برخصة المشاع الإبداعي: Bastian، فليكر
إحدى الرسومات على جدران المقر السابق للسفارة الأمريكية في طهران

قريبًا من نهاية العصر الأمريكي

كم بلغت فاتورة مقاومة الشيوعية؟

منشور الأربعاء 24 أيلول/سبتمبر 2025

أتوقع، منذ استعراض الصين أسلحتها غير المسبوقة في 3 سبتمبر/أيلول 2025، أن أشهد نهاية العالم في أي لحظة. ساعتها لن أرى القيامة، ولن يراها أحد. لم يشغلني توازن الرعب وصعود قطب يُنهي العصر الأمريكي، ولا قدرة الصين على تفجير أي قارة، ولا انتقامها من الإذلال الياباني أو الثأر من بريطانيا وفرنسا بطلتَي حرب الأفيون.

راجعتُ خطأ تصوراتي عن قدرة العالم على منع هتلر جديد. أليس نتنياهو، أعلى تمثيلات الصهيونية، هتلر صغيرًا، يباركه حلف شمال الأطلنطي؟ أتمنى ألا يستعيد "العصر الصيني" الحربَ العظمى معكوسةً؛ وقد انتصر النازي وسيطر على العالم. في "العصر الصيني"، لن يتبنى أحد الحرب على الشيوعية ويطالبنا بدفع الفاتورة.

زعماء الصين وروسيا وكوريا الشمالية؛ شي جين بينج وفلاديمير بوتين وكيم يونج أون، أبرز ثلاثة خصوم للولايات المتحدة، حضروا العرض العسكري بمناسبة الذكرى الثمانين لهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، فاتّهمهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتآمر على بلاده.

مبلغُ علمي أن التآمر التقليدي يتمُّ في الخفاء. في المشهد المربك، جذب انتباهي أن الأسلحة الصينية تحمل حروفًا إنجليزية. أما بقية الدلالات فأتركها للمتخصصين في الاستراتيجية وما أكثرهم في مهنة تنعشها الحروب والكوارث البشرية والطبيعية.

والاستراتيجيون ينتظرون على أبواب الفضائيات، مزوّدين بالاصطلاحات المفهومة والغامضة، وبألسنة تكتظ بفوائض اليقين. ولا أظنهم سينشغلون بكلامٍ عن الخوف من مدٍّ شيوعيٍّ استهلك ميزانيات، وأكل أدمغةً فارغةً، كما أفرغ أخرى من بقايا العقل.

صناعة الشيخ الشعراوي

الشيخ محمد متولي الشعراوي

حين بدأت الحرب الأوروبية العظمى الثانية صمتت أمريكا عن جرائم النازي، ونفضت يديها من المعارك الدائرة على الضفة الشرقية للأطلنطي، لولا الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر العسكرية نهاية عام 1941.

أمريكا، مثل السمسار الشاطر، حسمت الحرب وخرجت بالغنيمة الكبرى، واستهدفت الشيوعية بحرب طويلة النَّفَس، أدارتها وكالة المخابرات المركزية/CIA، واستخدمت فيها أدوات عربية وإسلامية تموّل بعوائد النفط، وتجاهد في الخارج بحماسة مقاتلين يخافون على الدين الإسلامي من الخطر الشيوعي، كما تجاهد في الداخل بأنشطة المؤسسات الرسمية السياسية والدينية، وبجيوش الوعاظ الخائفين على ملك الله من أن تمسَّه بسوء شظايا الإلحاد وشطحات الملحدين.

الفراغ الذي تركه موت جمال عبد الناصر اتسع لنفوذ قوى خارجية يعوزها الغنى، ولا ينقصها الثراء. سجل محمد حسنين هيكل في كتابه خريف الغضب أن الأزهر عقد، للمرة الأولى في تاريخه، "ما يكاد أن يكون اتفاقية" مع الملك فيصل الذي عرض في الاتصالات التمهيدية للاتفاق أن تدفع المملكة العربية السعودية اعتمادات تبلغ 100 مليون دولار، ليقود الأزهر حملة ضد "الشيوعية والإلحاد".

وفق هيكل، دفع الملك بالفعل نحو أربعين مليون دولار. وبسبب حاجة مصر إلى النقد الأجنبي، أمر رئيس الوزراء ممدوح سالم بتحويل المبلغ إلى الخزينة، وقدم إلى الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر بدَله "نقدًا مصريًّا للصرف على ما يراه من أغراض الدعوة".

في تلك الحمى، تبنى شيخ الأزهر برنامجًا لترجمة كتب ألفها أوروبيون وأمريكان عن خطايا ستالين، واعتبار الشيوعية "الإله الذي هوى". كما ألّف عبد الحليم محمود كتبًا منها مقالات في الإسلام والشيوعية والإسلام والعقل، وفي الكتاب الأخير أكّد أن "الجري وراء الفكر البشري ـ لسان أرسطو ـ قاد المسلمين إلى الجهل".

في حمى تنجيم الشعراوي والهجوم على الشيوعية أهمل الأزهر التصدي للصهيونية

كما أورد واقعة تتضمن أنه "حدث في عهد سيدنا عمر أن حاول صبيغ (على وزن أمير) أن يُثير بعض المسائل الدينية، معتمدًا على عقله في الجدل والنقاش، فضربه أمير المؤمنين بعراجين النخل حتى سال الدم من رأسه، وزالت مع سيلان الدم هواجسه وأهواؤه".

الرجل الذي تولى مشيخة الأزهر بين عامي 1973 و1978 أتى بهذا المثل على سبيل الاستحسان والاسترشاد. كيف صدَّق أن إراقة الدم تزيل الشكوك؟

في تلك الحمى، تراجع الأزهر عن التوعية بمخاطر العدو الصهيوني على الإسلام وعلى العرب، وبدأت عملية صناعة الشيخ محمد متولي الشعراوي نجمًا تليفزيونيًّا، وبمهاراته اللغوية والجسدية سحر الجماهير، وأرسى وعيًا شعبويًا يشغل الناس بقضايا لا علاقة لها بالوطن ولا بالمواطنة، مثل تهمة الردة، وحكم تارك الصلاة.

قال إن تارك الصلاة منكرًا لها "يُقتل حدًّا... وإن كان كسلًا يُستتاب ثلاثة أيام ثم يقتل". كما استعاذ بالله أن نكون "من أهل الكتاب محلّ الرضا". وأعلن أنه سجد لله شكرًا على هزيمة مصر عام 1967 "فرحت أننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نُصرنا ونحن في أحضان الشيوعية، لأُصبنا بفتنة في ديننا، فربّنا نزّهنا".

في تلك الحمى، صار الشعراوي وزيرًا للأوقاف وشؤون الأزهر، وقامر السادات بزيارة العدو في نوفمبر/تشرين الثاني 1977، فاحتجَّ وزير الخارجية إسماعيل فهمي واستقال، واعترضت القوى الوطنية.

أما الشعراوي فخالف الجماعة الوطنية، واستنكر فكرة انتقاد السادات، وقال في البرلمان "لو أن الأمر بيدي لجعلت الرئيس المؤمن محمد أنور السادت في مقام الذي لا يُسأل عما يفعل". ولم يعتذر عن هذا التصريح بعدما تبينت له ولغيره الآثار الكارثية لمقامرة السادات، ورهانه على سراب السلام.

أثر المائة مليون دولار

في تلك الحمى، انزعج المسيحيون المصريون وعقدوا في يناير/كانون الأول 1977 مؤتمرًا انتهى ببيان يدعو إلى المساواة وتكافؤ الفرص في الهيئات النيابية، ويحذر من "الاتجاهات الدينية المتطرفة"، ويطالب بإلغاء "مشروع قانون الردة". شدد المؤتمر، إجمالًا، على رفض معاملة المسيحيين المصريين على أساس أنهم من أهل الذمة.

فما كان من شيخ الأزهر إلا الردَّ بمؤتمر في يوليو/تموز 1977، بمشاركة الهيئات الإسلامية، لتقنين الشرعية الإسلامية، وتأييد خطاب السادات الذي أعلن فيه أنه سيطهّر أجهزة الدولة من الملحدين، كما أهاب المؤتمر بالرئيس أن يجعل الدين أساسًا للتعليم في مراحل التعليم كافة. 

في تلك الحمى، كان لتأثير المائة مليون دولار السعودية مفعول السحر، بالدولار أو الجنيه لا فرق. المهم أن تُنفق العطية على محاربة الشيوعية والإلحاد، في مفارقة تعيدنا إلى القرون الوسطى، حين تصوّر البعض أن من مهام الدولة أن تسوق الناس إلى الجنة.

كانت الحرب على الشيوعية بضاعة رائجة، حتى إن السادات أثناء زيارته الأمريكية الأخيرة، في صيف 1981، استمر في الكلام عن خططه لمحاربة انتشارها، وذكّر الأمريكان بأنه انتبه إلى ذلك مبكرًا؛ فأخرج الخبراء السوفييت عام 1972، وأنه على اتصال بالمقاتلين الأفغان، كما يواصل بذل الجهود في مقاومة الشيوعية، كما أورد هيكل في خريف الغضب.

كانت مقاومة الشيوعية حربًا بالوكالة، استُخدم فيها الإسلام وشباب المسلمين. كان لا بدّ من إعصار يوقظ النيام، وينسف هذا الركام. الإعصار السعودي تأخر كثيرًا.

في مارس/آذار 2018 نسبت صحيفة واشنطن بوست إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قوله إن انتشار الفكر الوهابي في بلاده يعود إلى "الحرب الباردة، عندما طلبت دول حليفة من السعودية استخدام أموالها لمنع تقدم الاتحاد السوفيتي في دول العالم الإسلامي"، وأن الحكومات المتعاقبة "فقدت المسار، والآن نريد العودة إلى الطريق".

الشيطان أيضًا يعظ. سوف يتبرأ من المستجيبين للوسوسة قائلًا "وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم" (إبراهيم-22). فهل تمتلك المؤسسات الدينية المصرية شجاعة الاعتذار؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.