تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
السادات والسيسي والشرع

السادات منتظرًا أحمد الشرع

منشور الأربعاء 16 يوليو 2025

خلال سنة التفاوض المصري-الإسرائيلي، بين إعلانه مبادرته بالذهاب إلى القدس، وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد في البيت الأبيض، اعتاد الرئيس أنور السادات تسويق مبادرته ومفاوضاته بعدة حجج أساسية، من بينها أن الجميع سيأتون وراءه. والجميع المقصودون هنا هم السوريون والفلسطينيون والأردنيون.

خلال هذه السنة نفسها، لم يتوقف السادات أبدًا عن تمجيد ذاته، وبابتذال وفجاجة أحيانًا، واصفًا نفسه بالعبقرية، والدهاء، والشجاعة، وبأنه سابق لزمنه، وفعل ما سيغير مستقبل البشرية. استخدم هذه التعبيرات نفسها، رغم عدم لياقتها، وتعبيرها عن حالة عميقة من النرجسية، والانفصال عن الواقع، وإخفائها شعورًا مؤلمًا بضآلة الحجم الحقيقي للذات التي كان يبحث عنها الرئيس.

سؤال المجد

السادات وبيجن وكارتر في ميدان جيتيسبرج، ولاية بنسلفانيا، الولايات المتحدة 10 سبتمبر 1978

بمناسبة ذكرى 30 يونيو، نُشرت كلمةٌ مصورةً للرئيس السيسي حذَّر فيها من التطبيع. قال "إن مصر الداعمة دائمًا للسلام، تؤمن بأن السلام لا يُولد بالقصف، ولا يُفرض بالقوة، ولا يتحقق بتطبيع ترفضه الشعوب. فالسلام الحق يبنى على أسس العدل والإنصاف والتفاهم. إن استمرار الحرب والاحتلال لن يُنتج سلامًا، بل يغذي دوامة الكراهية والعنف. ويفتح أبواب الانتقام، والمقاومة التي لن تُغلق. فكفى عنفًا، وقتلًا، وكراهية، وكفى احتلالًا وتهجيرًا وتشريدًا".

تحمل كلمات السيسي عددًا من الإشارات ذات الدلالة. أن مَن يُحذِّر مِن التطبيع رئيسُ أول دولة عربية مطبعة مع إسرائيل، أول دولة خرجت عن الإجماع العربي، وعن قدرٍ لا يُستهان به من الإجماع الإفريقي والآسيوي، على عزل إسرائيل ومقاطعتها. أنه يعود للتحذير من اتفاقيات مفروضة بالقوة، ناهيك عن استخدامه تعبير "المقاومة"، باعتبارها نتيجة مباشرة لممارسات إسرائيل.

فور مشاهدتي لهذا الخطاب تفجر في ذهني، ولأول مرة، سؤال: هل ما كان يردده السادات بأن جميع العرب سيأتون وراءه، بعيدًا عن هدف التسويق والدعاية، يُعبِّر عن رغبة وقناعة حقيقية؟ هل كان ينتظر فعلًا أن يأتي وراءه حافظ الأسد، أو ياسر عرفات، أو الملك حسين؟ هناك جانبان للإجابة عن السؤال؛ أحدهما متعلق بشخص السادات، بذاته. والآخر سياسي، يتعلق بفكر وأساس الدولة المصرية الحديثة. وكلاهما يحتمل إجابات كثيرة، ويحتمل الإجابة وعكسها.

الجانب الذاتي لا ينفصل عن سمة النرجسية الساداتية؛ البحث عن المجد، ونيل الاعتراف بفرادته واستثنائيته. من هذه الزاوية لم يكن السادات ليرضى بأن يشاركه هذا المجدَ آخرون يراهم أقل شأنًا منه، واعتاد أن يتعالى عليهم من ضمن استعلائه على العرب عمومًا. حتى مناحم بيجن، شريكه منذ اللحظة الأولى في المشروع، ومن قبل الإعلان في البرلمان زيارة القدس عبر الاتصالات السرية بدولة الاحتلال، كان سببًا في غضب السادات خلال مفاوضات كامب ديفيد، لأن كارتر ساوى بينهما في التمجيد، صارخًا بأنه صاحب المبادرة. دون إنكار أن الإجابة العكسية تصلح بدورها، فتبعية العرب للسادات تحقق له شعورًا بالمجد والريادة، بأنه قائد حقيقي.

المفارقة أن الجانب السياسي يحتمل أيضًا الإجابة وعكسها. فتبعية الجميع للسادات في مسار التفاوض، لحل ما يسميه بـ"الأزمة" الفلسطينية، يضمن ريادة مصر ودورها عربيًا. لكن هذه الرغبة السياسية، إن كانت موجودة، ستكون مرتبطة بالمراحل الأولى من مسار كامب ديفيد. لكنها ربما تحولت إلى عكسها بعد بداية المفاوضات في الإسماعيلية، وخلال المراحل التالية التي قادت لمنتجع كامب ديفيد.

بكلامه مع بعض أعضاء فريقه، وأدائه معهم، بالإمكان استنتاج أن السادات أدرك سريعًا غياب النية الإسرائيلية للحل الحقيقي والشامل. وأدرك أنه تورط بالانفراد ونسف مسار جنيف الجماعي بضمانات دولية. وأدرك أيضًا أنه بممارساته السياسية دمَّر أي إمكانية لأن تتسع العملية لأكثر من مصر. ومن المحتمل أنه أدرك، بالإضافة لكل ما سبق، أن "الجميع"، العرب الآخرين، لا يُقدِّرونه كما تصور، ولا يرونه القائد الذي يستطيعون الوثوق به والسير وراء مبادراته، فهو ليس عبد الناصر.

لم يكن باستطاعة السادات التراجع، أو النزول من على خشبة المسرح. ولأن مصر الرسمية كسرت الإجماع، لانت، واستجابت، ووقعت. فربما تصورت الأجهزة السيادية المصرية وقتها، المخابرات على سبيل المثال، ووزارة الخارجية، وليس السادات، أن غياب الجميع الذين لم يحضروا، مفيد لمصر كذلك. فتشدد الأطراف الأخرى ربما يفيد الطرف اللين، يمنحه المزايا، ولا يصفي القضية الفلسطينية بصيغة التجميد، لتنفجر لاحقًا ومن جديد في وجوه الجميع.

سؤال العزلة

علينا العودة هنا لكلام السيسي، والأخذ في الاعتبار توقيته، بعد 21 شهرًا من عملية إبادة غير مسبوقة، وبفجاجة أمام العالم كله، وتضمنها لكل أنواع الجرائم المعروفة كجرائم ضد الإنسانية، والتورط العربي كذلك، المتمثل في تأخر مصر والعرب عن اتخاذ مواقف حقيقية لإيقافها، واكتفائهم بدور حاملي الرسائل والوسطاء ممثلين في قطر ومصر، بدلًا من لعب دور ضاغط ومهدد للمصالح الإسرائيلية. وهو ما يضعفهم في مواجهة إسرائيل، فقد عرفت آخر ما بإمكانهم فعله.

في هذا الوقت تحديدًا وكأنهم يعيشون في عالم موازٍ ينشط دعاة "المسار الإبراهيمي"

خلقت الإبادة حالة تشدُّد عالمية في مواجهة إسرائيل، وتوسعت الدعوات لمقاطعتها وعقابها، بل ولأول مرة مسارات قضائية دولية مفتوحة لمحاكمة قياداتها. وخلقت كذلك حركة حقيقية ونشطة في كل أنحاء العالم لوضعها أول مرة في تاريخها في إطار صورتها الحقيقية؛ دولة فاشية ومنبوذة. وفي هذا الوقت تحديدًا، وكأنهم يعيشون في عالم موازٍ، ينشط دعاة المسار الإبراهيمي في دفع دول عربية أخرى لتوقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل. في الوقت المفترض أن تفعل فيه هذه الدول العكس؛ تُجذِّر من عدائها لإسرائيل ومن محاولات عزلها، بدلًا من مصالحتها.

ربما يكون كلام السيسي مُوجهًا بالدرجة الأولى لأحمد الشرع، الجولاني سابقًا، قبل أن يكون موجهًا للمملكة العربية السعودية. فصاحب السلطة الجديدة التي ما زالت هشة في دمشق، وبسبب هشاشتها وحداثتها، وكذلك أهمية بلده، مُحمّل بالقدر الأكبر من التوقعات والأخبار عن مفاوضات، أو "حوارات". والواقع عليه الضغط الأكبر كي يوقع، ويتنازل عن أرضه التي لم يتنازل عنها أبدًا النظام المستبد الذي حاربه. ومن دون أن يملك في المقابل أي أوراق للمساومة.

تعلم الدولة المصرية الفرق بين التطبيع الآن، خلال الإبادة أو بعدها، والتطبيع في أي وقت سابق. وربما تكون منتبهة للفروق في نتائج قرار التطبيع داخليًا، في السعودية وفي سوريا، بناءً على درجة ارتباطهما المختلفة كليًا بالقضية العربية والفلسطينية. وربما يدرك السيسي أن استمرار الإبادة، ومشروع التهجير، وتوسيع رقعة التطبيع الآن، تهدد نظامه ذاته، وتهدد دول كبيرة من بينها سوريا والعراق، قبل أن تكون مهددةً لدول الخليج، القادرة على النأي بنفسها عن آثار الكارثة، وإن لبعض الوقت.

سؤال الضرورة

حكى مرارًا مصطفى البرغوثي، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، كيف أنه وشخصيات فلسطينية وطنية بارزة، مثل حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي وإدوارد سعيد وغيرهم، كانوا أقلية سنة 1993 في رفضهم لاتفاق أوسلو. وحكى كيف أنهم شعروا بالعزلة أمام الشعب الفلسطيني، بالذات في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعدما تصور أن الاتفاقيات ستحل مشكلته، وسيحصل على دولة، وأن الفدائيين عائدون بسلاحهم.. إلخ. وأوضح البرغوثي في لقاء مع قناة الجزيرة في ذكرى النكبة قبل شهرين، أن هذا الشعور بالعزلة، ورفض أطروحاتهم استمر لمدة سنة، حتى بدأ الفلسطينيون يكتشفون أن أوسلو كارثة جديدة.

https://www.youtube.com/watch?v=WN8-6MxJM9w

تحذير السيسي من التطبيع، ومن الاستجابة لمنطق القوة والاحتلال، ينبع على الأغلب من معرفته ما لم يتعلمه أحمد الشرع بعد؛ الفرق بين السلطة والدولة، وكيف أن إدارة السلطة تختلف عن إدارة الدولة. وأن الأولى أسهل بكثير من الثانية، وأن وصول سوريا لاتفاق مع إسرائيل لا يتضمن عودة الجولان كاملة لسيادتها، يمس صميم هويتها الوطنية، كدولة، كبلد، كشعب. فهو ليس مجرد إجراء سلطوي للإدارة اليومية.

السؤال الآخر الذي لا يمكن تجاهله هنا، هو سؤال الشعبية والشرعية. امتلك عرفات كليهما لتوقيع اتفاق أوسلو. وكانت لدى السادات الشرعية والشعبية اللتان مكَّنتاه من توقيع كامب ديفيد. شرعية غير مستمدة فقط من حرب أكتوبر 1973، بل من مشاركته في ثورة 1952 ونظامها طيلة عقدين ونصف العقد، ومستمدة من تاريخ مصر مع الصراع العربي الإسرائيلي وما قدمته خلاله. والاثنان لم يوقعا وقت إبادة أو بعدها. ومن دون إغفال افتقاد كل الحكام العرب الآن للشرعية والشعبية؛ يبدو الشرع بالذات يفتقد الاثنين أكثر من غيره. لا تستند سلطته إلى أي شرعية سوى رضاء الخليج وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية عنها. أما شعبيته، فتتراجع يومًا بعد يوم داخل طائفته نفسها، ليذكر الجميع، وإن أنكر بعض هذا "الجميع"، بالاسم الذي اختاره لسنوات؛ الجولاني.

نعم، توقعت قطاعات واسعة من الشعب المصري، من خارج المعارضة، أن تمنح الاتفاقية مصر والعرب السلام والاستقرار والرخاء، وأن يكون مصيرها التوسع لتضم بقية العرب وأولهم الفلسطينيون. تأخر المصريون قليلًا  في إدراك حقيقة الوهم، الذي لم يتخلص منه الجميع حتى هذه اللحظة، ويتلخص في فكرة دعائية سطحية صنعتها السلطة السياسية المصرية وروجت لها أجهزتها الإعلامية، ووقعت في النهاية في فخها؛ إما تطبيع وسلام واستقرار، أو حرب ودمار وخراب.

هنا يكمن التناقض، أن رئيس الدولة المصرية لا يحطم نهائيًا الفكرة الدعائية "إما التطبيع أو الحرب"، مُغفلًا كل الإمكانات المتاحة بينهما، ومحذرًا الآخرين في الوقت نفسه، من التطبيع ومن اتفاقيات السلام في هذه اللحظة مع دولة الإبادة. دون أن يبادر بأي مما هو متاح أمامه بين التطبيع والحرب؛ تجميد العلاقات، إغلاق سفارات، إدخال مساعدات من الجانب المصري دون إذن إسرائيل، تقديم شكاوى لمجلس الأمن، رفض صيغ الضغط الإسرائيلية على حركة حماس علانية، وغيرها.

أنتجت الاتفاقيات الإبراهيمية في موجتها الأولى عملية طوفان الأقصى. وربما تنتج الاتفاقات الإبراهيمية في نسختها الثانية ما يتجاوز طوفان الأقصى؛ توسيع الصراع والعداء، وتغذية طاقاته الداخلية التدميرية ضد الجميع؛ ضد إسرائيل وضد الأنظمة. مقابل أوراق معاهدات لا قيمة حقيقية لها في منطقة استعادت شعوبها روح العداء لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر. واستعادت روح العداء لمنهج الانسياق وفرض الأمور بالقوة والدم. فنرى صورة مهزوزة للسادات، منتظرًا أن يلحق به رئيس سوريا بعد فوات الأوان، والسيسي يراقبهما من بعيد.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.