الذاكرة الفلسطينية| إنما قتله من قتله!
روايات المهزومين ومسارات الأمل
"الذي يجبرنا أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحس لحظة أنه هزمنا، وإن عشنا، سأذكرك أننا سنبكي كثيرًا بعد أن نتحرر! سنبكي كل أولئك الذين كنا مضطرين أن نزغرد في جنازتهم، سنبكي كما نشاء، ونفرح كما نشاء. فنحن لسنا أبطالًا، لا لقد فكرت طويلًا في هذا، وقلت لنفسي نحن لسنا أبطالًا، ولكننا مضطرون أن نكون".
بلسان آمنة زوجة الشهيد وأم الشهيد في رواية أعراس آمنة في سلسلة الملهاة الفلسطينية، يلخّص إبراهيم نصر الله مفارقةً عميقةً تتجسّد في قلب المقاومة، تجمع بين الفرح والحزن، وبين الاحتفاء بالحياة والبكاء على الشهداء. ولكنْ هناك تاريخيًا مشاهدُ تكشف لنا أن هناك من كانوا يرون الصورة بشكل عكسي مثلما لدينا اليوم من يرونها بالشكل المعكوس ذاته.
مشهدٌ أول
في ساحة صفين، حيث تقابلت الجيوش واختلطت الدماء بالتراب، سقط عمار بن ياسر، الصحابي الجليل، مُضرجًا بدمائه في جانب علي بن أبي طالب. كان المشهد جللًا؛ فالحديث النبوي يتردد في الأذهان "ويح عمار، تقتله الفئة الباغية. يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". كلمات صريحة جعلت مقتل عمار قضية أخلاقية قبل أن تكون سياسية، وألقت بظلالها الثقيلة على جيش معاوية بن أبي سفيان، الذي جاء ردّه باردًا ومراوغًا ومباغتًا؛ "إنما قتله من أخرجه".
لم تكن تلك العبارة سوى محاولة لتبديل الأدوار، من أجل وضع عليٍّ بن أبي طالب في قلب الفئة الباغية بتحميله مسؤولية دم عمار، بحجة أنه من أخرجه إلى القتال. كلمات معاوية لم تمحُ أثر الجريمة، بل عمّقت الإحساس بالمفارقة؛ كيف يتحول الحق إلى باطل، وكيف يُدار الصراع بلعبة الكلمات فوق رؤوس القتلى. كان ردّه انعكاسًا لعقلية تسعى إلى تبرير الفعل مهما كان ثقله، وتتنصل من مسؤولية واضحة تحت غطاء المنطق الملتوي. لكن الحقيقة، مهما غُلفت بالدهاء، تظل ناصعةً كالشمس؛ اليد التي حملت السيف هي التي سفكت الدم، والإدانة لا يُشتتها التلاعب بالمعاني.
مشهدٌ ثانٍ
يسرد فيلم Che! للمخرج الأمريكي ريتشارد فليشر (1969) حادثة مثيرة للجدل بطلها فلاح فقير من إحدى القرى التي مرَّ بها الثوار في بوليفيا، وشى بإرنستو تشي جيفارا ومجموعة من رفاقه للسلطات، مُدَّعيًا أن صوت المدافع التي استخدمها الثوار أزعج أغنامه.
القصة، التي تتناقلها بعض المصادر بشكل غير دقيق، تسلط الضوء على مفارقة غريبة في تاريخ الثوار؛ فلاح فقير يُعبِّر عن معاناته الخاصة، مُعربًا عن قلقه على أغنامه أكثر من هموم المجتمع وكأنهما منفصلان. هذا المنهج ما زال مستخدمًا لتشويه الهبّات الثورية وخيار المقاومة منذ ثورة الجزائر حتى ثورات الربيع العربي ثم موجة احتجاجات 2019.
لكن في مواجهة هذه الرواية السينمائية، تكمن الحقيقة مختلفة تمامًا: لم يكن الفلاح البسيط هو الخائن، بل أحد رجال جيفارا المقربين، جنّدته المخابرات الأمريكية فخان الثورة وزود الجيش البوليفي بمعلومات دقيقة عن تحركات الثوار. وقع جيفارا في الأسر وانتهى إلى الإعدام. هكذا يتبدّل وجه الخيانة في الرواية الرسمية من عميلٍ مدفوعٍ يقضي تقاعده في مزرعة بالولايات المتحدة إلى فلاحٍ مسكين، في استمرار لنفس لعبة التزييف التي تُحمِّل الضحايا وزر الجرائم المُرتكبة بحقهم.
مشهدٌ ثالث
في بدايات ثمانينيات القرن العشرين تقف مارجريت تاتشر، أول رئيسة للوزراء في تاريخ بريطانيا، لتقول عبارتها الشهيرة التي أثارت الجدل لعقود "لا يوجد شيء اسمه مجتمع، بل هناك أفراد. رجال ونساء. وهناك عائلات". كلمات أشبه بدعوة صريحة لإعادة النظر في مفهومنا عن العلاقات الإنسانية، إذ حملت في طياتها فلسفة تُمجِّد قوة الفرد وقدرته على تشكيل مصيره بعيدًا عن ثقل المسؤولية الجماعية.
المنطق الذي يفتقد لعزِّ الفكر وشُكر المقصد يحول المجرم إلى مدافع عن نفسه ويبرئه من الدماء
في تلك اللحظة، لم تكن تاتشر تُخاطب جمهورها فقط، بل تُوجه رسالتها إلى أجيال قادمة. ومع ذلك، بقيت كلماتها عالقة في أذهان الكثيرين، تُثير التساؤل؛ هل بإمكان الفرد وحده صناعة المعجزات، أم أن المجتمع هو النسيج الذي يمنح الفرد قوته؟ أو كما قال عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدنز، المجتمع ليس مجرد تجمع أفراد، إنما شبكة معقدة من العلاقات التي تُشكل هويتنا وتجعل الحياة ذات معنى.
بالنسبة لجيدنز، كانت الفردانية التي دعت إليها تاتشر رؤية تفتقر إلى العمق الإنساني، إذ قال إن "الإنسان لا يُولد فردًا في فراغ، بل يتشكل من خلال نسيج الروابط الاجتماعية. تلك الروابط التي تمنحه القدرة على فهم ذاته ومكانته في العالم".
للمهزومين أيضًا كرامة
على ضوء هذه المشاهد الثلاث، نرى اليوم من يُعْمِلون منطق "قتله من أخرجه". تتكرر الحجة الملتوية التي تلقي باللوم على الضحية لا على الجلاد. فالمسؤولية في أعين هؤلاء ليست على الاحتلال الذي قصف ودمر، بل على من قاوم واستفز إسرائيل، فاستحق ردّها الوحشي.
ويتردد القول بأن شعارات المقاومة لم تجلب سوى الدمار والانقسام، وأن الحركات المسلحة الخارجة عن أطر الدولة إنما تصادر السيادة الوطنية باسم التحرر وتزج بالشعوب في الخطر، كأن الاحتلال نفسه ليس أصل هذا الخطر ولا منبع كل انقسام.
أما منطق "رصاصات المقاومة أزعجت أغنامي"، فيجد صداه في اتهامات تصف ما جرى بأنه انتحار سياسي ومغامرة غير محسوبة العواقب؛ كأن الشعوب المقهورة تملك ترف الحسابات الباردة في مواجهة آلة استعمارية مدججة.
يرددون أن المقاومة جرّت الفلسطينيين في غزة إلى الكارثة بدلًا من البحث عن حلول سلمية، ثم يضيفون: بدل بناء المدارس والمستشفيات، تبني المقاومة أنفاقًا وصواريخَ. منطق لا يرى الاحتلال ولا الحصار ولا الحروب المتكررة، بل يختزل المأساة في سوء اختيار شعب محاصر يرفض الاستسلام.
وفي ظل شعار "لا يوجد مجتمع بل أفراد"، يخرج من يزعم أن المقاومين يقايضون دماء المدنيين بمكاسب سياسية وهمية، أو أن البندقية لن تجلب الحل لكن التفاوض والاندماج في النظام الدولي يفعلان. يذهب آخرون إلى القول بأن الفلسطينيين في غزة أنفسهم يرفضون للمقاومة، واللبنانيون يكرهون حزب الله، في محاولة بائسة لعزل المقاومة عن حاضنتها الطبيعية وتشويه صورتها في أعين الناس، بينما الواقع يثبت أن هذه الحركات خرجت من قلب المجتمعات لا من فراغ، وأن بقاءها وثباتها وإعادة إنتاج تنظيماتها تاريخيًا، رغم كل الضربات، دليل على أن الدماء لم تكن سلعة وإنما ثمنٌ يُدفع في مواجهة الاحتلال.
للأسف عبر التماثل مع هذه المشاهد الثلاث نجد صحفيين وكتابًا يغطي جلال الشيب شعرهم يُحمّلون من حاولوا رفع رؤوسهم المسؤولية عن إجرام الصهاينة، مثلما فعل أسلافهم؛ الأبعد ممثلين في معاوية، والأقرب ممن قالوا من قبل "إيه اللي وداها هناك" يوم أحداث مجلس الوزراء في القاهرة والطيونة في بيروت.
المنطق نفسه الذي يفتقد عزَّ الفكر وشُكر المقصد؛ فيحول المجرم إلى مدافع عن نفسه ويبرئه من الدماء، وإن تطلَّب ذلك أن يتبنى بشكل حازم الرواية الصهيونية وبإذن صاغية بدقة لتوجهاتها. وتتداخل الحجج من هؤلاء حتى لا نستطيع أن نتبين حقيقة هل هم أتباع تاتشر أم موالي يزيد أم أبناء راؤول، أم أنهم فقط منزعجون لانزعاج بهائم الفلاح.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
