، تعرّضت ناشطات نسويات بارزات مثل لجين الهذلول وإيمان النفجان وعزيزة اليوسف للاعتقال والتعذيب، فقط لأنهن طالبن بالحقوق ذاتها التي أصبحت تُمنح بإرادة السلطة. اعتقلت لجين لدعمها حق القيادة وإنهاء ولاية الرجل عليها، وحكمت عليها محكمةٌ متخصصةٌ بالسجن عامين ونصف حتى أفرج عنها عام 2021 مع تأجيل جزئي للحكم.

وأكدت مصادر حقوقية تعرضها للتعذيب الجنسي والتحرش أثناء الاعتقال، وهذا إن دل على شيء يدل على  تجلي الغسيل البنفسجي بأوضح صوره، أي لا يُطلب من المرأة أن تكون ناشطة أو حرة، بل أن تكون "نموذجية" تُستخدم أداة ترويج.

أُطلق في الإمارات مجلس التوازن بين الجنسين دون آليات رقابية مستقلة

تُفاخر الإمارات بعدد الوزيرات في حكومتها، وتُشارك بانتظام في مؤتمرات دولية حول تمكين المرأة. لكن خلف هذه الصورة، تعاني النساء العاملات، خصوصًا المهاجرات، من غياب الحماية القانونية الحقيقية، وتواجه الناشطات والناقدات تهمًا بـالإساءة إلى الدولة عند التعبير عن مواقف نسوية أو حقوقية، إذ تعد  الإمارات بين الأسوأ عالميًا، بسبب القيود التي تفرضها السلطات على حرية التعبير.

في 2022، أُطلق في الإمارات مجلس التوازن بين الجنسين بهدف تقليص الفجوة بين الجنسين وتعزيز دور المرأة في مراكز صنع القرار وإطلاق المبادرات التي تدعم المساواة، ومن أبرز برامجه مؤشر التوازن بين الجنسين، التعاون الدولي مثل الأمم المتحدة للمرأة، والمبادرات الرمزية مثل تعيين سفيرات توازن في مؤسسات الدولة. لكن ذلك لا تصاحبه آليات رقابية مستقلة أو ضمانات حقيقية لحقوق النساء في الحياة العامة أو الخاصة.

هبة عبد الله، مصرية تعمل في مجال التسويق الرقمي في دبي منذ عام 2017 كوافدة لا تستطيع حتى التقدم بشكوى تحرش دون أن تهدد بفقدان عملي أو ترحل. "أعمل ساعات طويلة، ولا يحق لي الحديث عن أي شيء يمس حقوقي كامرأة"، تقول لـ المنصة.

هذه المفارقة بين الترويج الخارجي لصورة "المرأة المُمكنة" وتهميش النساء غير المواطنات أو المنتقدات للسياسات تشكّل أحد أبرز وجوه الغسل البنفسجي في هذه المنطقة.

تمكين من أعلى

تشغل النساء في مصر مناصب حكومية وقضائية، ويقدمنّ في الإعلام دليلًا على كسر السقف الزجاجي. لكن هذا التمكين من أعلى لم يرافقه إصلاح حقيقي في القوانين التي تقيّد حقوق النساء، مثل قوانين الأحوال الشخصية والعنف الأسري. كما تعاني المنظمات النسوية المستقلة من الملاحقة القانونية.

على أرض الواقع، رغم ما تظهره الدولة من دعم للمرأة، فإن مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي أُعلن عنه في 2021، وأُعيد طرحه في 2024 بصيغة مختلفة تضمّن مواد تُعيد إنتاج السيطرة الذكورية وتُضعف وضع النساء قانونيًا من عدة نواحٍ، منها الولاية القانونية على الأطفال للأب، فالأم لا تستطيع نقل ابنها من المدرسة أو السفر أو إجراء عملية جراحية دون موافقة الأب، كذلك حق الولاية في الزواج، فالطلاق والانفراد بالقرار للزوج.

هذه الازدواجية بين خطاب رسمي لتمكين المرأة وواقع قانوني/أمني يقيّدها هو أحد أبرز أوجه الغسيل البنفسجي، وهو ما تبرهن عليه الناشطة الحقوقية أمينة إبراهيم بأنه رغم صور النساء التي كثيرًا ما نراها خلف مكاتبهن تحت مسميات براقة، فالسلطة الحقيقة لاتخاذ القرارات تكون في الغالب بيد الرجال، فهنّ لا يمتلكن سلطة فعلية للتغيير، ولا يُعبرن عن كل قضايا النساء، خصوصًا الذكوريات منهنّ، وهذا ما يخلق التباسًا.

وكما تقول الناشطة الحقوقية لـ المنصة فإن بعض النساء يعتقدن أن الأمور بخير لأنهن "يرين امرأة في التليفزيون" بشكل براق، بينما لا يشعرن بفرق في حياتهن اليومية الغارقة في العنف، لذلك نحتاج للتوعية بالحقوق، وتعديل السلوك الذكوري الموروث بداخلهن، وفهم أن ليس كل امرأة في الإعلام هي بالضرورة نبيًا للحرية والمساواة. 

يتحول التمكين إلى أداة تطويع لا تحرر ويغدو الخطاب النسوي الرسمي غطاءً لسياسات سلطوية

كذلك الحال في تونس، تُستخدم قضايا النساء أداةً سياسيةً وإعلاميةً، رغم كونها المرأة التونسية تمتاز بقوانين الأحوال الشخصية المنصفة للمرأة فإن الإحصاءات تكشف تهميش حقوق النساء الحقيقية واستبعاد أصواتهن المستقلة. 

تظهر الأرقام تناقض هذا التمكين الظاهري مع الواقع، فنسبة التمثيل النسائي ارتفعت في البرلمان في 2014 إلى نحو 31%، مقارنة بالنسبة في المجلس التأسيسي السابق والتي كانت 29%.

أما في انتخابات 2023 المقترنة بالدستور الجديد، فتراجعت النسبة إلى  16.2%، مقابل 23% في برلمان 2019. هذا الانحدار يعد أدنى مستوى تمثيل منذ 2011، ويقلّ بشكل ملحوظ عن المتوسط العالمي البالغ 26.5 %.

تؤكد الصحافية التونسية ريم بن خليفة أنه "رغم التقدم النسبي، توظف النساء كرموز لتبييض سجل الأنظمة، بينما تتعرض كثير من الناشطات المستقلات للتهميش فقط لأنهن يرفضن الانخراط في هذا المشهد المسرحي". 

مثال على تهميش أو استهداف الناشطات المستقلات ما تعرضت له الناشطتان شريفة الرياحي، وحميدة سنية الدهماني المحكوم عليهما بالسجن، وغيرهما من النماذج التي جرى توقيفها أو فرض قيود قضائية عليها بدعوى "التآمر" أو "تبييض الأموال" أو "خطاب الكراهية".

وترى ريم أن هذا التمكين السطحي لا يخدم قضايا النساء، بل يُربك الحراك النسوي الحقيقي ويشوّش على مطالبه الجذرية، مضيفة لـ المنصة "لا يمكن مواجهة هذا الواقع إلا بتمكين نابع من القاعدة، لا من الأعلى. من النساء أنفسهن، من واقعهن، ومن حاجتهن لتغيير حقيقي وليس استعراضًا سياسيًا".

هكذا، يتحول التمكين إلى أداة تطويع لا تحرر، ويغدو الخطاب النسوي الرسمي غطاءً لسياسات سلطوية، في الوقت الذي تُواجه فيه الحركات النسوية المستقلة التهميش، والمراقبة، بل أحيانًا التشويه

رمزية المقاومة والتهميش المزدوج

تُقدَّم المرأة الفلسطينية رمزًا نضاليًّا في وجه الاحتلال، من "أم الشهيد" إلى "الأسيرة المحررة"، أي تحويل المرأة إلى أيقونة نضالية تُختصر في التضحية، لا في الحقوق أو الفاعلية السياسية والاجتماعية؛ يجري اختزالها في دور رمزي داخل "الهوية الوطنية"، دون مساءلة للواقع الذي تعيشه أو للتمييز ضدها داخل المجتمع.

في المقابل تتعرض ناشطات فلسطينيات للتشهير والتشكيك في وطنيتهن بمجرد مطالبتهن بالمساواة أو بمساءلة السلطة. على سبيل المثال النائبة البرلمانية خليدة جرّار، المنتمية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي من الفصائل اليسارية/PFLP. الناشطة النسوية المعروفة بمناهضتها للاحتلال وللتمييز اعتُقلت عدة مرات (2015، 2019، 2021) وحُكم عليها بالسجن الإداري دون محاكمة.

حين يُستخدم الحديث عن حقوق النساء في فلسطين من قبل الاحتلال أو داعميه دون الإشارة إلى واقع الاستعمار والعنف البنيوي، فإننا أمام حالة نموذجية من "الغسيل البنفسجي"، تقول بيان سلمان ناشطة فلسطينية مهتمة بحقوق المرأة لـ المنصة.

وتؤكد بيان أن هذا النوع من الخطاب لا ينفصل عن منظومة النسوية الليبرالية البيضاء، التي تركّز على تمثيل النساء في المؤسسات، وتتجاهل البُعد السياسي والتحرّري لقضايا النساء تحت الاحتلال. "حين تُعرض الجندية الإسرائيلية كرمز للتمكين النسوي، بينما يمارس القمع ضد نساء شعبي، فهذا ليس تمكينًا، بل تسويق للقمع بوجه ناعم". 

وتشير إلى أن هذا الخطاب يُفرغ النضال النسوي في فلسطين من مضمونه، ويحوّله إلى قضية شكلية، تُستخدم لتبرير سياسات القمع والاستعمار، بدلًا من دعمه كحراك تحرّري مقاوم.

الغسيل البنفسجي لا يعني فقط خداع الجمهور، بل خداع النساء أنفسهن. حين يجري تسويق رمزية التمكين بدلًا من ممارسته فعليًا، فتصبح رموز القوة أدوات تهدئة، لا تغيير. لذلك، فإن تفكيك الغسيل البنفسجي ليس ترفًا لغويًا، بل خطوة أساسية في مسار نضالنا من أجل مساواة حقيقية، لا تمثيلًا زائفًا.