
دولارات البنوك.. المنافسة الشرسة بين الدولة والقطاع الخاص
تُظهر بياناتُ صندوق النقد الدولي تسارع معدل الاقتراض الحكومي بالدولار الأمريكي من البنوك المحلية لتصل إلى أعلى معدلاتها خلال تسع سنوات بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مقارنةً بتراجع اقتراض القطاع الخاص، ما يعكس مزاحمة قوية من القطاع الحكومي.
عرض الصندوق هذه البيانات في مراجعته الرابعة لاتفاق القرض الساري مع مصر منذ ديسمبر/كانون الأول 2022 ضمن دلائل التضييق على القطاع الخاص على عكس توصيات المؤسسة الدولية بمساندته باعتباره الأقدر على قيادة النمو الاقتصادي من وجهة نظره.
من يحصل على دولارات البنوك؟
وفقًا لتقرير المراجعة الرابعة للاتفاق الصادر عن الصندوق خلال يوليو/تموز الحالي، تضاعف إجمالي حجم الاقتراض بالعملة الأجنبية من البنوك المحلية مما يقرب من 30 مليار دولار في 2015 إلى نحو 60 مليار دولار بنهاية نوفمبر 2024. وكان للجهات المملوكة للدولة (التي تشمل الهيئات الاقتصادية) نصيب الأسد منه، إذ ارتفع حجم اقتراضها من أقل من 5 مليارات دولار إلى نحو 45 مليار دولار بنهاية الشهر، مقابل تراجع اقتراض باقي الشركات غير العاملة في النشاط المالي من 20 مليار دولار إلى نحو 16 مليارًا خلال الفترة نفسها.
https://public.flourish.studio/visualisation/24425549/"توسع الحكومة في تنفيذ مشروعات قومية تحتاج لتمويل أجنبي مثل مشروع المونوريل والمشروعات المدرجة تحت مسمى مشروعات قومية كبرى"، لهذا السبب تتسارع وتيرة استدانة جهات تابعة للدولة بالدولار من البنوك، وفق ما يؤكد عمرو الألفي رئيس قطاع استراتيجيات الأسهم بشركة ثاندر لتداول الأوراق المالية لـ المنصة.
كانت الحكومة أصدرت قرارًا في نوفمبر 2023 بتأجيل المشروعات التي تحتاج إلى مكون دولاري يُستورد من الخارج، وفي 2024 أصدرت قرارًا آخر بترشيد نفقاتها الاستثمارية.
ورغم هذه القيود، تُظهر مراجعة الصندوق الأخيرة أن الدولة لم تلتزم بكبح استثماراتها، حيث كان يفترض أن تقتصر على 350 مليار جنيه خلال النصف الثاني من العام المالي الماضي، لكن فعليًا أنفق 531 مليار دولار بنهاية يوليو/تموز 2024.
وجاءت مطالبات الصندوق بكبح الاستثمارات العامة على خلفية انتقادات تضخم هذه النفقات بدفع من المشروعات القومية مثل العاصمة الإدارية الجديدة وخطوط السكك الحديدية. هذا بجانب التوسعات الاستثمارية للقوات المسلحة خلال العقد الأخير، حيث يقول الصندوق إن "25% من الـ62 شركة التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية تم تأسيسها خلال العقد الأخير".
لكن الحكومة دافعت عن موقفها في خطاب النوايا المنشور بتقرير صندوق النقد الأخير بقولها إن إجمالي الموازنة الاستثمارية للعام المالي الماضي كان أقل من السقف الذي استهدفته عند تريليون جنيه، وموازنة العام المالي الجاري ستقتصر على 1.158 تريليون جنيه ما يجعل معدل نمو القيمة الحقيقية لهذه الاستثمارات صفرًا.
إلى جانب الهيئات المسؤولة عن التوسع في الإنفاق الاستثماري مثل هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، حذر الصندوق في تقريره أيضًا من تضخم قيمة الضمانات التي تمنحها وزارة المالية لتغطية الاقتراض المحلي والأجنبي للهيئة العامة للبترول، التي بلغت نحو 18% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتتفاقم الأزمات المالية لهيئة البترول مع زيادة وارداتها من الغاز المسال وعدم قدرة شركة الكهرباء على سداد كامل مستحقاتها، وفقًا للصندوق.
يوضح رئيس مركز العدل لدراسات السياسات العامة محمد فؤاد أن توجه الحكومة المصرية نحو الاقتراض المكثف من الجهاز المصرفي المحلي لم يعد خيارًا مؤقتًا، بل أصبح سمة هيكلية تعكس اعتمادًا متزايدًا على التمويل المحلي لسد فجوات متسعة في الموازنة العامة للدولة.
ويشير فؤاد في هذا الصدد إلى بيانات للبنك الدولي تعكس تراجع نصيب القطاع الخاص من الإقراض المحلي، بعد قياسه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث انخفضت في آخر عقدين من أكثر من 50% في 2004 إلى 27% في 2024.
يؤكد فؤاد لـ المنصة أنه مع ارتفاع تكاليف دعم الطاقة وتمويل الواردات، أصبح الاقتراض المحلي الأداة شبه الوحيدة المتاحة لضمان استمرار الإنفاق العام.
القطاع الخاص في متاهة
في مقابل تسارع وتيرة الاستدانة الحكومية، يعانى القطاع الخاص من إجراءات مشددة خلال السنوات الأخيرة في سبيله للحصول على القروض الدولارية، على خلفية ارتفاع مخاطر الإقراض بالعملة الأجنبية في ظل أزمة شح الدولار، وهو ما يراه الاقتصادي معتز يكن سببًا من أسباب انكماش الإقراض الدولاري للشركات.
يشرح معتز يكن لـ المنصة أن البنك المركزي المصري اتخذ إجراءات مشددة مؤخرًا لتقييد منح القروض بالعملة الأجنبية للقطاع الخاص، مشترطًا أن يكون لدى الشركات المقترِضة مصادر واضحة ومنتظمة للدخل بالعملة الأجنبية مثل عائدات التصدير أو التحويلات الخارجية، ما أدى لانخفاض نسبة القروض مقارنةً بالقطاع العام.
ويشدد يكن على أن "هذا النمط يعكس عجز القطاع الخاص عن التوسع، ليس فقط بسبب شُحّ التمويل، بل نتيجة عجزه عن توليد إيرادات دولارية ناتجة عن ضعف في قدراته التصديرية". حسب بيانات البنك المركزي المصري، تباطأ معدل نمو قيمة الصادرات غير البترولية خلال السنوات الخمس الأخيرة من 12% في العام المالي 2021 إلى 3.9% في 2023.
https://public.flourish.studio/visualisation/24435228/يتوقع عمرو الألفي أيضًا أن تكون صعوبة الظروف الاقتصادية للبلاد مؤخرًا دفعت القطاع الخاص إلى تأجيل خططه للاستثمار بالعملة الصعبة في الوقت الحالي، وهو ما انعكس على توجه البنوك بسيولتها الأجنبية لإقراض الحكومة "القوية من حيث الملاءة المالية والمضمونة".
ووفق إفادة صندوق النقد، فإن نصيب الاستثمارات العامة من إجمالي الاستثمارات في 2023 بلغت 74%، وهي من أعلى المعدلات في الأسواق الناشئة.
لا تقتصر أزمة القطاع الخاص، حسب معتز يكن، على ضعف التمويل الموجه له، لكن تكمن كذلك في المعوقات و"بدون إزالتها، لا يمكن التعويل على قدرة القطاع الخاص على أداء الدور المأمول".
هل نحن بصدد المزيد من المزاحمة؟
منافسة الدولة على التمويل لا تعني أننا بصدد تآكل دور القطاع الخاص الاقتصادي، فالأخير لا يزال يستحوذ على 70% من الناتج المحلي الإجمالي ويشغّل نحو 80% من العمال، كما أن الاستثمارات الحكومية، مثل التي تتعلق بالبنية الأساسية، تعزز من فرص التنمية في المدى الطويل.
لكن المدافعين عن دور أكبر للقطاع الخاص يرون أنه الأقدر على تحقيق معدلات نمو اقتصادي، ويقول رئيس مركز العدل لدراسات السياسات العامة إننا "بصدد نموذج اقتصادي يعيد إنتاج دور الدولة كممول ومنظم ومنتج في آنٍ واحد، ويضع القطاع الخاص في موقع المتلقي أو التابع، لا القائد للنمو".
ويحذر فؤاد من المعاملة التفضيلية التي تتلقاها الشركات المملوكة للدولة والقطاع العام والهيئات الاقتصادية على حساب القطاع الخاص، منتقدًا استمرار اعتماد الدولة على قروض البنوك ومصادر الاقتراض الأخرى بدلًا من التركيز على الضرائب التي "لا تتجاوز حصيلتها 13% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تقل كثيرًا عن المتوسطات الإقليمية (16% في إفريقيا) والدولية (30% في دول منظمة التعاون والتنمية OECD)".
وفيما يؤكد رئيس مركز العدل على ضرورة تسريع وتيرة تخارج الدولة من الأصول العامة للحد من الاقتراض العام، مع مراجعة سياسات تمويل نفقات الموازنة، يتوقع عمرو الألفي تحسن قدرة القطاع الخاص على الاقتراض خلال الفترة المقبلة مع استقرار الاقتصاد الكلي بفضل انحسار أزمة الدولار.