
غواية الفكة.. خطر الجباية غير المنطقية على سلامة الدولة
في ظهيرة وقفة عرفات، قررت أن أمشي متشجعًا بقلة عدد السيارات في العطلة رغم الشمس الحارقة التي صارت إليها الشوارع بعد تجريدها من الأرصفة والظل دون رحمة.
لم يكن هناك أثر لفرحة العيد على وجوه المارة، بل ثقل النبوءات السيئة.
لم تكن الأشجار القليلة الناجية من القتل تمشي، لكن كان هناك من الجماد ما يمشي على أي حال.
كانت صناديق القمامة تتحرك على امتداد النظر؛ عدد كبير من الصناديق الخضراء والسوداء لم أعهده من قبل. لم يكن خلفها جيش حسان بن تُبَّع الذي حذرت منه زرقاء اليمامة، بل رجال مسالمون وأحيانًا نساء وشابات صغيرات، كلهم في زي عمال النظافة البرتقالي والأزرق، كلهم منهكون، بعضهم يهنئ المارة بالعيد استجداءً لعيدية، وبعضهم يمضي متمهلًا لا يقول شيئًا لكن عيونه تستجدي.
الأمر ليس جديدًا، فلطالما كان المستورون يعطون المتسولين والكناسين عندما يمشون في الشارع، ويعطون عمال الخدمة عندما يصلون إلى مكاتبهم، وعندما يرجعون إلى بيوتهم يعطون البوابين. وكانت الأعياد مناسبةً للفرح، يقدم فيها القادرون النقود وأكياس اللحم نظير دعوات المحتاجين. هذه الروح التضامنية آخذة في التآكل. ويبدو الأمر أكثر وضوحًا أيام الأعياد، وصار المسؤول يهرب من السائل، يُغمغم ضيقًا أو تعاطفًا مع إبداء العجز، وإن أعطى فبغيظ كظيم.
الحاجة في وجوههم
الزيادات في المرتبات خلال السنوات العشر الماضية لا تتناسب أبدًا مع الأسعار التي تتضاعف بنسب بلغت ألفًا بالمائة، لهذا لا تستطيع الحكومة الادعاء بأن مرتبات الذين يكنسون والذين لا يكنسون يمكن أن تكفي الناس مذلة التسول. وليس من المنطقي اتهام الكناسين بأن استجداءهم المارة مجرد جشع، لأن سوء التغذية يصرخ في الوجوه والأجساد.
ومن غير المعقول كذلك أن تكون الدولة جاهلةً بميكانيزم التساند الاجتماعي، الذي صار مهددًا، بسبب صعوبة الحياة على الجميع و"ولع الفكة" في الجمهورية الجديدة الذي يضيف أعباءً كبيرة على كواهل الجميع، تجعل المستورين أقل قدرة على مد يد العون لغيرهم.
لا بد من الاعتراف بالفضل للجمهورية القديمة التي اكتشفت رقة قلوب المصريين وجعلت منها موردًا ماليًّا
الدولة تعرف كل شيء، وتعرف أن المساعدات الشخصية المباشرة هي الجزء الأقل في منظومة الإحسان. الجزء الأهم يذهب إلى جمعيات التبرعات التي تتولى الكثير من المهام التي تقع أساسًا في صلب عمل الدولة. ميزانيات هذه الجمعيات معلنة. في منشور لمسؤول في إحدى الجمعيات عام 2019 قال إن ميزانية جمعيته معلنة على موقعها ولم أوفق في الوصول إلى هذه الميزانية على الموقع المذكور ولم أتلق ردًا على رسالة بريد إلكتروني أرسلتها إليهم يوم السبت 21 يونيو/حزيران، لكن ما يُعلن أحيانًا عن إجمالي حصيلة هذا النوع من الجباية ضخم، ويُمثل ازدواجًا مع الضرائب، هي ضرائب تُحصل بسيف التدين والتعاطف لتوجه إلى أبواب العلاج والتعليم والرعاية الاجتماعية التي هي مبرر جمع الضرائب الرسمية.
وللحقيقة والتاريخ؛ لا بد من الاعتراف بالفضل للجمهورية القديمة التي اكتشفت رقة قلوب المصريين وجعلت منها موردًا ماليًّا، بتشجيعها هيئات جمع التبرعات، وحماية ما قد يكتنف عملها من فساد. ولا بد أن الكثيرين يتذكرون إيقاف حملة الراحل وحيد حامد على جمعية من هذا النوع.
هكذا فالجمهورية الجديدة متبعة وليست مبتدعة في مأسسة الإحسان واستغلاله لصالحها. وقد صارت التبرعات حقيقة، وينبغي على الأقل الحفاظ على هذا البناء الاجتماعي، لإتاحة الفرصة لأمة العوز كي تواصل قدرتها على التساند والتعاطف. وهذا يقتضي مراجعة طوفان الرسوم والتمغات المستحدثة وغير المعقولة التي يمكن أن يكون ضررها أكثر من نفعها. وقد ثبت أن الولع بالفكة لا يقيم اقتصاد دولة، لأنه مجرد تدوير للبنكنوت.
حسابات الربح والخسارة
لا تتخفى الدولة خلف صناديق تتحرك؛ فهي أقوى من أن تستجدي، بل تكمن في المنعطفات المهمة في حياة المصريين، وتطلب بقوةٍ. وأهم منعطف يؤرق المصريين هو التعليم، فكثفت جباياتها فيه.
من الأساس كانت بعض الأسر تتعثر في دفع رسوم التعليم المجاني، رغم رمزيتها. ومن العادة أن يتقدم بعض المحسنين للتسديد نيابة عن غير القادرين. ومع ذلك أضيف منذ عام 2000 إجراء إلزام الطلاب بملف التقدم لامتحانات الثانوية العامة، وبعد أن كان الطلاب يملؤون استمارة الامتحان يدويًا بمساعدة معلميهم، صار هناك ضرورة للتقديم الإلكتروني، والجميع يعلم تجربة التعامل مع المواقع الإلكترونية الحكومية، وبعد رفع كل المستندات وبينها إيصال سداد رسوم مستحدثة لدخول الامتحان في البريد، لا بد من إعادة تقديم المستندات ورقيًا بالمدرسة، أصل وصورة لكل مستند. علمًا بأن هذه الجباية لم تحسن من أوضاع التعليم أو أوضاع المدارس بل على العكس. كانت المدارس تحصل المصروفات في السابق، ولها أن تحتجز نسبة لاحتياجاتها، وقد حُرمت من هذه النسبة بنقل التسديد إلى مكاتب البريد.
طبقًا لحسابات ذهنية العوز والولع بالفكة، يمكن حساب مكسب الدولة بضرب المُحصَّل من كل طالب في عدد طلاب الثانوية الذي يقترب من نصف المليون. وهذا ليس اقتصادًا بل احتيال يبدد مبدأ المجانية الدستوري، ويعود بالبيروقراطية عقودًا إلى الوراء.
بحسابات الدولة الرشيدة، يُعتبر ملعوب ملف التقديم للثانوية العامة خسارة مؤكدة. كل ملف من هذه الملفات يحتاج إلى تفرغ ولي الأمر لإعداده بمتوسط يومين، ما يعني خسران نحو مليون يوم عمل، بخلاف ساعات عمل الموظفين الذين يصدرون هذه الأوراق، بالإضافة إلى خسارة لساعات عمل أخرى يخلقها الدفع بنصف مليون إنسان في الشوارع بلا داعٍ، وفوق كل ذلك ثمن وقود نقل هؤلاء المترددين على الإدارات التعليمية والسجل المدني وكذلك الخسارة البيئية.
المصيدة التعليمية عالية الإسفاف هي مسابقات تعيين المدرسين التي تتطلب ملفًا يكلف صاحبه ألف جنيه
ويبدو أن وزارة التربية والتعليم باتت سيدة اللامعقول في ظل ظرفها الحالي، تحت قيادة وزير يواجه طعنًا في مؤهلاته وفي قراراته على السواء. وآخر المبتكرات في المدارس ملف التقييم الأسبوعي لأطفال السنوات الأولى الابتدائية. يتطلب الملف تصوير أوراق يدفع ثمنها أولياء الأمور، خصوصًا الطبقات الفقيرة التي لا تتوفر في مدارس أبنائهم إمكانية التصوير. ولكن تكلفة هذا الورق لا يتحملها أولياء الأمور فقط، فأحباره وماكيناته والورق نفسه مستورد، وإنعاش مثل هذه الخدمات له تكلفته الاقتصادية والبيئية، وما الذي يتغير في مستوى طفل خلال أسبوع ويستدعي هذه الاشتغالة، وما الذي يتبقى للتلميذ والمعلم من وقت للتعليم؟ هذا الفرمان الفكاهي مجرد مظهر آخر من مظاهر اللامعقول يضاعف أعباء تعليم مفرغ من مضمونه، والنتيجة ارتفاع نسبة التسرب من التعليم.
المصيدة التعليمية الكبيرة عالية الإسفاف، هي مسابقات تعيين المدرسين، التي تتطلب ملفًا غليظًا آخر يكلف صاحبه أكثر من ألف جنيه، ما بين الرسوم وتكاليف الانتقال. وهؤلاء المتقدمون هم ما بين عاطل أو مدرس بالحصة، علمًا بأن نسبة المقبولين من المتقدمين تدور حول الـ10%. والسؤال الذي يجب أن يطرح نفسه: لماذا لا يكون التقديم بشهادة التخرج فحسب، على أن يستكمل المقبولون وحدهم باقي الأوراق؟ على صفحة الوزارة على فيسبوك يمكن قراءة ردود فعل المتقدمين على هذا الاحتيال الذي يعاني منه أصحاب الحاجة.
خسائر الأمر باللامعقول
يحلو لي دائمًا الاستشهاد بحوار الأمير الصغير مع الملك الذي يحكم كوكبًا صغيرًا، في رواية الأمير الصغير لأنطوان دو سانت إكزوبري. يتباهى الملك بأنه حاكم مطلق لكل شيء على كوكبه، حتى الشمس والقمر، فطلب منه الطفل أن يأمر الشمس بالغروب. نظر الملك نحو الشمس وقال: آمرك بالغروب في التاسعة مساء. اعتبر الصغير الأمر الملكي استهانة به، لأن التاسعة هي الموعد المعتاد للغروب، وعاد يطلب من الملك أن يأمر الشمس بالغروب فورًا، فسأله الملك: تُرى، لو أمرت أحد جنرالاتي بأن يطير ولم يفعل، من سيكون المخطئ؟ أنا أم هو؟ "أنا مطاع لأن أوامري معقولة".
الأخطر أن غواية اللامعقول تبدو أحيانًا تكديرًا وازدراءً مجانيًا للرهائن
بالاستنتاج العكسي، فكل أمر غير معقول يُكلِّف الدولة من هيبتها واستقرارها، لأنه يجعل الرضا عنها يتآكل، وهذا ضرر لا تستطيع اللجان الإلكترونية العاملة على مدار الساعة ولا كتائب الأمنعلام في البرامج الليلية إصلاحه مهما استعطفت المجروحين بالجباية.
لشديد الأسف، بات واضحًا أن "اللامعقول" هو الإغواء الثاني في الجمهورية الجديدة بعد إغواء الفكة.
في مسابقات التعيين للوظائف ينبغي على العاطل الذي يستحق إعانة بطالة أن يدفع للجهة الحكومية رسومًا نظير تقدمه لوظيفة، كأن الوظيفة سلعة تبيعها الحكومة وليست التزامًا تتطلبه المصلحة العامة.
وإذا كان الناس قد تحملوا رفع ثمن شهادة الميلاد إلى عشرة أمثال سعرها القديم، وابتلعوا صامتين التوسع في طلبها، فإن تحديد صلاحية الشهادة كان قمة اللامعقول، وبات محل تندر يائس. باستثناء صحيفة الحالة الجنائية، يبدو تحديد صلاحية لشهادات الميلاد والموت والتخرج وغيرها شيئًا في قمة العبث؛ لأن وقائع الميلاد والموت والنجاح في الدراسة وأداء الخدمة العسكرية تحدث مرة واحدة، وليس في يد أحد إلغاء ما حدث. وهكذا لا يمكن النظر إلى تحديد صلاحية الشهادة بعام إلا باعتباره احتيالًا صغيرًا ليس من شيم الإدارة عزيزة النفس التي يجب أن تُهاب.
اللامعقول بوصفه تنكيلًا
الأخطر أن غواية اللامعقول تبدو أحيانًا تكديرًا وازدراءً مجانيًا للرهائن، لا تحقق منفعة مادية للدولة. المثال الأبرز على ذلك العدادات المسبقة الدفع التي بدأت بعدادات الكهرباء عام 2019، وهي تضع المشترك تحت تهديد الانقطاع في أي لحظة إن سهى عن متابعة رصيده. سمعت قصصًا من أصدقاء عن انقطاع التيار بعد منتصف الليل وعن نفاد الرصيد أثناء غيابهم في سفر مما أتلف الثلاجات بما فيها.
ما الذي استفادته الدولة من هذا النظام الذي أهدر الأموال في شراء عدادات جديدة وتكهين العدادات القديمة الآجلة؟ ولماذا يدفع المستهلك ثمنه أساسًا بينما تسحبه الشركة عند فسخ التعاقد. نحن لا نذهب إلى البقال بموازيننا الخاصة، وهذا ميزان شركة الكهرباء ينبغي أن يكون على نفقتها. على أي حال، لا يحقق تشغيل ذلك العداد المهين سوى استعجال حصيلة شهر في عمر التعامل بين الشركة والمشترك ولا يمكن الدفاع عن طلب ثمن الخدمة قبل تقديمها بادعاء حفظ حق الشركة؛ فحتى العين المؤجرة فيها من الأثاث ما يكفي للوفاء بحق الشركة في حالة امتناع المشترك عن الدفع.
بصفتي من أصحاب العدادات القديمة، كنت أفكر دائمًا بما يقع للآخرين في بيوتهم من جراء الكروت مسبقة الدفع، إلى أن جاء يوم ذهبت فيه إلى عيادة أسنان، واضطر الطبيب إلى تركي مشبوحًا على كرسي الكشف، وخرج باستدعاء من سكرتيرته ليتفاهم مع مندوبي الكهرباء الذين جاءوا لتغيير العداد إلى النوع المسبق الدفع، فانتبهت إلى أوضاع الوحدات التي تتعلق بحياة البشر كالعيادات والصيدليات؟!
لا يتسع مقال كهذا لمظاهر "اللامعقول" من الجباية في كل المصالح الحكومية، وبعضها مما لا يمكن التعرض له بسبب اليد الباطشة لبعض جهات الأمر باللامعقول.
لا يمكن اعتبار صمت المرغمين رضا، وإذا كان الضرر الوحيد للغواية المزدوجة بالفكة واللامعقول هو استنفاد قدرة المصريين على التعاطف ومساعدة الفقراء، فالخسارة عظيمة حقًا، وتنذر بخطر يتخفى خلف الصناديق التي تمشي.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.