عندما تتحول الحكومة إلى مُضارب عقاري
تلتزم الدولة وفقًا للدستور "بكفالة سكن ملائم وآمن وصحي للمواطنين، بما يحفظ كرامتهم الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية"، إلا أن هذا الالتزام لم يُطبق في الواقع وفق ما أراد المشرع الدستوري.
فبدلًا من أن تسعى الحكومة لتوفير وحدات سكنية بأسعارٍ تناسب دخول المواطنين التي تآكلت بفعل التضخم وموجات الغلاء المتلاحقة، تحولت وزارة الإسكان إلى ما يُعرف اليوم بـ"مطور عقاري"؛ ذلك التعبير الذي استحدث في السنوات الأخيرة بعد أن ساءت سمعة مصطلح "مقاول".
لا ينكر أحدٌ أن الدولة نجحت في نقل عشرات الآلاف من الأسر التي كانت تعيش في مناطق عشوائية إلى مدن جديدة أكثر أمنًا وتنظيمًا، كما أتاحت وحدات إسكان اقتصادي واجتماعي مدعومة وبشروط سداد مسيرة لمحدودي الدخل، لكنها وفي الوقت ذاته أصبحت سببًا مباشرًا في اشتعال أسعار سكن الطبقات المتوسطة والعليا، التي لا تنطبق عليها شروط الحصول على وحدات مدعومة، إذ مع كل طرح جديد تتيحه وزارة الإسكان، تقفز السوق العقارية كلها إلى محطة سعرية جديدة.
الحكومة تضارب
حسب تصريحات رئيس غرفة التطوير العقاري باتحاد الصناعات النائب طارق شكري الشهر الماضي، شهدت السوق العقارية المصرية خلال السنوات الأخيرة طفرةً غير مسبوقة في الأسعار، وصلت في بعض الحالات إلى عشرين ضعفًا. فالعقار ظل الملاذ الأكثر أمانًا لحفظ المدخرات في ظل انهيار قيمة العملة وتراجع البدائل الاستثمارية.
لكن ما لم يذكره شكري، وهو وكيل لجنة الإسكان بمجلس النواب، أن الحكومة نفسها هي من فتحت باب المضاربة على العقارات؛ فكلما رفعت وزارة الإسكان أسعار وحداتها في المشروعات الجديدة، ارتفعت أسعار القطاع الخاص، حتى باتت السوق تُسعر على أساس طروحات الدولة لا العكس.
تأثرت السوق العقارية مثل غيرها بالهزات التي تعرض لها الاقتصاد المصري خلال السنوات الأخيرة، فتراجعت قيمة العملة المحلية، ومخاوف شركات العقارات من أي انهيارات محتملة، جعلها تتحوط وتضع أسعارًا للوحدات أعلى من قيمتها الحقيقة، هذا إضافة إلى أن زيادة الطلب على العقار باعتباره الملاذ الآمن للمدخرين، حسبما أشار وكيل لجنة الإسكان بمجلس النواب أشعل سوق السكن، وهنا كان من المفترض أن تلعب وزارة الإسكان دورًا في ضبط إيقاع السوق.
تنفذ الدولة بواسطة القطاع (الحكومي والعام والأعمال العام) 52% من إجمالي عدد الوحدات السكنية في مصر، حسب تقرير حديث صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
التقرير الذي رصد إجمالي الاستثمارات في قطاع البناء خلال عام 2024/2025 أشار إلى أن 70% من الوحدات التي تنفذها الحكومة يتم تخصيصها للإسكان الاقتصادي والاجتماعي، أما باقي الوحدات فتتنوع ما بين الإسكان المتوسط وفوق المتوسط والفاخر، ما يعني أن الحكومة تنافس القطاع الخاص في سوق الوحدات غير المدعومة أو الميسرة، بما يجعلها قادرة على التدخل لخلق الاستقرار في الأسعار والوصول إلى سعر عادل ومنطقي، يخفف من وتيرة السخط الشعبي، لكن للأسف يبدو أنه لا توجد لا نية ولا إرادة لبلوغ هذا المقصد.
خفض التكاليف وزيادة الأسعار
تحصل وزارة الإسكان على الأراضي التي تقيم عليها مشروعاتها بالمجان، وتُمول البنية التحتية لتلك المشروعات من ضرائب المواطنين، كما أنها لا تسدد ضرائب مثل الشركات الخاصة، ما يعني أن تكلفة الوحدة السكنية على الدولة أقل بكثير من مثيلتها في القطاع الخاص.
لكن المفارقة أن سعر الوحدة بالمشروعات الحكومية لا يختلف كثيرًا عن سعر مثيلتها في المشروعات الخاصة، وهو مشهد يكشف كيف تحولت الدولة من كافل لحق السكن إلى مضارب عقاري يسعى إلى تحقيق أرباح على حساب المواطنين، وهو ما تكرر مؤخرا في كثير من المجالات.
الحكومة لا التزمت بالنهج الرأسمالي ولا اختارت التدخل الاجتماعي
الدول إما أن تنسحب من المنافسة الاقتصادية وتترك المجال للقطاع الخاص مكتفيةً بوضع الأطر القانونية وضبط السوق ومنع الممارسات الاحتكارية، وفق "الروشتة الرأسمالية"، أو أن تتدخل مباشرة عبر الاستثمار في قطاعات استراتيجية لتقديم سلع وخدمات بأسعار تناسب دخول المواطنين، فيما يساعد على ضبط السوق وفق "الروشتة التي تراعي البعد الاجتماعي".
لكن الحكومة المصرية، خصوصًا في قطاع العقارات، "لم ترحم ولم تترك رحمة الله تنزل على الناس"؛ فلا هي التزمت بالمنهج الرأسمالي الذي يكتفي بالدور التنظيمي، ولا اختارت التدخل الاجتماعي الذي يضبط إيقاع السوق، إذ استحدثت نهجًا جديدًا لم تعرفه النظم الاقتصادية، تحولت به إلى تاجر عقارات يسعى إلى تحقيق هامش ربح مضاعف، وتناست أن عليها إلزامًا دستوريًّا يفرض عليها توفير مسكن ملائم لمواطنيها.
حكومة بلا رقابة
مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي، كان من المفترض أن تطرح وزارة الإسكان إعلانًا عن إتاحة عشرات الآلاف من الوحدات بمشروعات الإسكان المتوسط والفاخر، إلا أن منصة مصر العقارية أعلنت تأجيل موعد الطرح، دون ذكر الأسباب.
نائب برلماني قال أوضح لكاتب هذه السطور سبب التأجيل، قائلًا إن "الوزارة كانت تعتزم تسعير الوحدات الجديدة بزيادة تتراوح من 20 إلى 30% في تلك المشروعات، لكن جهات بالدولة قدرت أن هذه الزيادة قد يتم استخدامها للهجوم على الحكومة ومرشحي أحزاب الموالاة خلال موسم الانتخابات البرلمانية، فجرى بحث تأجيل الطرح لما بعد الانتخابات".
خلال السنوات العشر الأخيرة، التي شهدت ارتفاعًا جنونيًّا في أسعار وحدات الإسكان الحكومي وما تبعها من زيادات غير مبررة في مشروعات القطاع الخاص، لم نسمع عن نائب واحد استخدم حقه الدستوري في مساءلة الحكومة عن هذا الانحراف في دورها الاقتصادي وتحولها إلى مُضارب يزاحم المقاولين في سوق السكن.
غياب البرلمان عن مناقشة هذه القضية ليس مفاجئًا، فغالبية النواب موالون للحكومة التي هندست طريقهم إلى المجلس، ما جعل "الموقر" يتحول إلى صوت للحكومة بدلًا من أن يكون سوطًا عليها. وكما غُيب البرلمان، غُيبت الصحافة أيضًا، وبدلًا من أن تكون عين المواطن على السلطة وحارسًا للحق العام صارت أداة لتغييب الوعي العام.
الحكومة التي لا يراقب أعمالها أحدٌ ولا يحاسبها على تقصيرها أحد، صارت منافسًا ومضاربًا في سوق العقارات، فتحولت من ضامن لحق السكن إلى صانع لأزمة السكن، كما هي صانع للعديد من الأزمات التي حطت علينا في السنوات الأخيرة.
