تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
قصة صعود مريم أديلسون لتصبح "صانعة الملوك" في الشرق الأوسط وأمريكا، أشبه ما تكون بحكايات نادية الجندي في أفلام الثمانينيات

مريم أديلسون صانعة الملوك

منشور السبت 25 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في ربيع عام 2021 دخلت مريم أديلسون حياتي وغيَّرتها إلى الأبد.

للدقة، لم تدخل بشخصها. فقط اسمها هو ما عرفت، فقرأت موجزًا عن تاريخ عائلتها "العريقة". ومنذ ذلك اليوم؛ لا تزال هذه المرأة تنغص مع عائلتها حياتي، وتُفسد حياة الملايين حول الكوكب، لتعيش أحلامها وهلاوسها التوراتية. 

قبل مايو/أيار 2021 لم أعرف شيئًا من ذلك كله. كنت مهاجرًا عربيًا جديدًا في الولايات المتحدة، أتعرف على الأشياء وأتعلم كيفية فك الكود الاجتماعي. لكن في ذلك العام، ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة والضفة، لبَّيتُ دعوة للمشاركة في مظاهرة استغربت مكانها، أمام فندق فينشيان/The Venetian Resort في مدينة لاس فيجاس، حيث أعيش منذ 2019.

عادةً تبدأ مظاهرات فيجاس من أمام المحكمة الفيدرالية ثم تدور حول المباني الحكومية بوسط المدينة، لتوجّه رسالة مباشر للسلطات الفيدرالية التي يعترض المحتجون على سياستها. لذا لم أفهم لماذا يتظاهر داعمو فلسطين أمام كازينو قمار وفندق سياحي فاخر، فسألت المنظمين وعرفت السبب.

فندق Venetian أو "البندقية" كما أحب أن أنطقه بالعربية، هو دّرّة تاج أسرة أديلسون، أغنى العائلات الصهيونية في العالم، والمعروفة بدعمها المحموم لإسرائيل، وبتمويلها التيارات الدينية والإبادية المتطرفة، وبإيمانها المجنون بكل المشاريع والهلاوس التوراتية.

ومنذ تلك اللحظة، أصبحت أرى أثر العائلة -مريم وزوجها شيلدون- حولي في كل مكان.

أذهب لشراء الجريدة المحلية للاس فيجاس فأكتشف أنها ملكها. أفتح التليفزيون لأشاهد مباراةً في كرة السلة، فأجدها اشترت فريق دالاس مافريكس. أما في العقارات، فالقائمة لا تنتهي: سلسلة فنادق البندقية في لاس فيجاس وماكاو، مجمع مارينا باي في سنغافورة، إلى جانب استثمارات بمليارات الدولارات في إسرائيل؛ عقارات، محطات تليفزيون وإذاعات، مواقع إلكترونية وصحف ومجلات، أندية رياضية، جمعيات خيرية، وتبرعات بالملايين لصالح الجيش الإسرائيلي. في 2013 دعا شيلدون إلى إلقاء قنبلة نووية في صحراء إيران، كرسالة تحذير للنظام الإيراني.

مات شيلدون في مطلع 2021، تاركًا ثروة تتجاوز الستين مليار دولار؛ كأن الله أسبغ علينا رحمته. لكن كانت لتصاريف القدر أمور أخرى.

صانعة الملوك

دونالد ترامب الرئيس، الملك، الإمبراطور

بعد هجوم السابع أكتوبر، وصلني إيميل من رئيس جامعة UNLV، حيث أُدرِّسُ الكتابة الإبداعية وأعمل على إنهاء رسالة الماجستير في الأدب والكتابة الإبداعية، يبدأ بفقرة تكشف تهافت النخبة الثقافية الأمريكية، قال فيها إنه لا يدّعي الإحاطة بكل ما يحدث في الشرق الأوسط، لكنهم في الجامعة يقفون مع إسرائيل.

انفجرت ضاحكًا حين قرأت ذلك. لم تكن مجرد رسالة تملّق لإسرائيل مثل عشرات ما كتبه رؤساء الجامعات الأمريكية وقتها، بل استعراض فخور بالجهل. أستاذ حاصل على الدكتوراه في الطب النفسي، وأول رئيس أسود للجامعة، يتباهى في رسالة للأساتذة والطلبة بجهله. استفز الإيميل كثيرين في الجامعة، منهم زميلي العزيز الكاتب كليمنت جيلي، فعملنا معًا على تأسيس تحالفٍ من الأساتذة والمنظمات الطلابية الداعمة لفلسطين، وكتبنا ردًا على رسالة رئيس الجامعة قررنا نشره في الجريدة الطلابية التابعة للجامعة.

لكن الجريدة رفضت نشر مقالنا أو تغطية أي فعالية داعمة لفلسطين، وبعد صراعات بيروقراطية وبحث؛ اكتشفنا أن عائلة أديلسون اشترت الجريدة منذ سنوات بشكل غير مباشر عبر وسيط ثالث، ليصبح هناك "محرر خفّي" يراجع كل ما يُنشر في الجريدة التي يُفترض أن يحرّرها الطلاب قبل نشره.

خلال العامين الماضيين، نظَّمنا وقفاتٍ احتجاجيةً ومظاهراتٍ وأمسياتٍ شعريةً وفنيةً لجمع التبرعات لغزة. ومع ذلك، في كل مرة أقود فيها السيارة إلى الجامعة، أرى على الطريق لوحاتٍ إعلانيةً مدفوعةً من أموال عائلة أديلسون: بعضها لعلم إسرائيل يرفرف في وجهي رافعًا ضغطي، وبعضها لصور المحتجزين الإسرائيليين. أما إعلاناتي المفضلة؛ فتلك التي ظهرت مع تزايد الدعم الشعبي الأمريكي للفلسطينيين، على شكل لوحات تحمل عبارات طفولية من نوع "حماس مشكلتك أيضًا" أو "حماس = الإرهاب".

الأسبوع الماضي، حين جلست أمام التليفزيون لمشاهدة أخبار تنفيذ وقف إطلاق النار وخطابات ترامب البهلوانية، وجدت ترامب يعترف على الهواء والملأ، بما ظل الجميع يهمسون به دون دليل؛ مريم أديلسون هي السبب في قراره نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أثناء رئاسته الأولى، وغيره من قرارات دعم إسرائيل، بما فيها حروب العاميين الماضيين.

اعتراف ترامب وتصفيقه لمريم أديلسون، يأتي بعد تاريخ من الخلافات بين العائلتين قبل 2016، تمتد لماضي الرجلين؛ دونالد وشيلدون، في مجال العقارات والفنادق الفاخرة. أثناء فترة الخلافات هذه كثيرًا ما انتقد ترامب علنًا المال السياسي لعائلة أديلسون. في 2015 مثلًا غرد قائلًا "شيلدون أديلسون سيمنح كمية كبيرة من الدولارات لمارك روبيو، ليحوله إلى دمية لصالحه"، في إشارة إلى دعم العائلة لترشيح روبيو إلى مجلس الشيوخ.

https://x.com/realDonaldTrump/status/653884577300267008?lang=en

لكن عام 2024 وبعد أن تغيّر كل شيء، ستتبرع مريم بمائة مليون دولار للجنة العليا للحزب الجمهوري دعمًا لحملته الانتخابية، أي نحو ثلثي ما جُمع من تبرعات بلغت 165 مليونًا. يمكننا لفهم حجم هذا التبرع، مقارنته بما قدّمه روبرت ميرسر، ثاني أكبر ممولي الحزب، ولم يتجاوز 25 مليون دولار، أي ربع ما قدّمته مريم.

التاريخ الدرامي لنجمة الجماهير

قصة صعود مريم أديلسون لتصبح "صانعة الملوك" في الشرق الأوسط وأمريكا، لا تتضمن فصولًا من السعى أو النضال أو العمل الشاق أو الذكي، بل أشبه ما تكون بحكايات نادية الجندي في أفلام الثمانينيات؛ امرأة تصعد السلم الاجتماعي من أسفله بلا عناء، لتجد نفسها في القمة، محاطة بالمال والسلطة ورجال يطيعونها.

هاجر والدا مريم من بولندا إلى فلسطين في أواخر الحرب العالمية الثانية، بعد أن فقدت أمها كل عائلتها في الهولوكوست، ليعيشا في مجتمع الحريديم المتشدّد. هناك، وُلدت مريم عام 1945. أي أن شهادة ميلادها الرسمية كانت تحمل اسم "فلسطين"، مثل معظم الوثائق الصادرة قبل إعلان الدولة العبرية. امتلك والدها دورَ سينما، وكان عضوًا في حزب مابام اليساري الذي تأسس قبل إعلان دولة إسرائيل، ورفض مشروع بن جوريون القائم على التهجير والتقسيم، مؤمنًا بإمكانية العيش المشترك في دولة واحدة تجمع العرب واليهود.

أدى تقاعس مريم عن التدخل لإيقاف الهجوم عن سارة نتنياهو، إلى خلافات مع "بيبي"

نشأت مريم في إسرائيل وشهدت حربي 1948 و1956، ثم شاركت في 1967 و1973، بعد أن التحقت بالخدمة العسكرية في أحد المستشفيات الميدانية. بعد ذلك درست الطب، وتزوّجت من تافه لا يستحق حتى ذكر اسمه، أنجبت منه طفلتين، ثم انفصلا عام 1986. بعد الطلاق ركّزت على دراستها الطبية وبدأت تطوّر اهتمامًا خاصًا بعلاج الإدمان عندما كان مجالًا جديدًا، مع تفشّي الإيدز بين المدمنين في الثمانينيات. ولاستكمال دراستها، سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

في الخامسة والأربعين، كانت مريم أمًّا عزباء تعيش في أمريكا، حين رتّب أصدقاء مشتركون لقاءً بينها وبين رجل الأعمال شيلدون أديلسون. وقع الاثنان في الحب، وتزوجا.

شيلدون مولود في مدينة بوسطن لعائلة يهودية مهاجرة من أوكرانيا؛ والده كان سائق تاكسي، ووالدته عاملة في مصنع ملابس. في سن العاشرة بدأ أول مشروع تجاري له، إذ اقترض من عمه مبلغًا بسيطًا ليحصل على رخصة لبيع الصحف. ومن تجارة إلى أخرى كوّن ثرواتٍ وخسرها أكثر من مرة، لكنه كان يملك طموحًا لا ينطفئ.

ابتسم له الحظ حين أسس مع شريكه مشروع حافلات صغيرة لنقل الركاب بين الولايات، كوّن منه أول مليون دولار في حياته. لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت في السبعينيات، عندما أسس شركة COMDEX للمعارض التجارية في مجال الكمبيوتر والتقنية. ظلَّ المعرض من السبعينيات وحتى التسعينيات، الحدث السنوى الأهم في عالم التكنولوجيا. منه أُعلن عن أول كمبيوتر من أبل، وقدّم بيل جيتس نموذج مايكروسوفت الأول. أقيم المعرض في لاس فيجاس، وأحيانًا في مدن أخرى، وتحول إلى مهرجان عالمي للتقنية والمال.

وفي الثمانينيات، اشترى شيلدون فندق وكازينو ساندز، الذي أصبح لاحقًا النواة الأولى لإمبراطوريته الترفيهية والمالية، ومنها بدأت الأسطورة التي ستربط اسمه واسم مريم إلى الأبد.

صورة غير مؤرخة للزوجين مريم وشيلدون أديلسون

نحن الآن في الثلث الثاني من فيلم نادية الجندي. اللحظة التي تتخلى فيها البطلة عن زوجها الأول لتدخل عالم البزنس والمعلمين الكبار. وهناك، تقع في حب المعلم الشاب الطموح، فيفتح أمامها بوابة أخرى من العالم: المال، النفوذ، واللعب مع الدول لا الأفراد.

بوجود مريم إلى جانبه، يتحوّل شيلدون من مليونير إلى ملياردير. كانت هي من شجّعته على التوسع خارج لاس فيجاس، ثم خارج الولايات المتحدة كلها. وفي أواخر التسعينيات، سيُكوِّن شيلدون أول مليار حقيقي حين يفتتح فندق البندقية في لاس فيجاس، والذي سيغدو لاحقًا مركزًا للمظاهرات المؤيدة لفلسطين في مفارقة ساخرة.

منذ زواجهما، غيّرت مريم مسار شيلدون. فحين كان غيره من الممولين يتبرعون بنصف مليون أو مليون دولار، كان هو يكتب شيكات بعشرين أو خمسين مليونًا، وهي أرقام غير مسبوقة في تلك المرحلة. ولم يكتفِ بتمويل الحزب فقط، بل اختار بنفسه المرشحين في ولايات مختلفة، ودعم برامجَ ومشاريعَ سياسيةً متنوعةً، محليةً وخارجيةً.

كانت أجندته السياسية تتجاوز أمريكا نحو إسرائيل.

أما مريم، فكانت أكثر تطرفًا؛ مُعارضة شرسة لمفاوضات أوسلو ولفكرة الاعتراف بفلسطين من الأساس. ردًّا على أوسلو، أنشأت مؤسسات لتمويل مستوطنات الضفة الغربية، ورفضت تمامًا أي تنازل عن الأراضي المحتلة. موّلت حزب الليكود والجماعات الدينية المتشددة "الحريديم"، وبنت شبكة دعم مالية وإعلامية لكل من يتبنى رؤيتها الصهيونية المطلقة.

علاقتها بنتنياهو تعود إلى الثمانينيات، حين كان سفيرًا لإسرائيل في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، يدعم الثنائي نتنياهو في كل انتخابات، بل إنهما استثمرا في وسائل إعلام إسرائيلية متعددة لخدمته وتلميع صورته، ولضمان أن تبقى سياساته -من القمع إلى التوسع- جزءًا من إرثهم المشترك.

الباقي يعرفه الجميع ونُشر أكثر من مرة في تقارير إخباريه خصوصًا بعد إشارة ترامب لها أثناء خطابه في الكنيست، حيث جلست مريم محاطة برئيس الوزراء الذي صنعته بنفسها في إسرائيل، والرئيس الذي دعمته وأوصلته الى البيت الأبيض، وسط سياسيين أمريكيين وإسرائيليين رعتهم خلال عقود طويلة بالدعم والتمويل والتوجيه، وأحيانًا قرص الأذن.

مثلًا في فترة، أدى تقاعس مريم عن التدخل لإيقاف الهجوم عن سارة نتنياهو، إلى خلافات مع "بيبي"، خاصة بعد أن قالت سارة لمريم "لو قصفتنا إيران بالنووي فستكونين أنت السبب". تمرّ الأيام والسنوات، وترامب -الذي يؤكد أنه يتحدث مع مريم أديلسون يوميًّا- يواصل أداء الدور الذي رُسم له. يدعم القصف الإسرائيلي لإيران، ثم يرسل الجيش الأمريكي لضرب المنشآت النووية الإيرانية. وحين يتفاخر بأنه "دمّر البرنامج النووي الإيراني"، فذلك لا يعني شيئًا للناخب الأمريكي العادي؛ لكنه، ببساطة، كما قال لمريم في الكنيست "هل ترين؟ لقد أوفيت بوعدي".

لعل أصحاب العقال يعقلون

للأسف، الحياة أسوأ من أفلام نادية الجندي.

لن تقتحم الشرطة قصر مريم أديلسون لاعتقالها في النهاية. فالواقع أكثر قسوة، والنهاية ستأتي بلا عدالة أو موسيقى تصويرية.

أتذكّر حوارًا قديمًا مع السياسي المصري الراحل كمال الشاذلي. أُجري عام 2010 ولم يُنشر إلا بعد الثورة، وحين حاولت مؤخرًا العثور عليه في الأرشيف لم أجده. أتذكر فقط أن الصحفي سأله عمّن يعتقد أنه سيحكم مصر بعد مبارك، ليردَّ ببساطة وعمق "أي حد معاه مليار جنيه وممكن يصرفهم".

كانت إجابته خلاصة عقل سياسي فهم اللعبة من الداخل ومارسها لعقود حتى وفاته. الانتخابات ليست خطبًا تقنع الجماهير أو برامج تعبّر عن مصالحهم؛ بل مشروع مالي ضخم يحتاج إلى تمويلٍ مستمر، وأموال طائلة لدعم المرشحين، والتحكم في الإعلام، وصناعة المزاج العام.

مريم وحدها تملك ما يقارب 37 مليار دولار، لم تحتَج لإنفاق أكثر من مليار واحد طوال العقد الأخير، لتسهم في رسم ملامح المنطقة وفق رؤيتها. المسألة ليست في حجم المال، بل في اتجاهه: أين يُنفق، ولماذا، ولأي حلمٍ سياسي أو ديني يخدم.

هناك من ينفق المليارات على أمريكا ليحظى بلقب "الخادم المفضل"، وهناك من ينفق القليل -مثل مريم- ليجعل من رؤساء أمريكا أنفسهم خدّامًا لمشاريعهم.

لعلهم يعقلون، إن وُجدت تحت العقال عقول.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.