تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
يختزل النموذجُ المرضيُّ الإدمان في أبعاد بيولوجية ونفسية، ويهمّش السياقات الاجتماعية والسياسية التي أنتجته

الإدمان مرضًا جمعيًّا.. اطرحوا الرأسمالية أرضًا لنتعافى جميعًا

منشور الأحد 14 كانون الأول/ديسمبر 2025

لا يخرجُ النقد الموجه لمنظومة علاج الإدمان في مصر عن كونه خطابًا إداريًّا تنظيميًّا شبه مهيمن يطالب بالمزيد من القوانين والتراخيص والضوابط المهنية لضمان "أفضل علاج لمرض الإدمان". هذه المطالب قد تكون عقلانية ومنطقية، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن غياب أي مساءلة أعمق للأسس التي قامت عليها منظومة العلاج نفسها، التي أثبتت محدوديتها رغم قصص التعافي الفردية.

قبل أي نقد إداري، هناك سؤال جوهري يجب طرحه: هل الإدمان فعلًا مرض؟

أعراض جانبية للحداثة

السؤال الذي يبدو صادمًا في السياق المصري يمثل محورًا رئيسيًا في كتاب Evaluating the Brain Disease Model of Addiction/نقد نموذج الإدمان كمرض دماغي، الذي أعدّته شبكة Addiction Theory Network، ونُشر عام 2022، وهو من أهم الأعمال النقدية للنموذج المرضي للإدمان.

يختزل النموذجُ المرضيُّ الإدمان في أبعاد بيولوجية ونفسية، ويهمّش السياقات الاجتماعية والسياسية التي أنتجت الإدمان الحديث، ويخلق قراءة مشوّهة للتاريخ عبر تعميم الشكل الأكثر تدميرًا للتعاطي كأنه الشكل الطبيعي الوحيد للعلاقة بين البشر والمواد مغيّرة المزاج.

وفق عدد من مؤرخي الإدمان، من بينهم بروس ك. ألكسندر ، فإن النمط الحديث المتمثّل في الارتباط الهوسي بالمخدر ومركزيته في حياة المتعاطي ليس نمطًا قديمًا، وأنه نتاج حديث للظروف الاجتماعية والاقتصادية، ولو كان الإدمان "مرضًا بيولوجيًا"، لماذا ظهر بهذه الصورة تحديدًا في العصر الحديث؟ ولماذا يستشري في مجتمعات معينة أكثر من غيرها؟

ورغم هذا الجدل الغزير في الغرب، بقي النموذج المرضي للإدمان في مصر مسلمًا به مستقرًا لا يناقشه حتى المنتقدون الذين أتى نقدهم من داخل المنظومة نفسها؛ نقد للمصحات غير المرخصة، أو للمخالفات الإدارية، أو لغياب الكوادر المؤهلة، بينما ظل السؤال الأساسي غائبًا: هل هذه المؤسسات، المرخصة وغير المرخصة، قادرة أصلًا على التعامل مع الإدمان بوصفه ظاهرة اجتماعية معقدة، لا مرضًا فرديًّا في "دماغ" المتعاطي؟

المجتمع العلاجي

أنا أحد الذين تعافوا داخل مصحة، لكن تجربتي الشخصية تعلّمّني اليوم أن ما ساعدني على تجاوز الإدمان لم يكن ما تعلّمته داخل المؤسسة بقدر ما كان امتيازات اجتماعية وشخصية وفرها لي موقعي الطبقي وظروفي الخاصة، وهذا ما يجعل تعميم تجربتي على الآخرين أمرًا صعبًا.

يظهر التناقض الأكبر فيما يخص المصحات في نموذج "المجتمع العلاجي". في داخلها نتخلّى عن هوياتنا الفردية: الوظيفة، الممتلكات، ضغوط الحياة اليومية، ونعيش حياة جماعية تشبه شكلًا أوليًا من التضامن الإنساني.

هذا الشكل يُشعر الكثيرين بأن هناك إمكانيةً لدفء ما، لحياة مختلفة، وربما أمل. لكن هذه الحياة الجماعية لا تدوم إلا بقدر مدة العلاج. وبمجرد الخروج، يعود المتعافي إلى المجتمع نفسه الذي أنتج معاناته دون أي تغير بنيوي في الشروط التي جعلت الإدمان خيارًا ممكنًا.

انحصر نقد المنظومة في ثنائية "المصحات المرخصة ضد غير المرخصة"، كأن شرعية المكان كفيلة بخلق علاج فعلي. بينما جرى تجاهل الأسئلة الكبرى؛ هل الإدمان مرض في الأساس؟ هل يتحمل الفرد وحده مسؤوليته؟ ما دور المجتمع في إنتاج المدمن وتعافيه؟ وهل نحتاج إلى "تعافٍ اجتماعي" لا فردي؟ ما علاقة الإدمان بالرأسمالية، وعدم المساواة، والعزلة، وسياسات العقاب؟

رأسمالية المرض

في كثير من الحالات، تتعامل المصحات مع الإدمان بوصفه خللًا فرديًا في الدماغ. هذا الوصف، الذي يبدو علميًا ومحايدًا، يخدم في الواقع اقتصادًا كاملًا يتمثل في سوق علاج الإدمان. المصحات مؤسسات تجارية تعتمد على استمرار الطلب، ولا يسمح اقتصادها بتدخل علمي حقيقي يؤثر على الأرباح، ليُعاد تدوير القلق والخوف داخل الأسرة في صورة رسوم شهرية لتحقيق "شرعية علاجية" اشترتها المصحة من الدولة.

المفارقة أن فشل هذه المنظومة لا يهددها بل يعزّزها، فالانتكاسات المتكررة تخلق حاجةً إلى المزيد من الجلسات والخطط والبرامج. يصبح المرض "قابلًا للانتكاس"، وهي المعادلة المثالية التي تضمن دوامَ الطلب، هكذا يصبح الفشل جزءًا من نجاح السوق.

أما على المستوى العملي داخل المصحات، فيُعاد تشكيل المدمن عبر نموذج انضباطي. للحصول على امتيازات بسيطة أو إذن بالخروج، يجب أن يتقن النزيل خطاب التعافي وأن يؤدي دوره بشكل "إيجابي". الإيجابية هنا ليست مشاعر بقدر ما هي التزام بأداء معين يشبه أداء الموظف المثالي.

وكما يُكافَأ الموظف الملتزم في الشركة، يُكافَأ المتعافي الملتزم في المصحة. ليس هذا علاجًا بقدر ما هو تدريب على الانضباط يجعل الفرد قابلًا للعودة إلى نفس النظام الاجتماعي الذي هرب منه سابقًا.

هل الانضباط وحده يكفي؟ مفهوم رأس مال التعافي يشير إلى أن احتمالات الازدهار بعد الإقلاع تتعلق بموارد الفرد: الدعم الاجتماعي، الفرص الاقتصادية، الحقوق، المدينة التي يسكنها، وهذه العناصر لا توفرها المصحات، ولا تقع تحت سيطرة الفرد، لذلك تتكرر الانتكاسات، لأن شروط الحياة الواقعية لم تتغير.

يدخل الإدمان اليوم في سياق أوسع، يدخل مجتمع الاحتراق النفسي. يُطالب الفرد باستغلال نفسه، وإنتاجيته، وتهذيب مشاعره، وتسويق ذاته، وإدارة مخاوفه. في هذا السياق، تتحول نصيحة شائعة مثل "اشتغل على نفسك" بمعنى اكتساب مهارات جديدة وصقل القديم منها أحد أشكال الاستغلال الذاتي لا علاجًا. والكثير من الانتكاسات قد تكون محاولة للهروب من هذا الضغط المستمر.

تساعدنا نظرية التفكك لـ بروس ألكسندر على فهم هذا المشهد. الإدمان في رأيه ليس مرضًا بيولوجيًا إنما استجابة لحالة تفكك اجتماعي-نفسي يعيشها الفرد في مجتمعات فقدت روابطها التقليدية، وتعيش فراغًا ماديًا ومعنويًا. ازدهار الإدمان اليوم هو نتيجة لتفكك الروابط والوظائف الاجتماعية وليس نتيجة "خلل في الدماغ".

النموذج الأمريكي

لا يمكن استبعاد العامل السياسي في الدفع نحو التعامل مع الإدمان بوصفه مرضًا. خلال الحرب الباردة، احتاجت الولايات المتحدة إلى سردية تبرّئ الرجل الأبيض مع انتشار  تعاطي المخدرات في الطبقات الوسطى، فكان نموذج "مرض الدماغ" حلًا مثاليًا؛ لا لوم على المجتمع، لا نقد للظروف الاقتصادية والسياسية. هذا مجرد مرض يحتاج إلى علاج.

لفهم أكثر لجذور هذا النموذج نعود إلى السبعينيات، حيث صعدت علوم الأعصاب بخطابٍ يعد بإنهاء المعاناة عبر التركيز على الدماغ، بالتزامن مع إعلان نيكسون الحرب على المخدرات. هذا التزاوج بين العلم والسياسة خلق سرديةً تبدو علمية لكنها تخدم سياقًا أمنيًا. وبعد عقود، ثبت أن الحرب على المخدرات لم تكن سوى حرب على الناس، وأن وعود علم الأعصاب كان مبالغًا فيها.

ورغم ذلك، ما زالت السردية المهيمنة تعيد إنتاج نفسها. نحارب الإدمان كأنه العلة، ونهمل الظروف التي صنعت العلة. نختزل التعافي في العودة إلى "ما قبل الإدمان"، دون نقد للأوضاع التي لم يستطع الفرد التكيف معها أصلًا.

في مصر، بالأخص في حقبة السبعينيات مع سياسة الانفتاح الساداتي، والسعي إلى محاكاة النموذج الأمريكي، استوردنا النموذج المرضي نفسه. معه استوردنا خطابًا ينكر البعد الاجتماعي للمشكلة، يحوّل الإدمان إلى خلل فردي قابل للإصلاح داخل مؤسسة مغلقة.

ما زلنا عالقين في النموذج المرضي وكأنه حقيقة علمية نهائية، رغم ما تعرض له من نقد عنيف في الغرب، ومواجهة مختصين لنورا فولكو، مديرة المعهد القومي لأمراض الإدمان بالولايات المتحدة، ونموذج الدماغ، ومطالبة المنظمات بعلوم إنسانية تعترف بالتعقيد الاجتماعي والنفسي.

اليوم، يمثل المدمن بكل مأساته مرآة صادقة للمجتمع، ويقول الفليسوف الأمريكي كينت دانينجتون، أستاذ الفلسفة بجامعة بيولا، بأن المدمن "رسول" يحمل رسالة عن طبيعة النظام المعاصر. لكنه بدلًا من الإصغاء لمعاناته (يقصد المريض/المدمن)، نعيد إنتاج نظام علاجي يستوعب النقد دون أن يتغير.

لم يعد النموذج المرضي يزود العالم بالصور والأحلام، بل بالكوابيس، وفق رأى الروائي ج. غ. بالارد في الحلم الأمريكي. أحد هذه الكوابيس هو الإصرار على تفسير الإدمان كمرض دماغي، بينما جذوره الحقيقية سياسية واقتصادية وثقافية.

بالتالي إذا أردنا تغييرًا حقيقيًا، علينا أن نضع الإدمان في سياقه الصحيح؛ سياق مجتمعات مضغوطة، مفككة، غير عادلة. لأن التعافي الحقيقي لن يكون داخل أسوار المصحات وحدها بل بإعادة بناء مجتمع يمكن للإنسان أن يعيش فيه دون أن ينهار. هذا هو السؤال الذي لم نطرحه بعد: كيف نبني مجتمعًا لا يحتاج أفراده إلى الهروب منه؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.