اختبار انتخابات "النواب".. لم ينجح أحد
حتى لا تختلط الأمور على الناس، وحرصًا على محراب العدالة وسمعة القضاة وصورتهم العامة أمام الرأي العام، سارع نادي قضاة مصر بإصدار بيان يعلن فيه أن رجال القضاء والنيابة العامة لم يشاركوا في الإشراف على انتخابات مجلس النواب التي ألغت الهيئة الوطنية للانتخابات نتائج 19 دائرة من مرحلتها الأولى، بعدما ثبت لها "وقوع مخالفات وتجاوزات جسيمة" أثرت على نزاهة العملية الانتخابية.
في البيان نفسه، أعرب النادي عن تقديره البالغ لـ"توجيهات رئيس الجمهورية للهيئة الوطنية للانتخابات بشأن ضرورة اتخاذ القرار المناسب إذا تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية"، موجهًا الشكر لـ"أعضاء هيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة على دورهم في الإشراف خلال الجولة الأولى".
فادارأتم فيها
دون أن يذكر ذلك صراحة، نأى نادي قضاة مصر بأعضائه عما جرى من أفعال وإجراءات قد تفرز مجلسًا مطعونًا في شرعيته، على ما نقل نائب رئيس مجلس الوزراء كامل الوزير عن الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي طالب الهيئة "المستقلة في أعمالها" بالتحقيق الكامل في المخالفات التي شابت المرحلة الأولى واتخاذ قرارات "ترضي الله" وتعكس إرادة الناخبين وتعزز الشفافية حتى لو تطلب ذلك إلغاء المرحلة الأولى بأكملها أو دوائر معينة منها.
ألقى نادي قضاة مصر بالكرة في ملعب أعضاء هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية، المشاركين في الإشراف على انتخابات المرحلة الأولى، في حين وجهت الهيئة الوطنية للانتخابات خلال يومي التصويت "الشكر للناخبين على إقبالهم الكبير، وللمرشحين لالتزامهم بالقواعد والضوابط"، مؤكدة أن غالبية الشكاوى المتعلقة بالخروقات الانتخابية غير صحيحة، وأن الأمور سارت "بشكل مرض ومنظم".
لكنها عادت بعد توجيهات الرئيس لتقر بوجود مخالفات وعيوب جوهرية نالت من نزاهة الاقتراع والفرز، وأثرت على سير العملية، وهو ما دفعها إلى إلغاء الانتخابات في 19 دائرة عملًا بالمادة 54 من قانون مباشرة الحقوق السياسية.
باستثناء الشعب الذي غاب نحو 80% منه فإنهم سقطوا جميعًا في الاختبار
ورغم إقرار رئيس الجمهورية، ومن بعده الهيئة الوطنية للانتخابات، بوجود تجاوزات أثرت على سير العملية الانتخابية، فلا أحد حتى الآن يعرف على وجه التحديد من هو المسؤول عن تلك المخالفات؟ وهل يُساءل؟ وهل تطالعنا جهات التحقيق بنتائج ما جرى حتى تطمئن النفوس على محاسبة المخطئ وردع كل من تسول له نفسه التأثير على العملية الانتخابية والتلاعب بإرادة الناخبين؟ أم أن جرائم الانتخابات تمر في مصرنا مرور الكرام كما مرت من قبل؟
ليست الهيئة الوطنية وحدها التي بدلت خطابها؛ فمعظم الأطراف المعنية، باستثناء الشعب الذي غاب نحو 80% منه عن التصويت، سقطوا في اختبار الانتخابات؛ مرشحو الأحزاب، والجهات التنفيذية، ووسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني.
أشاد الجميع، إلا قليلًا، بالإقبال الكثيف وبالالتزام والنزاهة والشفافية، وكأنهم جميعًا كانوا يشاهدون انتخابات أخرى غير التي جرت، وما إن نزلت عليهم تغريدة الرئيس حتى تبدلت مواقفهم 180 درجة، وعزفوا على أوتار التجاوز والتلاعب والمخالفات.
راسبون
على قدر ما كان يمارسه نظام مبارك من تضييق وحصار، فإن أجهزته لم تجرؤ على فرض رواية موحدة على الإعلام، فدائمًا ما كان هناك هامش متاح للصحافة الحزبية والخاصة، ولبعض الأصوات في برامج التليفزيون الحكومي لتقديم روايتهم المغايرة للرواية الرسمية عن الانتخابات.
لا يزال أرشيف الصحف الخاصة والحزبية يحتفظ بوقائع ما جرى في انتخابات 2005 و2010 من تزوير، وثقها الصحفيون والمصورون أمام لجان الاقتراع، من منع ناخبين، وتسويد بطاقات، إلى استخدام البطاقة الدوارة وشراء أصوات. ويمكن لأي باحث أن يعود لعناوين المصري اليوم والشروق والدستور والعربي والأهالي والوفد وغيرها ليدرك قوة الصحافة التي قامت بواجبها في الرقابة على الانتخابات.
أما اليوم، باستثناء بعض المنصات المحجوبة، لم تستطع أجرأ الصحف وأكثرها مهنيةً على نقل الحقيقة عارية دون تجميل أو تزويق، اكتفى بعضها باستخدام كلمة انتظام باعتبارها تعبيرًا محايدًا، بينما انخرطت معظم المنصات في التهليل لـ العرس الانتخابي ووعي المصريين وإقبالهم الجارف على الصناديق.
كما سقطت وسائل الإعلام في الجب سقطت منظمات المجتمع المدني
ما إن صدر بيان الرئيس حتى حوّلت تلك المنصات "العرس" إلى "ميتم"، وصارت النزاهة فجأة تجاوزات وعيوبًا تستوجب إعادة العملية كلها، ثم يعودون ويسألون، لماذا فقد المواطن ثقته في منصات الإعلام التقليدي، وهجرها إلى السوشيال ميديا التي صارت مصدره الوحيد لتكوين رأي ووجهة نظر حول ما يجري خاصة في الملفات الداخلية.
وكما سقطت وسائل الإعلام في الجب، سقطت معها منظمات المجتمع المدني التي حصلت على تصاريح للمتابعة، فسارعت بالإشادة بـ"المشهد الديمقراطي الراقي" وبـ"وعي الناخب المصري"، نافيةً وجود أي تدخلات، ثم عادت وأشادت بحكمة الرئيس وانحيازه للوطن والمواطن.
أما المرشحون، فمن نجا منهم ودخل قوائم الفائزين فتعامل مع الانتخابات باعتبارها جولة تعارف على دوائر ربما لم يزرها في حياته. ومن خاضوا معركة "الفردي" في دوائر واسعة لا يقدر على تغطيتها إلا أصحاب المال والنفوذ و"الضهر" الكبير، فهؤلاء كانت معركتهم الكبرى إقناع الجمهور الذي فضل العزوف على ممارسة حقه في الاقتراع.
استخدم كل منهم ما يملك من أدوات الحشد بدءًا من المال السياسي الذي "أتعب الرئيس التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات"، وصولًا إلى الدعاية المبالغ فيها، ومع ذلك لم يستجب سوى الناخبين في الدوائر التي تحكمها الروابط العائلية والقبلية.
سقط الجميع في امتحان الجولة الأولى، إذ توافقت كل الأطراف ومع سبق الإصرار والترصد على التلاعب بإرادة الناخبين. مرر نواب البرلمان قوانين انتخاب ونظامًا انتخابيًا تهدر نصف أصوات الناخبين، ثم هندست أجهزة السلطة العملية برمتها لصالح أحزاب السلطة، فأغلقت باب المنافسة على قائمة واحدة، وفصّلت مقاعد الفردي لصالح نفس الأحزاب.
أطياف الماضي
اعتبر كثيرون تغريدة الرئيس جرس إنذار ورسالة بأن الأمور لا ينبغي أن تمضي على هذا النحو، وذهب البعض إلى أن أجهزة الدولة رفعت تقديرات تحذر فيها من تداعيات ما جرى من تجاوزات تتطابق في كثير من تفاصيلها مع أحداث انتخابات 2010.
لم يُمح من الذاكرة بعد كيف تجاهل المستشار السيد عبد العزيز عمر، رئيس اللجنة العليا لانتخابات 2010، مئات النداءات والشكاوى التي وجهها إليه مرشحون ومنظمات مجتمع مدني، وكيف خرج بتصريحه الشهير "العملية الانتخابية تسير بشكل هادئ، ولم تحدث أي مشكلات مؤثرة".
يذكر الجميع تعليق مبارك على المعارضة بقوله "خليهم يتسلوا"
ويذكر الجميع كيف خرج أمين تنظيم الحزب الوطني أحمد عز متحديًا ليفند شكاوى التزوير في دائرة الحامول والبرلس، مكذبًا كلام النائب حمدين صباحي ويؤكد أنه "لم يحدث تسويد أو تزوير على الإطلاق"، رغم أن وقائع التزوير كان تنقل عبر الشاشات على الهواء مباشرة.
ولم ننس بعد كيف اتهم صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني في نفس المؤتمر الصحفي الذي خرج فيه عز، وسائل الإعلام، بـ"التدليس" لأنها مارست حقها في نقل الحقيقة.
كما يتذكر الجميع تعليق الرئيس الراحل حسني مبارك على اعتراضات المعارضة على تزوير انتخابات 2010 وتشكيلها برلمانًا موازيًا بقوله خليهم يتسلوا.
أخيرًا؛ يذكر الجميع أيضًا ما حل بالحزب الوطني وبنظام مبارك بعد شهور من تلك الانتخابات عندما قرر الشعب فرض إرادته بوسائل أخرى خارج الصندوق.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
