تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
لا تراعي مشروعات التطوير الحضري الحد الأدنى من معايير الجودة المعمارية من حيث الملاءمة وتحسين تجربة المستخدم أو الساكن

عمارة مصر.. روح الفرعون الحاضرة في الشوارع والبيوت

منشور الخميس 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

اعتدنا على التفاعلِ الساخرِ مع التماثيل التي تُوضع في الميادين العامة أو مداخل المدن، خلال السنوات الأخيرة، بسبب افتقار أكثرها للحد الأدنى من المعايير الفنية، ورداءتها التي تفضح ضحالة خيال مصممها وموهبته.

على النقيض حَظي التمثال الذي نُصب مؤخرًا أمام بوابة طريق مصر إسكندرية الصحراوي بتفاعل إيجابي شعبي مع نقد نخبوي، فالنمط الذي يمزج التوجه الكلاسيكي الجديد/Neo classicism والوحشية المعمارية/Brutalism الذي قُتل نقدًا وعفا عليه الزمن في الأوساط الفنية النخبوية نجح في إبهار الجمهور مع انخفاض سقف توقعات الكفاءة الفنية في التماثيل التي تنحت أو تُصمم لصالح جهة حكومية.

سكرينشوت من فيديو لتمثال بوابة طريق مصر الإسكندرية الصحراوي نشره المرشد السياحي محمد حمادة، 18 سبتمبر 2025

استلهم النحات ضياء عوض، الأستاذ المساعد بكلية الفنون الجميلة جامعة المنيا، التمثال، كما قال تصريحات تليفزيونية، من تصميم المتحف المصري الكبير مع أهرامات الجيزة والروح المعاصرة والحضارة المصرية القديمة.

الحقيقة أنها فكرة جيدة، لكنها نُفذت ببدائية وخلت تمامًا من أي تراكيب ملائمة لروح العصر. 

لا ألوم الدكتور ضياء على وجهة نظره لأنه في النهاية فنان وله رؤيته سواءً اتفقت أو اختلفت معها، لكنك إذا ابتعدت قليلًا لترى الصورة الأكبر فستجد التمثال جزءًا من رؤية فوقية يجري تنفيذها في مصر خاصة على المستوى المعماري باعتباره الفن الذي يمس حياة الناس بطريقة يومية ولا مفر منه.

ورغم اتفاق الكثيرين مع مذهب المعماري الكبير الراحل الدكتور سيد كُريِّم بأن "العمارة ليست بفن.. فقد نشأت وتكونت على أساس علمي اجتماعي" فإني أرى العمارة فنًا يجمع بين رؤية المعماري والمحيط الذي يقع فيه المبنى بكل عناصره أرضًا ومجتمعًا محليًا ومستخدمين للمبنى. وهو التوجه المعماري الذي يجري تجاهله في للمشروعات المطروحة ويقل دوره في طريق سلكته الكثير من الأنظمة الاستبدادية من قبل.

العمارة أداة بروباجاندا 

تعتمد الأنظمة الشمولية الاستبدادية على العمارة لغةً تُترجم بها هويتها ورؤيتها وأفكارها التي غالبًا ما تنتهي إلى استخدام أنماط محددة وسيلةً لإظهار القوة والعظمة والصمود والبقاء الدائم.

عمال بناء يعملون في إنجاز وحدات الإسكان الاجتماعي في بدر

أحد هذه الأنماط هو استعمال المباني ذات الأبعاد الضخمة/Monumental Architecture أو استعمال البلوكات السكنية البروتالية/الوحشية المتكررة للتأكيد على تفاهة قيمة الفرد/المستخدم/الساكن. بكلمات أوضح تقول السلطة "احمدوا من تحمدوا إننا فكرنا في إيوائكم من الأساس".

بالمقابل يريد النظام ترسيخ فكرة أنه امتداد للعظمة التي يجسدها مثل هذا التمثال من خلال استلهام الماضي لإثبات استمرارية الوجود وبناء فكرة يراد ترسيخها حول مدى الهيبة والضخامة اللتين تتمظهر بهما.

العاصمة الإدارية نموذجًا

بنظرة فاحصة أكثر على الساحة المعمارية في مصر، نجد أننا أمام ثلاثة أنماط رئيسية؛ يأتي المشروع الشمولي المتجسد في العاصمة الإدارية الجديدة، على رأس النمط الأول، وهو مشروع قريب لمشروع جيرمانيا في ألمانيا النازية، ومحاكاة مبتذلة لدبي باعتبارها قِبلة كبار المعماريين والمختبر المفتوح المرحب بتجاربهم بدعم حكومي واضح.

ما يمكن أن نسميه الحج المعماري إلى دبي نجد تفسيرًا له لدى الناقد المعماري ريتشارد لاكايو الذي يرى أنه توجهٌ من كبار المعماريين إلى الدول الاستبدادية هدفه تنفيذ مشروعاتهم وأفكارهم على صفحة بيضاء.

البرج الأيقوني بالعاصمة الإدارية

ولأن العاصمة الجديدة صفحتنا البيضاء، نرى فيها التجريب الفخم المتجه في مجمله لإظهار القوة والتطور والتراث، بأشد الطرق ابتذالًا، فالبرج الأيقوني صُمم لمحاكاة شكل المسلة الفرعونية، وواجهته تشبه زهرة اللوتس، لكنه في النهاية نسخة قريبة من برج خليفة في دبي.

كما أنه ووفق رؤية المعماري الكبير الراحل ليون كرير، فإن المباني الضخمة تُحيل إلى نصب تذكارية تُبدّل الملكية الخاصة إلى مظهر عام خاضع للهيمنة، وهو ما يظهر في الشقق السكنية المتنوعة والفنادق الفاخرة داخل البرج، درة تاجنا المعماري والأطول في إفريقيا.

غالبية ما يستحدثه سكان العشوائيات في مناطقهم من أكشاك أو مطبات أو ورش نابع من الحاجة وليس ضحالة الذوق الفني

تتنوع العناصر المعمارية الأساسية في العاصمة ما بين مبنى ضخم مثل البرج الأيقوني وقوس النصر المستوحى في شكله من أجنحة الإلهه إيزيس الذي يشبه قوس النازيين. دوِّنت أسماء الشهداء على مر العصور (المختارين بالطبع) على أعمدته تخليدًا لذكراهم، لكننا وللأمانة نختلف عن النازيين، فالقوس عندنا يقع في ساحة الشعب بينما في مشروع جيرمانيا كان القوس أمام قاعة الشعب.

قوس النصر في ساحة الشعب بالعاصمة الجديدة

قس هذه الفكرة على كل العاصمة لتجد نفسك في مواجهة وحش فرانكنشتاين الأسطوري المشوه؛ أجزاء مستنسخة من دبي، وأخرى منحوتة من الحضارة المصرية القديمة، ورأس ليس به سوى حب لاستعراض القوة وترسيخ فكرة البقاء. 

النمط الثاني السائد في الساحة المعمارية يتجلى في النسق الإيجيبتي الذي يعتمد على العزلة التامة عن المناطق المحيطة والاختباء في كمباوندات تحميها أسوار عالية، وتأتي في الأغلب بتصميمات وأبنية لا توائم البيئة المصرية من حيث المناخ، وتتأثر بشدة بالأوروبيين والعمارة المنمالية/Minimalism التي تعتبر أحط ما أنتجت الرأسمالية لاعتمادها على تقليل التكلفة وتجاهلها شبه التام لهوية الساكن أيًا كانت طبيعة المكان، حتى يسهل بيع الوحدات وإعادة تعيين وظيفتها، فالشقة كالمكتب مع بعض التغييرات الطفيفة، والخدمات تصبح جميعها سيان في التصميم.

نحن في طور القلة المصرية الإيجيبتية التي تتميز مناطقها بالمساحات الخضراء رديئة التصميم التي تشبه المستوطنات لكنها في الحقيقة كمباوندات.

بلوكات الفقراء

النمط الثالث هو عمارةُ المنسيين من عوام الناس، الذين تُوصف غالبية مناطقهم بالعشوائية. وهو وصف ظالم يتجاهل حقيقة أن غالبية ما يضفيه السكان على تلك المناطق نابع من الحاجة وليس ضحالة الذوق الفني، فوضع مطب صناعي عشوائي يدبر السكان تكاليفه من جيوبهم هو ضرورة لتقليل سرعة السيارات والموتوسيكلات حماية لأطفالهم، وكذلك الأكشاك والأسواق وورش صيانة السيارات. 

مسؤولون بوزارة الإسكان يتفقدون أعمال التطوير بمنطقة أرض مطار إمبابة

يتعرض سكان هذه المناطق بصفة مستمرة لهدم بيوتهم وتراثهم ونقلهم تحت مسمى التطوير، وحي الأسمرات خير مثال على ذلك في نقل الناس من أماكن متفرقة في القاهرة دون الاهتمام بأن لهم حيوات وشبكة علاقات اجتماعية مرتبطة بمكان السكن الحالي ستتضرر بشدة بسبب نقلهم القسري إلى بلوكات سكنية لم يراع في تصميمها أبسط القواعد الإنسانية.

كل هذا نتاج لتنفيذ استبدادي شمولي للمشروعات دون دراسة للمناطق وسكانها، والنظر لهم على أنهم مشكلة يجب حلها أو "جرابيع محتاجين ينضفوا" .

الرؤية التي يمكن تطبيقها

يرى المعماري ما بعد حداثي ليون كرير في كتابه العمارة والمجتمع أن الديمقراطية تعني العيش المشترك بمعنى احترام الاختلافات وإظهار مزاياها، وأن شرط وجود الديمقراطية السياسية يتلخص في حرية الاختيار والتعبير واحترام القانون فإذا تحقق ذلك انعكس على العمارة فتعددت أنماطها والاختيارات المتاحة، وبالتالي سنجد مدنًا ذات تصاميم متنوعة تراعي خصوصية مجتمعاتها.

من غير المنطقي أن تُصمم مدينة بالكامل على نسق واحد. وإذا كانت العمارة المعاصرة قطعت خطوات واسعة في إدراك ذلك ومعالجته في كثير من الدول الأوروبية، فإنه وبسبب الرأسمالية حدثت ردة معمارية وعدنا إلى تعددية حداثية كاذبة مبنية على أن العمارة هي سلعة بالأساس، فتنقسم إلى مبانٍ ستاندرد للمؤسسات والبنية التحتية ومبانٍ ذات ملكية خاصة تهتم بالأفكار المعمارية والبيئة المحيطة والمناخ والمستخدِم وآخر التطورات التكنولوجية المعمارية، وقد تقترب الأولى من الثانية.

بشكل عام في العمارة الحداثية والمعاصرة يُنسى الشعب نفسه ولا ينظر لكيفية عيشه، رغم أن النظريات المعمارية ليست حكرًا على طبقة  واحدة، ويجب أن ينعكس أثرها على الجميع من خلال الاهتمام بالتصميم واستخدام مواد طبيعية مرتفعة الجودة وهي موجودة بالفعل في ثقافتنا المعمارية والشعبية التي تساعد على تحسين تجربة المستخدم/الساكن، في كل المشروعات السكنية أو الخدمية التي تنفذها الحكومة وليس فقط مشروعات النخبة.

في مصر ما زلنا متأخرين على مستوى الديمقراطية العمرانية، وهو انعكاس لحالة الضبابية السياسية، لكن لدينا أرضية يمكن البناء عليها بين الباحثين المعماريين بأدوارهم المختلفة سواء في التخطيط أو تطوير الأحياء الموجودة والترميم وحتى إعادة الاستخدام التكيفي/Adaptive reuse.

ويعد دليل الباحثة العمرانية دينا شهيب لتعظيم الاستفادة من تطوير المناطق غير المخططة رسميًا (2020) Maximising Use Value for Upgrading Informal Areas Manual I: Main Recommendations أحد الأمثلة على وجود أسس الديمقراطية العمرانية لدى العمرانيين المصريين.

يتضمن الدليل ثلاثة أجزاء عن الوسائل الممكنة للتعامل مع الشارع المصري بداية من تقسيم الشوارع ومنافذ البيع (بما فيها الأكشاك)، وما المفيد الذي أوجدته المجتمعات المحلية، وما الذي يمكن أن تنجزه الحكومة في الأماكن المستحقة للتطوير، والفوائد المرجوة للمجتمع والحكومة، وانتهاءً بكيفية إدارة جلسة مع المجتمعات المحلية لمعرفة رغباتهم وإشراكهم في خطط التطوير.

يمكن البناء على مثل هذه المبادرة حال وجدت إرادة سياسية جادة لتعزيز الديمقراطية العمرانية، وما يمكن أن تضيفه الحكومة والفوائد العائدة على المجتمع والحكومة، وانتهاءً بكيفية إدارة جلسة مع المجتمع المحلي لمعرفة رغباته وإشراكه في خطط التطوير.

الأرضية المعمارية في مصر حاليًا بور، وبالتالي فإن نتاجها دائمًا يكون فقيرًا ضحلًا وتصبح حركة المعماريين محدودة مقيدة ودائمة الاصطدام بعوائق إدارية وأخلاقية أو إجبار لا مجال فيه للرفض، وإن عَمِلَ المعماري حاليًا بجوهر القانون الأخلاقي عند إيمانويل كانط "تصرف فقط بأسلوب قد ترغب أن تصبح مبادؤه قانونًا عالميًا" فسيصبح الواجب المعماري في مصر ألا يعمل أحد!

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.