صورة معدلة من صفحة "فيصل الآن"، فيسبوك
زحام وفوضى في شارع فيصل

كيف ننجو من جحيم شارع فيصل؟

منشور الأربعاء 27 آب/أغسطس 2025

مَن يضطرُّه ظرفٌ طارئٌ إلى دخول شارع فيصل ربما يهمس حين يرى كوبري المغادرة "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من خلقه". استثناءً من شوارع القاهرة، التي جعلها الهوس أشبه بالطرق الصحراوية، تظل لشارع فيصل فضيلةٌ واحدةٌ، هي قلة الحوادث وأمان عبور المشاه من أي مكان. البطء يدرّب النفوس على الصبر.

لكني أعتذر عن مدحي السابق للشارع، وسعادتي بالتغلب على الملل بالقراءة أكثر من ساعة في الذهاب، ومثلها في الرجوع. كان الحصاد مرضيًا، بضم الميم دلالة على الرضا، وبفتحها لأنني أُصبت في فقرات الرقبة بآلام لا تبرأ، ولا يخففها تكرار جلسات العلاج الطبيعي. قررتُ ألَّا أقرأ في الميكروباص.

الشارع شارعان

شارع فيصل شارعان، لكل منهما ورديةٌ ملامحُها تختلفُ عن الأخرى. وردية النهار تبدأ بحافلات المدارس وزحام الذهاب إلى العمل. صخب وضجر، وتدافع وانتظار، وتدلُّل سائقي الميكروباص واستبدادهم بتقسيم المسافة حتى ميدان التحرير إلى مرحلتين أو ثلاث.

أرجع بعد منتصف الليل وقت تغيير الوردية فأجد شارع فيصل مفروشًا بالزبالة

تستمر الوردية إلى ما بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين، والشارع يئنّ بأثقال النهار؛ ما يرميه الركاب من قوالح الذرة المشوية، والمناديل الورقية، والزجاجات الفارغة للمياه والمشروبات الغازية، وأكياس بلاستيكية وعلب ورقية فارغة يقذف بها أصحاب المحلات، وعلب الكشري يطوح بها الباعة الجائلون، وما تتركه العجائز من آثار تقميع البامية وتقوير الكوسة والباذنجان، انتظارًا لخروج موظفات تسعفهن هذه المواد بإعداد غداء لا يستهلك بقية اليوم. وأسوأ المظاهر مقذوفات البصاق. نبّه الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى سوء هذا السلوك، قبل أكثر من مائة عام.

في وردية النهار، لا يكفّ شارع فيصل عن تذكير المستريحين منه في بيوتهم بأنهم ليسوا في مأمن، فمن أسفل تبلغهم نداءات بائعي الروبابيكيا، والراغبين في شراء بقايا "زيت الطعام وزيت السمك"، بـ35 جنيهًا للكيلو. أليس السمك من الأطعمة؟ لماذا لا يكتفون بذكر زيت الطعام الذي يشمل السمك؟

قررت مرة أن أصحح لهم، لاختصار الكلام، فتذكرت أن وعاظ الجمعة ينهون الخطبة بدعاء "اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين"، كأن مرضاهم وأمواتهم ليسوا من المسلمين. لا أحد يحرر لهم الخطبة من شحومٍ بلاغيةٍ وسجعٍ عبيطٍ وتكرارٍ باعثٍ على السأم، ولا أحد يوسّع آفاقهم أخيلتهم، ويحنّن قلوبهم؛ فلا يضنّون بالشفاء والرحمة على غير المسلمين.

أرجع بعد منتصف الليل، وقت تغيير الوردية، التسليم والتسلُّم، فأجد شارع فيصل مفروشًا بالزبالة. الفراغ يغري السائقين بالفرح؛ فيزيدون السرعة، وتطير الأكياس البلاستيكية، ومزق الورق والمناديل. وطحين زبالة النهار يصير سحابات من غبار. وردية النهار أشدّ قبحًا، يسترها تلاصق السيارات، ولهاث الساعين إلى الرزق، والمتعبون العائدون إلى بيوتهم يسرقهم النعاس، واللاعنون العيشة وما فيها لا ينشغلون بنظافة الشارع، ولا يزعجهم القبح.

النظافة تُفسِّر سلوكًا يتجاوز الشارع إلى المتاحف. يعزف المصريون عن زيارة المتاحف؛ لأن الطريق إليها ومحيطها لا يوحيان بأن الداخل نظيف، ولعله نظيف أكثر مما يحتمله مستأنسو القبح؛ فينزعجون منه، ويظنون أنه لم ينشأ من أجلهم. لنتخيل أحدهم جيء به من المستنقع، فوجد نفسه أمام العازف في بهو فندق ماريوت الزمالك.

أربعة يحتلون مقعدين متواجهين في المترو تكالبوا على الْتهام بقجة من الفول السوداني، أحدهم وزّع الأنصبة في جحور جلابيبهم. استنكروا اقتراحي ألَّا يرموا القشر من النافذة. في محطات المترو، لا تخلو القضبان من مناديل ورقية وزجاجات بلاستيكية فارغة، في المرفق العمومي الوحيد النظيف في مصر.

لا تخطئ العين كسرة النفوس

شارع فيصل عمومي أيضًا. وساعة تغيير الوردية مثيرة للتأمل خصوصًا في رمضان. واجهة مسجد في حي الطالبية، على الشارع مباشرة، عليها لافتة بالخط الديواني العشوائي تبشّر المصلين بحضور "نجوم الفضائيات يلقون دروسًا عقب صلاة التروايح". وتمتد الصلاة فيه، وعلى رصيفه، إلى وقت لا أعرفه بالضبط، فأنا أمرّ في منتصف الليل والصلاة قائمة، ولا يبالي المصلون بأكوام قمامة أسهموا في تعليتها بإلقاء أكياسهم، وهم قادمون إلى الصلاة، ومكبرات الصوت خارج المسجد تضخّ خطبة بين الركعات عن وجوب "الجهاد"، وأن تركه سبب ذلِّ المسلمين، تحقيقًا لوعيد الرسول.

وردية الليل تكشف عورة شارع فيصل. مدتها نحو أربع ساعات، تنتهي في السادسة صباحًا. هدوء نسبي يناسب خصوم الزحام والضجيج، من راغبي شراء الخضراوات والفاكهة، ومَن لا يحتملون عذاب الانتظار النهاري أمام ماكينات الصرف، بعد ابتداع الشمول المالي؛ للرقابة على فلوس ضئيلة لا تغطي مصاريف الشهر، لكن الحاكم بأمره طلب أن تمرّ عبر آلية التعذيب، مع ترك الفكة دون الخمسين جنيهًا، واستقطاع مصاريف شهرية تبدو قليلة لكن مجموعها كبير، يسدّ عجزًا لحكومة لا تحترف إلا الجباية.

في الصمت تذكرت واقعة نادرة مسجلة باسم شارع فيصل. مساء 14 يوليو/تموز 2024، اِختُرقت شاشة إعلانات مركز تجاري. في لحظات مسروقة، عُرض مقطع فيديو ينتقد الرئيس ويسخر منه

في هذه الساعات المستقطعة من الجحيم، يتسع الشارع ويبدو قبيحًا متّسخًا بحصاد قمامة النهار، مضافًا إليها روث حمير وأحصنة عربات الزبالة. الفرز على الأرصفة، ثم التعبئة بعد تصنيف المحتويات، واتساع دائرة الاتساخ ببقايا وفتافيت غير مفيدة لزبالين يتركونها خميرة للنهار التالي.

البقايا والفتافيت والتراب من مهام الكناسين في وردية النهار، فماذا يفعلون؟ يجمعون الكناسة بجوار الرصيف. أكوام صغيرة لا تلبث أن تتبعثر بقليل من رياح الحركة البطيئة. أغلبهم مشغول بالتسوّل، ينتقي نوع السيارة؛ فيحدد طبيعة التعاطف المترتب على مدّ اليد والدعاء الرتيب. وعلى الطريق الدائري أيضًا يهتم الكناسون بالتسوّل أكثر من النظافة. مساكين، لا تخطئ العين كسرة النفوس. ويعلم مشغِّلوهم بالهبات الصغيرة؛ فلا يعطونهم أجورًا آدمية، مثل عمال محطات الوقود المنتمين إلى فئة مستعبدة بأجور زهيدة، اعتمادًا على بقشيشٍ قد يقاسمهم فيه المدير.

لا نجاة من فوضى الشارع إلا بالتأقلم والاعتياد، كالتعايش مع الأمراض المستعصية المزمنة

لا ذنب للكناسين في تراكم الأتربة بجوار أرصفة الطرق السريعة، بما فيها رصيفا الجزيرة الوسطى. يمكن تمييز مصر بالأتربة على أسفلت جسورها، حتى الجسور المقامة على نهر النيل، من أين تأتيها الأتربة؟ ربما لو غيرنا المسمى، فاستبدلنا الجسور بالكباري، المثيرة للسخرية في السنوات الأخيرة، تصير الجسور آدمية، مثل طرق دول صحراوية تخلو من التراب.

لا نجاة إذن من فوضى الشارع إلا بالتأقلم والاعتياد، كالتعايش مع الأمراض المستعصية المزمنة. لا إرادة لفرض القانون "في بلد ضائع". في هذا الفراغ فكّرت في حملة لتوعية وعّاظ الجمعة بأن "النظافة من الإيمان"، وأنْ يتم الاتفاق على خطبة موحدة مدتها ثلاث دقائق للنهي عن تلويث الشوارع، وسنرى النتيجة جيدة قبل الخطبة التالية. وفقدت الحماس؛ لاهتمامهم بثرثرات عن أساطير الفتوحات، واستعادة الأندلس إذا صدق إسلام المسلمين. لهذا السبب لا يغادرون المرحلة المكية، بالإصرار على إقناع المصلين بأن للكون إلهًا، ودعوة المسلمين إلى الإسلام. تذكّرت أيضًا أن منابرهم تلوث الأجواء بالأخطر من القمامة؛ التمييز ضد المرأة، والاستعلاء على غير المسلمين. إنهم يتمتعون برفاهية عصر يكرهونه. تذكّرت وتحسّرت، ولُذت بالصمت.

في الصمت تذكرت واقعةً نادرةً مسجلة باسم شارع فيصل. مساء 14 يوليو/تموز 2024، اِختُرقت شاشة إعلانات مركز تجاري. في لحظات مسروقة، عُرض مقطع فيديو ينتقد الرئيس ويسخر منه، ويذكّر بأبيات قرأها العزيز بالله الفاطمي على المنبر، تشكك في نسبه. وفي يوم آخر، صعد المنبر فرأى ورقة كُتب فيها "بالظلم والجور قد رضينا/ وليس بالكفر والحماقة. إن كنت أُعطيت علم غيب/ فقل لنا كاتب البطاقة".

بعد يومين نشرت وزارة الداخلية بيانًا من 50 كلمة يقول إنها تمكنت من ضبط مرتكب واقعة "العبارات المسيئة التي تم تداولها على إحدى شاشات الإعلانات بمنطقة فيصل... واعترف بارتكابه الواقعة بتحريض من اللجان الإلكترونية التي تديرها عناصر جماعة الإخوان الإرهابية الهاربة بالخارج. تم اتخاذ الإجراءات القانونية".

هل تندلع شرارة ثورة، يومًا ما، من شارع ما؟ أرجّح أن يكون شارع فيصل، أو مثله في مناطق أخرى تتفيصل ببطء في السنين الأخيرة. سنكون آنذاك شهودًا أو شهداء، لا يهم، فالأهم أن تنجح لنا ثورة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.