
انتخابات "الشيوخ".. زفة على الضيق
كما اعتدنا في كل استحقاق انتخابي خلال العقد الأخير، تحوّل محيط لجان انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة إلى ساحات رقص، لزوم إحياء "العُرس الديمقراطي" الذي لم يراعِ أصحابه "قيم الأسرة المصرية"، ولم يخشوا بالطبع ملاحقة محاميّ الحسبة الذين انشغلوا في ذات الأسبوع بحبس نجوم تيك توك بتهم "خدش الحياء العام" و"الاعتداء على قيم المجتمع" و"إدارة نشاط غير مشروع".
مسرحية بلا جمهور
أهان أصحاب "العُرس" المرأة المعوزة حين شحنوها في الحافلات لتؤدي "حقها في الرقص" مقابل أجر بخس، وجعلوها تتمايل على أنغام "تسلم الأيادي" و"قوم نادي على الصعيدي" وهي ترفع أعلام ولافتات أحزاب "الوطن". حشدوا معها جيرانها وأهلها من فقراء هذا الوطن لصنع لقطة تصلح لنشرات الأخبار وتقارير الحشد والإقبال "الكثيف" على الانتخابات "المصيرية" التي لم يسمع بها سوى القائمين عليها.
لم يتخلف الناس عن الحضور استجابةً لدعوات حزبية بل قاطعوا تلقائيًا رفضًا للمشاركة في "مسرحية"
رغم مكبرات الصوت وأغاني المهرجانات واستخدام كل وسائل الحشد والإغراء السياسي، إلا أن "المعازيم" غابوا عن العُرس الذي تحوّل إلى "زفة على الضيق"، على حد وصف الوزير الأسبق للقوى العاملة والهجرة كمال أبو عيطة في حديث دار بيننا، إذ بدت اللجان خاوية تقريبًا طوال يومي الاقتراع، وهو ما كشفته مؤشرات النتائج التي تداولها البعض على السوشيال ميديا، أو التي حصل عليها كاتب هذه السطور من مصادر في عدد من المحافظات.
لم يتخلف الناس عن الحضور استجابةً لدعوات مقاطعة أطلقتها أحزاب المعارضة، بل قاطعوا تلقائيًا وبشكلٍ عفوي، رفضًا للمشاركة في "مسرحية" لم يكلف صانعوها أنفسهم حتى عناء إخراجها بشكل يقنع جمهورًا فاقد الشغف والثقة.
سباق دون منافسة
أحد المبررات التي قُدمت لإعادة إحياء مجلس الشورى، الذي صار مجلسًا للشيوخ بعد تعديل الدستور في 2019، كان "توسيد دعائم الديمقراطية" و"دعم الحقوق والحريات العامة وتعميق النظام الديمقراطي وتوسيع مجالاته".
رغم ذلك تم تجفيف المنافسة من المنبع وأغلقت انتخابات المجلس الأخيرة على قائمة واحدة مرشحة، دون منافس، للحصول على 100 مقعد إذا تجاوزت العتبة الانتخابية، وهو أمر مشكوك فيه في ظل العزوف الشعبي.
أما الثلث الثاني المخصص للمقاعد الفردية والذي يتنافس عليها 428 مرشحًا، فأغلبها محسوم لصالح رجال الأعمال وأصحاب الحظوة، من نفس الأحزاب التي تحتكر أدوات الحشد وتمتلك المال السياسي، وذلك بسبب اتساع دوائر المقاعد الفردية بحيث يصعب تغطيتها إلا بتكلفة باهظة.
ويتبقى الثلث الأخير (100 مقعد) ويقتصر تعيينه على من يقدمون خدمات "جليلة" لا يمكن لغيرهم تقديمها لـ"الوطن".
ما جرى في الانتخابات الأخيرة ليس حدثًا عابرًا، بل حلقة جديدة في مسلسل "الهندسة الانتخابية" التي تُمارس في معظم الاستحقاقات المصرية. الفارق أن بعض الأنظمة السابقة كانت تراعي الشكل، فتُخرج مجالس تحقق الحد الأدنى من التنوع، أما الآن فقد جرى تجاهل هذا الحد عمدًا.
بعد إطلاق الحوار الوطني قبل ثلاث سنوات، توقع البعض أن تسمح السلطة بهامش حركة، ولو محدود، للأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وبمساحة للتعبير عن الرأي في وسائل الإعلام، بما يضع البلاد على مسار إصلاح سياسي طال انتظاره. لكن تلك التوقعات تلاشت سريعًا، وظل المجال العام مغلقًا، إلا على أحزاب الموالاة ورجال السلطة، والمنافسة الانتخابية تحولت إلى مجرد إجراء شكلي.
انتخابات من طرف واحد
في استطلاع رأي أجراه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية قبيل انتخابات الشيوخ السابقة، كشفت النتائج أن معظم المصريين لا يعرفون عدد أعضاء المجلس ولا سلطاته أو صلاحياته، ولا يميزون بين نظام القائمة والفردي، وهو ما أدى إلى عزوف الناخبين عن انتخاباته حسبما ذهبت بعض التفسيرات.
لكن العزوف عن الاستحقاق الأخير لا يمكن تفسيره فقط بالجهل بدور المجلس، بل هو تعبير عن وعي تراكم لدى الجمهور، الذي بات يدرك أن هذه الانتخابات تُقصي الأطراف السياسية الحقيقية وتتجاهل رغباته، فاختار الرد بالصمت، وأشاح بوجهه عن المشهد برمته.
تقارير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وثّقت مظاهر الحشد المصنوع، واستخدام المال السياسي، وتوزيع كوبونات شرائية أمام بعض اللجان. ورغم ذلك، وصلت نسب المشاركة إلى مستويات غير مسبوقة في التدني، كما كشفت المؤشرات التي وصلت إلينا.
ما جرى في انتخابات المجلس، الذي لا يملك صلاحيات تشريعية أو رقابية، مرشح أن يتكرر في استحقاق مجلس النواب، الذي يملك، بحسب الدستور، سلطة التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية، ما يعني أن البرلمان بغرفتيه سيظل حكرًا على نواب السلطة.
هكذا لا يجد الشعب من ينوب عنه ويدافع عن مصالحه، وهو ما يضع البلاد مجددًا على الحافة، بينما تحيط بها الاضطرابات، وتتربص بأمنها واستقرارها أطراف إقليمية، وهو ما يستدعي جسر الفجوة بين السلطة والشعب، إلا أن الإصرار على إخراج الناس من معادلة الحكم يظل هو القاعدة.
ولكن تغييب الشعب عن المشاركة السياسية لا يحقق استقرارًا، فالاستقرار الحقيقي يقوم على إقناع الناس وكسب رضاهم، وضمان الحد الأدنى من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لا شرعية حقيقية لمؤسسات تُبنى على صور حشد مصنوعة، ولن يتحقق الاستقرار بإقصاء المخالفين وإغلاق المجال العام.
قد تؤخر "هندسة" المشهد السياسي الانزلاق من الحافة، لكنها لا تمنع وقوعه. الإصلاح الديمقراطي، وإشراك الناس في صناعة القرار، وتحسين المناخ السياسي وتوسيع هامش الحرية، هي روافع الإنقاذ التي تحافظ على تماسك الجبهة الداخلية وتعزز من مناعة الدولة وتحمي بنيتها وتدعمها في معاركها.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.