تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
حرب غزة بددت أوهام السلام في المنطقة وعادت إسرائيل توصف بالعدو

استفاقة متأخرة على حافة الواقعة

منشور الاثنين 22 أيلول/سبتمبر 2025

بعد ساعات من كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة الدوحة التي وصف فيها إسرائيل بـ"العدو"، دعا رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أثناء لقائه عددًا من رؤساء تحرير المنصات الصحفية إلى رفع مستوى وعي المواطن المصري بالتحديات التي تواجه البلاد، مشيرًا إلى أن "مصر مستهدفة ولا بد أن نكون جميعًا على وعي بأن قوة مصر وعدم القدرة على المساس بها تبدأ من الداخل".

كأن الدولة تذكرت فجأة أن هناك "عدوًا" يتربص بنا على حدودنا الشرقية مُتحينًا فرصةً لاستباحة أرضٍ دفعنا فيها ثمنًا غاليًا من الدم، وكأن مسؤولينا لم يدركوا سوى الآن أن "مصر مستهدفة ضمن محاولات إعادة رسم خريطة المنطقة"، وكأننا معزولون عما يجري في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا وإيران واليمن وأخيرًا قطر.

سلام جلب الاسترخاء

انتباه المسؤولين إلى المخاطر والتحديات التي ينبغي أن يكون المواطن واعيًا بحجمها، وإلى ذلك العدو الطامح لإقامة دولته الكبرى بالقوة على حساب دول الشرق الأوسط جاء متأخرًا، فمنذ اعتنقنا مسار "السلام" واعتبرناه بديلًا استراتيجيًا لمسار المواجهة، غاب عن خطاب مصر الرسمية ما يفيد باحتمال العودة إلى ما قبل كامب ديفيد، وهو ما انعكس على وعي المجتمع.

خطاب الدولة السياسي تماهى مع شعار "حرب أكتوبر هي آخر الحروب"

منذ زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس، وتوقيعه اتفاق سلام منفرد مع العدو الإسرائيلي، دخلت الحكومات المتعاقبة في سبات استراتيجي طويل، ورغم أن عقيدة الجيش العسكرية لم تتبدل وظلت المؤسسة تتعامل مع إسرائيل باعتبارها العدو الاستراتيجي، إلا أن خطاب الدولة السياسي تماهى مع شعار "حرب أكتوبر هي آخر الحروب".

السادات وكارتر أثناء التمشية الصباحية في منتجع كامب ديفيد

ويبدو أنه منذ تسليمنا "الولايات المتحدة الأمريكية 99% من مفاتيح اللعبة"، رضخنا لرغبات واشنطن، التي فرضت على شركائها في الإقليم، باستثناء إسرائيل، منهج السلام وخطاب الاستكانة، وعليه غابت خطط التعبئة والاستنفار، وكأن إقدامنا على "اتفاق سلام تكتيكي" كما جرى الترويج له حينها كان كفيلًا بطي صفحة الصراع مع عدو أسس دولته على عقيدة التوسع والتمدد.

وعدوٌ لا يسترخي

عقب الإعلان عن تأسيس إسرائيل في مايو/أيار 1948، اجتمع ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء للكيان، مع هيئة أركان جيشه، ودعاهم إلى الاستعداد، قائلًا "هدفنا هو سحق لبنان، ثم سحق الجيش العربي، والقضاء على شرق الأردن، ستسقط سوريا في أيدينا، ثم نقصف ونتقدم ونستولي على بورسعيد، والإسكندرية، وسيناء"، هذه الخريطة التي رسم حدودها مؤسس الدولة العبرية لم تختفِ، بل ظلت قائمة في خطاب السياسيين الإسرائيليين، وآخرهم بنيامين نتنياهو الذي تعهد بإعادة رسم خريطة المنطقة وإقامة إسرائيل الكبرى.

لم تتخل تل أبيب يومًا عن نهجها؛ فهي لا تفوت فرصةً إلا وتدوس بحذائها على كل اتفاق أو قرار أممي، فعندما سُئل بن جوريون "لماذا قبِل بقرار التقسيم رقم 181؟"، قال "لا يوجد في التاريخ شيء اسمه اتفاق نهائي، لا فيما يتعلق بالنظام، ولا الحدود، ولا الاتفاقيات الدولية"، واعدًا بأنه "بعد تشكيل جيشٍ كبيرٍ عقب قيام الدولة، سنلغي التقسيم ونتوسع"، فحدود الطموحات الصهيونية هي شأن الشعب اليهودي، على حد تعبيره.

حكومات إسرائيل لم تتوقف عن دفع المجتمع إلى حافة الحرب

حكومات إسرائيل، يساريةً كانت أو يمينيةً، لم تتوقف يومًا عن دفع المجتمع العبري إلى حافة الحرب فالدولة إما في مواجهة أو تستعد لمواجهة، وفي سبيل ذلك لا تتوقف حالة الاستنفار، تغرس الكراهية والخوف والرغبة في الانتقام والخلاص من الآخر العربي في نفوس مواطنيها، عبر المدرسة والجامعة والكنيسة وشاشات التليفزيون وصفحات الجرائد. اللافت أن المجتمع يستجيب ويعبئ، وهو ما تُرجم في الانتخابات التي جرت خلال العقدين الأخيرين، التي أفرزت أكثر الحكومات تطرفًا، وفي دعم واسع لحروب إبادة مثل ما يجري في غزة، بل وفي تأييد ضربات تمتد أحيانًا إلى خارج الحدود، كما عكست استطلاعات رأي عبرية.

وفي الحاضر أيضًا أعداء

لم تُبدّل إسرائيل من نظرتها ولم تتوقف لحظةً عن اعتبار مصر والعرب تهديدًا وجوديًا، وهي العقيدة التي يتبناها نتنياهو ويشير إليها من آنٍ إلى آخر، فالدولة التي يسعى رئيس وزراء إسرائيل إلى تثبيت أركانها يجب أن تحتفظ بتفوقها العسكري على كل دول المنطقة التي بدورها يجب ألا تُشكل تهديدًا للمجال الحيوي الأمني للدولة العبرية.

يعتقد قادة الكيان، سياسيين وعسكريين وأمنيين، أن دولتهم مهددة بخطر دائم، ويؤمنون بأن الخطر الأكبر هو مصر التي "تنشئ بنية تحتية عسكرية في سيناء، وتبني أنفاقًا تحت الأرض لتخزين الصواريخ، وتوسع مدارج القواعد الجوية"، وهو ما يخالف معاهدة السلام.

معنى أن تكون إسرائيليًا هو أن تكون جنديًا

في إسرائيل الجيش ليس مؤسسةً من مؤسسات الدولة، بل هو عمودها الفقري وهويتها الوطنية، حتى صار كل شيء في إسرائيل عسكريًّا "أصبح معنى أن تكون إسرائيليًا هو أن تكون جنديًا، أو على الأقل أن تقدم دعمًا غير مشروط للجيش"، حسب تحليل الكاتبة الإسرائيلية الأمريكية شيرا تامر بصحيفة تايمز أوف إسرائيل.

ورغم صدمة السابع من أكتوبر التي هزت صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، لم يجرؤ أحدٌ في إسرائيل على مراجعة خيار العسكرة ذاته، على العكس، ازداد الخطاب توحشًا وعدوانيةً، باعتبار أن ما جرى لم يكن فشلًا لمفهوم التعبئة، بل نتيجة لتراخٍ مؤقتٍ يجب تعويضه بمزيد من القسوة والاستعداد، وتحويل الدولة بأكملها إلى ثكنة عسكرية، دولة يسعى حكامها إلى تحويلها إلى إسبرطة القديمة، بتعبير نتنياهو، أو مجتمع عسكري تحول إلى دولة بتعبير بن جوريون.

ثقافة الصراع

في المقابل، ومنذ أن ركنّا نحن إلى حالة الاسترخاء الاستراتيجي، فرغنا مناهجنا الدراسية وخطابنا الإعلامي من كل ما يشير إلى "العدو" أو إلى الاستعداد للجولة المقبلة، وكأن التهديد زال وانتهى، ونتيجة لذلك طفت على السطح أصواتٌ تتحدث عن "أولاد العم" باعتبارهم أصدقاء، يمكن التعاون معهم في مجالات الاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا بل والأمن، سعى هؤلاء إلى ترويج التطبيع باعتباره ثقافة مقبولة، وعملوا على إحداث قطيعة مع ذاكرة المواجهة التي من المفترض أن تبقى حاضرة ما دامت إسرائيل قائمة.

ما يثير الأسى أنه بعد انكشاف جرائم العدو وإثباتها بتقارير دولية، يخرج علينا من يهاجم المقاومة ويحمّلها مسؤولية ما يجري ويطالبها بالاستسلام ورفع الراية البيضاء وكأن المظلوم هو الجاني.

ربما تكون حالة "الاستفاقة المتأخرة"، التي أعاد فيها المسؤولون تسمية الأشياء بمسمياتها، فرصة لإعادة تعبئة المجتمع وتوجيه وعيه إلى مساره الصحيح، بإعادة تبني خطاب سياسي وإعلامي وتعليمي يقر بأن صراعنا مع هذا العدو صراع وجود لا صراع حدود، وأن بقاءه في المنطقة يعني بقاء الخطر محدقًا.

الآن نحتاج إلى استنهاض وطني يعيد لكل ذي موقع دوره، فكل واحد منا يقف على ثغر، وكأنه جندي في معركة ممتدة لا تنتهي إلا بزوال الكيان الغاصب.

استبعاد خيار الحرب، والرهان الدائم على السلام، ودفع المجتمع إلى الاستكانة، وفتح الباب للمستسلمين والانهزاميين لتشكيل وعي الناس، هو تخلٍ عن محددات أمننا القومي، واستهانة بعدو يتهيأ لمواجهتنا بعد انتهائه من تثبيت مكاسبه على الجبهات الأخرى.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.