التكلفة المرتفعة للأسعار المنخفضة: صادرات الزراعة المصرية
وصلت قيمة الصادرات الزراعية المصرية عام 2024 إلى نحو 10.7 مليار دولار، وهو أعلى رقم تحققه مصر في هذا القطاع حتى الآن، وتأمل وزارة الزراعة في زيادتها إلى 12 مليار دولار عام 2025. هذا الرقم بدا للبعض كأنه شهادة نجاح جديدة تضاف للاقتصاد المصري، خصوصًا وأنه يعادل تقريبًا ربع إجمالي الصادرات السلعية التي سجلت نحو 45 مليار دولار في العام نفسه، ويعادل أيضًا ما يقارب سدس إجمالي الصادرات المصرية إذا أضفنا لها حصيلة الخدمات.
لكنْ خلفَ هذه القفزة الرقمية واقعٌ أكثرُ تعقيدًا. حسب بيانات "المدخلات والمخرجات متعددة المناطق"، فإن كل مليون يورو من صادرات الخضروات والفاكهة في الشرق الأوسط يستهلك نحو 1.8 مليون متر مكعب من المياه. وإذا طبقنا هذا المقياس على مصر، فذلك يعني أن صادراتنا الزراعية وحدها تستهلك نحو 18 مليار متر مكعب من المياه سنويًا، ما يعادل تقريبًا ثلث حصتنا من مياه النيل.
أي أن حصةً كبيرةً من ثروتنا المائية تهاجر في هيئة مياه افتراضية يتطلبها إنتاج المحاصيل التصديرية مثل البرتقال والفراولة والبطاطس والبصل.
الأثر لا يقفُ عند المياه فقط. وفقًا لنفس قاعدة البيانات، نجد أن الإنتاج الزراعي التصديري في مصر يتطلب 164 ألف ساعة عمل لكل مليون يورو من العائدات، أي أكثر من 21 ضعفًا مقارنةً بمتوسط صادرات الدول الغنية التي لا تتجاوز حاجتها 7500 ساعة للعمل لإنتاج القيمة نفسها.
كما أن سمّية المياه العذبة الناتجة عن هذه الصادرات في مصر أكبر بنحو 32 مرة من صادرات بلدان الشمال، بينما يسبب الأثر السام على النظم البيئية تدهورًا بمعدل 14 ضعفًا.
وإذا نظرنا إلى مؤشرات تلوث المياه مثل التغذية الزائدة Eutrophication والتحمض Acidification، سنجد أن صادراتنا الزراعية تُسجل أضرارًا تعادل 93 ضعفًا مما تسجله صادرات البلدان الأعلى دخلًا(*) على الأرجح بسبب استخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية وغيرها من أدوات الزراعة الرأسمالية الحديثة المعنية بزيادة الإنتاج في المدى القصير حتى لو على حساب صحة التربة على المدى الطويل.
يأتي هذا المقال استكمالًا لما طرحناه في المقال السابق من هذه السلسلة، الذي نظر بشكل عام للتكاليف البيئية المرتفعة للصادرات منخفضة الأسعار، وكيف يمكن تجاوز هذا النمط. في هذا الجزء، ننتقل إلى القطاع الزراعي لنفكك بالأرقام العلاقة بين الصادرات الزراعية المصرية والتكاليف البيئية والاقتصادية التي تختفي وراء سيل التصريحات عن هذا النجاح التجاري.
اعتمد التحليل على بيانات قاعدة المدخلات والمخرجات البيئية متعددة المناطق (EEMRIO)، وهي قاعدة بيانات دولية صادرة عن الاتحاد الأوروبي تربط بين تدفقات التجارة العالمية وآثارها البيئية والاجتماعية، مثل استهلاك وتلوث المياه، والانبعاثات، وساعات العمل البشرية، بما يتيح قياس الأثر الحقيقي لكل مليون يورو من الصادرات الزراعية في مصر مقارنة بالدول الأعلى دخلًا.
بكم نبيع مياهنا وبكم يبيعها الآخرون؟
عندما تُصدّر مصر منتجات زراعية بقيمة 10.7 مليار دولار بتكلفة تُقارب 18 مليار متر مكعب من المياه، فكل متر مكعب من المياه (1000 لتر) مُخصّص لهذه الصادرات لا يُولّد أكثر من 0.6 دولار. وعند حساب القيمة المضافة فقط بعد خصم تكلفة المدخلات، ينخفض العائد إلى ما دون الـ0.4 دولار للمتر المكعب.
يُظهر تقريرٌ لمجموعة بوسطن الاستشارية أن تسعير المياه يُساء تقديره باستمرار في جميع أنحاء العالم، ويجادل التقرير بأن القيمة الحقيقية للمياه العذبة في المناطق التي تُعاني من ندرة المياه تبلغ عدة دولارات للمتر المكعب.
بالمقارنة مع مناطق أخرى، فإنّ العائد الاقتصادي على المياه الزراعية المصرية منخفض للغاية، إذ تُولّد البلدان الغنية قيمة مضافة بـ57 دولارًا لكل متر مكعب من المياه، والبلدان متوسطة الدخل التي تنتمي لها مصر تحقق في المتوسط نحو 10 دولارات، أما البلدان منخفضة الدخل فتحقق 3.49 دولار.
ويحقق الاقتصاد المصري في مجمله عائدًا على استخدام المياه يساوي 5.49 دولار على كل متر مكعب أو 1000 لتر من المياه، وهو أقل كثيرًا من المتوسط العالمي، ورغم ذلك يزيد كثيرًا عن العائد على الصادرات الزراعية البالغة 0.6 دولار للمتر المكعب كما أشرنا في بداية الفقرة.
فتات سلاسل القيمة
تشير تقديرات المرونة السعرية للطلب إلى أن معظم السلع الزراعية الأساسية منخفضة المرونة بشكل واضح، أي أن ارتفاع أسعارها لا يؤدي لانخفاض الطلب عليها بالمقدار نفسه.
ما يجنيه مُصَدِّر البرتقال المصري لا يتعدى في بعض الحالات 10% من سعر البيع النهائي للمستهلك الأوروبي
ورغم أن بعض الأصناف مثل البرتقال أو الفراولة أكثر مرونة نسبيًا من المحاصيل الأساسية، فإنها تظل أقل مرونة في المتوسط من كثير من السلع الصناعية والخدمات، ما يتيح نظريًا رفع أسعارها دون فقدان الطلب بالكامل.
ووفقًا لمنطق السوق ذاته الذي لطالما جرى التبشير به ويُفترض أن يشكل المنطق الحاكم لتلك التبادلات، فإن أكثر ما ينبغي فعله هو استغلال انخفاض مرونة الطلب على هذه السلع الزراعية من قبل البائعين لتحقيق أكبر عائد ممكن. بعبارة أخرى، انخفاض المرونة السعرية يعطي مؤشرًا بأن هذه السلع يمكن بسهولة أن تباع بأعلى من سعرها الحالي.
واحدٌ من أسباب المرونة السعرية المنخفضة للمنتجات الزراعية التصديرية أن سعر السلعة عند خروجها من البلد المصدِّر لا يمثل سوى نسبة صغيرة من السعر النهائي الذي يدفعه المستهلكُ في المتاجر الأوروبية.
في حالة البرتقال، ما يصل إلى المصدر المصري قد لا يتعدى في بعض الحالات القصوى 10% من سعر التجزئة، بينما تكمن النسبة الأكبر من السعر في تكاليف النقل والشحن والتخزين والضرائب وأرباح المستوردين وتجار التجزئة، مما يعني أن الزيادات في أسعار التصدير لا تُترجم مباشرةً إلى زيادات موازية في سعر التجزئة.
يعني هذا أنه إذا تضاعف سعر التصدير، فتأثير ذلك على السعر النهائي لن يزيد عن 10% فقط، قد يتحملها الوسطاء وتجار التجزئة الذين يصل نصيبهم مجتمعين إلى نحو 70% من قيمة سعر التجزئة. تختلف أيضًا درجة المرونة السعرية للطلب باختلاف السوق الذي نصدر إليه، فنجد مثلًا أنها منخفضة بالنسبة لألمانيا لكنها مرتفعة بالنسبة للسعودية في حالة الفراولة المصرية، مما يعني أن ارتفاع الإيرادات الزائدة من بلد معينة قد يعوض الخسارة في بلد آخر.
دعم المستهلك والوسيط الخارجي
أحد الحلول الجوهرية للحد من استنزاف مواردنا وقوة العمل لدينا في منظومة التصدير الحالية يتمثل في إعادة النظر في سياسات دعم الصادرات الزراعية، التي تقدر بـ3.65 مليار جنيه سنويًا، فضلًا عن الدعم غير المباشر المتمثل في توفير موارد طبيعية ومرافق وتسهيلات تمويلية وجمركية وحتى قوانين توفر العمل الرخيص، فالموارد المالية والمائية والبشرية التي تُوجَّه اليوم لتشجيع تصدير الفاكهة والخضروات الطازجة، تنتهي عمليًا إلى دعم المستهلك الأوروبي والخليجي الذي يحصل على منتجاتنا بأسعار منخفضة لا تعكس تكلفتها الحقيقية، ودعم الوسطاء التجاريين من نقل وتوزيع وتجزئة الذي يسمح لهم انخفاض أسعار صادراتنا بتحقيق هوامش ربح عالية.
إيقاف هذا الدعم، إلى جانب زيادة أسعار المرافق والخدمات المرتبطة بالزراعة التصديرية مثل المياه والطاقة، سيحقق عدة أهداف في آن واحد؛ أولًا، زيادة العائد الحقيقي من الصادرات، ثانيًا، خفض استنزاف الموارد العامة التي تتحملها الدولة من أجل منتجات لا تخدم السيادة الغذائية المحلية.
وثالثًا، توجيه جزء من الموارد والأراضي إلى إنتاج سلع غذائية أساسية للسوق المحلية كالقمح والذرة والفول والزيوت بعد ما يصبح التصدير أقل جاذبية. بهذه الطريقة سيتحمل المستهلك الأوروبي نصيبه العادل من التكلفة البيئية، بينما سيستفيد الاقتصاد المصري من موارد كان يهدرها في دعم صادرات منخفضة القيمة ومهدرة للموارد الحيوية النادرة.
في حالة استمرار الدعم، يجب أن يرتبط بشروط بيئية أو اجتماعية تخص ظروف العمل في الزراعة التصديرية أو في مصانع تجهيز الصادرات. فمن خصائص العمل الزراعي الرأسمالي موسمية العمل وصعوبته في مقابل أجور منخفضة بدون تأمين صحي أو اجتماعي، وفي بيئات عمل تفتقر إلى أبسط معايير السلامة المهنية، سواء في الحقل أو في الطرق المؤدية للحقل، كما شهدنا في الحادث المروع للعاملات الزراعيات هذا الصيف خلال توجههن لمزارع العنب في مدينة السادات.
لذلك، فإن إعادة النظر في منظومة التصدير الزراعي لا بد أن تشمل توزيعًا أكثر عدالة للعائدات يضمن حصة منصفة للعمال والعاملات، واشتراطات واضحة لتحسين ظروف العمل والنقل والأجور والتأمين.
إن تحويل الزراعة التصديرية إلى قطاع منضبط بيئيًا وعادل اجتماعيًا واقتصاديًا يعيد تعريف معنى النجاح الزراعي بحيث لا يُقاس فقط بحجم الإيرادات الدولارية، بل أيضًا بطرق توزيعها، وكفاءة استخدام المياه والأرض، وصون حقوق عاملات وعمال الزراعة.
ضرورة التحالف
قبل أن تُطبَّق سياساتٌ مثل خفض دعم الصادرات الزراعية ورفع أسعار المرافق للمصدرين، يجب أن نضع في الاعتبار أن المصدرين الزراعيين في مصر ومناطق أخرى غالبًا ما يكونون في منافسة شديدة على الأسواق العالمية فيما يشبه سباقًا إلى القاع. هذه المنافسة تجعل أي محاولة أحادية لزيادة الأسعار أو خفض حجم التصدير معرضة للفشل، لأن دولة أخرى قد تغتنم الفرصة لاقتناص الحصة السوقية عن طريق تقديم بدائل أرخص.
لذلك الشرط المسبق لنجاح أي استراتيجية من هذا النوع هو تشكيل تحالفات سلعية لكل منتج تصديري، مثل إنشاء تحالف لمصدري الحمضيات مع بلدان مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا وتركيا والبرتغال والمغرب.
عبر هذه التحالفات، يمكن للدول المصدرة الاتفاق على حجم المعروض في الأسواق العالمية وأسعار التصدير، مما يتيح رفع أسعار المنتجات الزراعية بما يعكس تكلفتها الحقيقية، ويقلل الضغط على الموارد المائية والبيئية، ويحقق أرباحًا أعلى دون فقدان الحصة السوقية لصالح المنافسين.
التحالف السلعي هنا ليس رفاهيةً سياسيةً، بل ضرورة اقتصادية وبيئية لضمان أن تكون أي زيادة سعرية أو تحسين لإدارة الموارد مستدامة وفعالة ولا تخضع لتذبذبات تضيف لهشاشة اقتصادات الجنوب، خاصة وأن السلع الأولية معروفةٌ بتعرضها لذبذبات سعرية عنيفة مقارنة بأنواع السلع الأخرى والخدمات.
وكما ناقشنا في المقال السابق من هذه السلسلة، هناك تاريخ طويل وممتد لهذا النوع من التحالفات يمتد للحاضر عندما فرضت إندونيسيا حظرًا على تصدير النيكل والصين على تصدير المعادن النادرة، وحتى مصر مؤخرًا حظرت تصدير الأرز لأسباب مرتبطة بالمياه.
تشجع أيضًا زيادة أسعار المياه للقطاعات التصديرية المنتجين على إبداع وسائل لزيادة كفاءة استخدام المياه وفي الوقت نفسه يتحمل المستهلك الأوروبي والوسطاء الأوروبيون تكلفة أكبر لمياهنا، وهي ستكون تكلفة متواضعة على كل حال كما ذكرنا أعلاه مقارنة بالتكاليف الأخرى في سلسلة القيمة، وسيؤدي هذا أيضًا إلى تأمين مياهنا الشحيحة والثمينة، خاصة أن "منافسينا" مثل إسبانيا والمغرب وتونس عانوا وما زالوا يعانون من درجات مختلفة من الجفاف في السنوات الأخيرة.
ضغوطات خفض القيمة
يطل علينا الخفض المستمر لقيمة الجنيه مرة أخرى مسببًا أساسيًّا في إهدار مواردنا المائية. يوضح تقرير EastFruit في أبريل 2024 أن نجاح البرتقال المصري في اختراق السوق الأوروبية كان بسبب الخفض الكبير في قيمة الجنيه. لكن هذا "النجاح" كان نتيجة انهيار سعر التصدير إلى 15 سنتًا فقط للكيلوجرام.
بلغ متوسط سعر تصدير الطن من البرتقال المصري خلال السنوات السابقة لخفض قيمة الجنيه الذي بدأ عام 2016 (2008-2016) نحو 513 دولارًا للطن مقارنةً بـ473 دولارًا للطن خلال فترة ما بعد 2016 (2017-2023). أما عام 2024 فشهد تراجعًا أكثر حدة حين وصل السعر إلى 150 دولارًا للطن فقط.
ويمثل هذا انخفاضًا اسميًا نحو 8%، لكن بعد تعديل الأسعار وفقًا للتضخم الأمريكي حيث فقدَ الدولار جزءًا كبيرًا من قيمته خلال هذه الفترة، يصبح الانخفاض الحقيقي في السعر أكثر حدةً بكثير. وهذا يعني أن مصر تحصل اليوم على قوة شرائية أقل بكثير في الأسواق الخارجية مقابل كل طن من البرتقال تصدّره مقارنةً بما كانت تحققه قبل تخفيضات الجنيه المتتالية.
تكشف هذه الديناميكية مجددًا أن سياسات خفض قيمة العملة، رغم ما تحققه من زيادة في حجم الصادرات، تجعل قيمة الموارد البشرية والبيئية المضمّنة في كل طن مُصدر أكثر تدنيًا. ويتسق هذا الاتجاه في أسعار البرتقال مع التراجع شبه المستمر في أسعار السلع الزراعية عالميًا منذ عام 2011، وهو اتجاه ارتبط في الغالب بسياسات "التكيّف الهيكلي" التي دفعت كثيرًا من بلدان الجنوب العالمي إلى تكرار خفض عملاتها المحلية تنفيذًا لشروط المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد، في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008.
هكذا فسياسة تخفيض قيمة العملة لا تجلب إلا خفضًا للعائد من الصادرات، وإغراق الأسواق العالمية بسلع رخيصة الثمن على حساب مواردنا المائية والبشرية. لذلك، إذا أردنا أن نحافظ على قيمة عملنا ومياهنا وأرضنا، فعلينا أن نقاوم هذه الوصفة الجاهزة من صندوق النقد، وأن نبحث عن استراتيجيات بديلة لرفع أسعار صادراتنا بدلًا من السباق إلى القاع بين معدمين على من يبيع بأبخس الأثمان إلى الأغنياء.
(*) بناء على حساباتي المستندة لأرقام قاعدة بيانات المدخلات والمخرجات متعددة المناطق والممتدة بيئيًّا EEMRIO https://www.exiobase.eu/. يمكنكم الإطلاع على منهجية حساب الأثر البيئي للبلدان الغنية في هذه الورقة المنهجية: https://www.researchsquare.com/article/rs-6997348/v2