تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
هل في الزواج من راشدات؟

في الزواج كلهنَّ قاصرات

منشور الأربعاء 10 أيلول/سبتمبر 2025

كنتُ أُشرِف على صرف لقاحات كورونا في مركز التطعيم الذي أعمل فيه طبيبةً، عندما دَخَلتْ مع جدتها فتاةٌ عمرها أربعة عشرة سنةً سنُسمِّيها بُدُور. دوَّنتُ بياناتها وقبل إرسالها إلى الغرفة المجاورة لتتلقّى التطعيم، فاجأتني الجدة بسؤال: هينفع تحمل عليه؟ لم أعرف من أين أبدأ إجابتي، لكنها تابعت "أصلها هتتتجوز الشهر الجاي، وعاوزينها تحمل".

لم يكن إذن سؤالًا للتأكد من سلامتها إذا وقع الحمل، بل لتسريع إتمامه. بعد الأخذ والرد، ارتاحت لي الجدة على ما يبدو، لتخبرني أن بُدورَ "شاطرة في المدرسة" وتريد إكمال تعمليها، لكنَّ أباها وعمَّها قررا تزويجها "وطالما قالوا يبقى ماحدش ليه كلام بعد كلامهم".

طوال حواري مع الجدة لم ترفع بُدور رأسها عن الأرض. لم تنظر إليَّ ولم تُجب عن أسئلتي. حاولْتُ أن أخبر بُدورَ بعينيَّ وهي تغادر بما لم أستطع قوله، لأن أحدَ الأشياء التي اجتهدُّت كيْلا أنساها أثناء خدمتي في القطاع الطبي أنَّني طبيبةٌ وحسب، ومن الأفضل للجميع أن أضع لساني في فمي ما لم يتعلق الأمر بتقديم الخدمة الطبية. لكنَّ بُدُورَ انصرفت دون أن تبرح عيناها الأرض.

ما أشبه بُدُور بفتاة من المنيا ظهرت في الفيلم التسجيلي بنات النيل (1982) دون أن نعرف اسمها. سأُسمِّيها صباحَ لأن ابتسامتها تشبه تسلل النور إلى العتمة. تقول صباح إنها كانت تريد -مثل بدور- متابعة تعليمها وهي في الثانية عشرة، عندما قدَّر جدُّها أنها كبرت، فقال لأبيها "طلَّعها م المدرسة"، فحَلَف عليها أبوها. تحكي ذلك وهي تبتسم في تسليم، وكأن ذلك اليمينَ كلمةُ الله التي لا تُرد. يومها انقطعت علاقتها بالتعليم، ولم تستأنفها إلا بعد الالتحاق بفصول محو الأمية، كما سنعرف لاحقًا في الفيلم.

في الحاضر كما في الماضي، لم تكن بدور ولا صباح حالةً فرديةً، لأن 25% من العرائس اللاتي تزوجن في مصر عام 2022 كُنَّ قاصرات أعمارهنَّ أقل من 18 عامًا، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

في التقزيم الممنهج

هناك كلمة محورية في قراءة علم النفس للإنسان، وهي agency. تُعرَف في العربية أحيانًا بالقدرة على الفعل، وأحيانًا أخرى بالاستقلالية، وأحيانًا ثالثة بالإرادة، وهي في الحقيقة كل ما سبق؛ قدرة الإنسان على إنفاذ إرادته وتحمُّل التبعات. تتربى تلك القدرة لدى كلِّ إنسان محكومةً بالظرف الاجتماعي، والبيئة، وحدود الممكن. وهي كذلك مُرتَكز الهوية والشعور بالذات. ولا يمكن أن تتطور في ظل التبعية المطلقة، أو بمعزل عن النقاش، والتعبير، والتفاوض.

توليفة الختان والحرمان من التعليم هي الحلقة التأسيسية في مسلسل كسر العين المُمنهج

يقضي الإنسان حياته في اختبار مستمر لحدود إرادته من إرادة الآخرين، وقدرته على الفعل والتأثير في مقابل قدرة الآخرين وسلطتهم. وهي تجربة تختلف جذريًا باختلاف النوع الاجتماعي، لأن الفارق كبير بين قدرة الذكر والأنثى على فرض الإرادة، وهو ليس فارقًا طبيعيًا أو فطريًا كما يحلو لحراس الامتيازات الذكورية أن يُصوّروا للآخرين.

سرعان ما تختبر صباح هذا الفارق بنفسها. وثقت بالكبار، وأرادت أن تكون فتاةً صالحةً تُقبِل على الطهارة، فأحضرت بنفسها المَوْسَى والسبرتو لمن ستتولى ختانها. لكن يوم قُطِّع بظرها لم يُسمح لها حتى بالصراخ. تقول بوجهٍ لا يبدو عليه الأسى "لَجيت الطهارة صعب. نَزَل منّي دم كَتَير.. وضعِفت". ثم تتابع "وجعدت أعيط طول النهار، لحد آخر الليل. وأمي تِجول لي بس، أبوكي برَّه! بشويش إحنا نطاهر البنات بشويش الرجالة ماتدراش.. يجولك عيب". هكذا بدأ يومها بالإقبال طوعًا على "الطهارة" وانتهى بالنزيف والخزي، وبالصرخات المكتومة -بشويش- كيْلا تجرح أذن أبيها.

وإلى اليوم، لا تزال الصباحات كُثُرًا. وثَّق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2021 أن 86% من النساء اللاتي سبق لهن الزواج، ما بين 15 و49 سنة، تعرَّضن للختان، في مسحٍ سجَّل اقترانًا بين الختان والحرمان من التعليم في مستوياته المختلفة. أي أن أكثر من ثماني نساء بين كل عشرٍ من هذه الفئة، قُطّع بظرها، وبنسبة كبيرة حُرمت من التعليم.

هذا الاقتران ليس صدفةً؛ فالانتهاك المباشر للأبدان أقصر طريق للهيمنة والسطو على الإرادة البشرية الناشئة. هيمنةٌ لن تدوم دون حصار العقل وإرباكه. لذا فهذه التوليفة بين الختان والحرمان من التعليم هي الحلقة التأسيسية في مسلسل كسر العين المُمنهج الذي مُورس ضد صباح، ويُمارس ضد بُدُور. مسلسل سوف تكبر فيه بُدُور كما كبرت صباح، مُحاصرَة. بلا بدائل حقيقية. لا تعليم ولا عمل. لا صداقات، ولا ظهير اجتماعي، ولا هامش للاكتشاف والتأثير يتجاوز باب المنزل.

هكذا ستكبر بُدُور لتحقق النبوءة، ويصبح أفضل خياراتها هو ما قرره لها سلفًا أبوها وعمها. لقد تواطأ الكل ضدها؛ أهلها، ومجتمعها القريب، والثقافة السائدة، والمسارات الفعلية لتطبيق القانون، والطبيبة التي سمعت ورأت ثم سكتت. اتفقَّ الكل على أن هذه هي طبيعة الأمور، وأن للأب كل الحق في التصرف بابنته، وارتهان مستقبلها. حقٌ هو أشبه بامتياز السادة على العبيد. وفي نهاية المطاف، هناك إنسان لديه من السلطة ما يقرر به مصير إنسان آخر. كأن يوقّع عقدًا بالنيابة عنه لينتقل من سلطته إلى سلطة سيدٍ آخر، وفي هذا القرار لا يوجد أدنى اعتبار لإرادته.

راشدات لكن قاصرات

أرادت صباح أن تكون فتاةً صالحةً فأحضرت بنفسها المَوْسَى والسبرتو لمن ستتولى ختانها. لكن يوم قُطِّع بظرها لم يُسمح لها حتى بالصراخ

لكن من زاوية أخرى؛ توازن السلطة في زواج القاصرات ليس استثناءً من التوازن العام للأدوار، ولا شذوذًا عن علاقات القوة التقليدية في زواج الراشدين. فبمجرد إتمام العقد بين الزوج ووليّ الزوجة، تتنازل الزوجة ضمنيًا عن سيادتها على جسدها، ومصيرها، واستقلال قرارها، في مقابل اضطلاع الرجل بمهمته الأولى وأحيانًا الوحيدة في الإنفاق. حتى يبدو الزواج بين الراشدين في أغلب الأحيان وكأنه امتدادٌ لمنظومة زواج القاصرات، من حيث قيامه على تقويض الاستقلال الشخصي النساء، وتقزيم إرادتهن، وإن اختلفت حدوده. 

ففي باب السيادة على المصير؛ الفتاة التي نجت من الزواج في طفولتها ونالت حظًا من التعليم، ستجد نفسها عاجلًا أم آجلًا أمام خيارٍ صِفْريٍّ: إما المسيرة الشخصية أو العائلية. وحتى "التفهّم" الذي قد يبديه الزوج لتطلعاتها الشخصية، يكون محدودًا بشروط تبدو بديهية لا تحتاج للمراجعة؛ تبدأ بـ"عدم إخلالها بوظائفها الأساسية كزوجة وأم"، وقد تصل إلى مصادرة أموالها.

هذه المساومة الضمنية على الذات في مقابل الحب من أهم ما يُشكّل المصير الاقتصادي للنساء. فـ"الأدوار الأساسية" المفترضة للنساء كالعمل المنزلي والرعائي؛ أعمال ذات طبيعة اقتصادية، تبلغ قيمتها حسب تقديرات منظمة العمل الدولية 11 تريليون دولار، ما يُمثِّل 9% من إجمالي الناتج العالمي، متفوّقة على قطاعات حيوية كالزراعة والبناء والخدمات المالية. ورغم أنها تستهلك أجساد النساء، وعظامهن، ومفاصلهن، وأعمارهن، وتشكّل معارفهن؛ يُتوقَّع أن تختارها "المرأة الطبيعية" بلا مقابل، ولا تذمُّر.

هذه التوقعات غير مبنية على معرفة حقيقية بطبيعة النساء، وإنما افتراضات مُفصلَّة للدور المرسوم لهن مسبقًا. ومخالفة هذه التوقعات لها أثمان. فمثلما يوظّف الترغيب والعقاب لتشكيل سلوك الدواب؛ تُدرَّب النساء على التآلف والعمل في هذه المنظومة إما بالترغيب عبر تكريس الطاعة كفضيلة بل شرطٌ لقبولها عند الله، أو بالترهيب من خلال الوصم والتأثيم.

يخبرنا الشيخ الشعراوي أن النشوز هو العُلُوّ، الذي يستوجب من الرجل التدخل لتذكير المرأة بما اعتبره "مكانها الطبيعي". وتتصاعد حدة أدوات الترويض حتى تصل إلى الإخضاع بالقوة، لأن هناك "حاجات ماتجيش إلا بالضرب" كما يُعلِّمنا الشيخ.

وفي باب السيادة على المصير أيضًا، بمجرد العقد؛ تنتقل المرأة من ولاية أبيها إلى ولاية زوجها. أي تحتاج إلى إذنه -نظريًا- في كل تحرك، مهما بلغت من العمر وأحرزت من رجاحة العقل. وإذا رفض طلبها، يسقط حقها في إنفاذ إرادتها مهما كانت أسبابها قوية. لا تتوقف سلطة الزوج عند إنفاذ قرارها أو إبطاله في أمور كالخروج أو السفر، بل تمتد إلى حقها في الحياة والعدالة.

قاصرات أو راشدات شتّان بين إرادتهن وإرادة الذكر

فالزوج الذي يقتل زوجته إذا فاجأها في حالة "زنا"، ينتهي به الأمر غالبًا بعقوبة حبس مخففة وفق المادة 237 من قانون العقوبات. أما الأب أو الوليُّ الذي يرتكب جرائم العنف المنزلي، فلا يخضع لقانون العقوبات أصلًا وفق مادته رقم 60، باعتبار "تأديب" البنات "حقًا مقررًا بمقتضى الشريعة" مارسه الأب "بنيةٍ سليمةٍ". خلاصة الأمر؛ إذا تعارض شعور الرجل بالإهانة مع حق امرأة تحت ولايته في الحياة، ينحاز القانون غالبًا لكرامة الرجل.

أما في باب السيادة على الجسد؛ فيتّخذ انتقال المرأة إلى بيت زوجها منحىً مشابهًا؛ فمثلما لم يحصل الأب على إذنها وهو يُقطّع أو لا يُقطّع جسدها عند ختانها، لا تُستأذَن في ذلك الجسد عند الجماع. يجتهد الداعية عبد الله رشدي لإقناعنا أن لا اغتصاب في الزواج، باعتبار عقد الزواج إذنًا مفتوحًا من الزوجة للزوج أن يُجامعها في أي وقت. وأنها وقتَ العقد - الذي لم تعقده بنفسها بل أبوها نيابةً عنها- كانت تعلم أنها إذا منعت نفسها عن زوجها تأثم. ولا يخفى على أحد الحديث الشائع الذي يتوعد المرأة التي ترفض الجماع بأن تبيت ليلتها تلعنها الملائكة.

شكلٌ آخر مُبتكر للترهيب، وهو الحصار بالذنب. فلا تستطيع المرأة، التي قطّعنا بظرها بالفعل وهي طفلة، أن ترفض ممارسةً لا تجلب لها أي متعة عندما تكبر. متعة النساء التي لا تهم الشيوخ على الإطلاق، مثلما لا تهمهم المرأة عمومًا إلا كموضوعٍ لمتعة الرجل أو كرامته. 

ولا يتوقف الانتزاع الممنهج لسيادة النساء على أجسادهن عند هذا الحد، بل يتسرّب إلى المجال العام بأشكال غير متوقعة. فمثلًا عند تلقّيها الرعاية الصحية، لن تتمكن المرأة التي تعاني مشكلةً في المبايض أو الرحم من الإقدام على أي إجراء طبي يقترب من هذه المناطق دون موافقة زوجها.

هذا الوضع وإن لم يكن قانونيًا؛ تحميه أعرافٌ راسخة. فالطبيب لا يريد أن يدخل صدامًا مع الزوج لاحقًا، باعتباره صاحب السيادة الفعلية على الوظائف الإنجابية لهذا الجسد. وطبعًا هذه الإزاحة ليست متبادلة، فيحق للزوج إجراء أي عملية في الخصيتين أو البروستاتا دون أن يطلب أحد إذن الزوجة أو يفترض غضبها.

وهكذا؛ قاصرات أو راشدات، شتّان بين إرادتهن وإرادة الذكر الذي حتى فيه غيابه لن يتجاوزه مقدِّم الخدمة الطبية الذي لا يعرفه. وفي حضورها، قد تصرخ المرأة ولن تُسمِع أحدًا لكيلا تُقطّع، أو تُضرب أو تُغتصب. 

رَحَلتْ بُدُور لكنها لم تغادرني. كان من الممكن أن تتبدّل الأدوار؛ لتكون هي الطبيبة وأنا الطفلة التي ستزفُّ إلى حياة لا شيء فيها يخصّها. أن أصبح في ولاية أحدهم قبل أن أعرف من أكون. أن يَلِجَني رجلٌ ما قبل أن أعرف جسدي، وحدود الألم، والحق في المتعة. أن أصبح أُمًّا قبل أن أجد صوتي.

كان يمكن، لولا أبي والحظ، ألَّا أرفع رأسي ثانيةً. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.