خدعوك فقالوا: الشعب المصري خانع
توالتْ دراساتٌ تتحدث عن خنوع المصري، ولو أنها قارنته بآخرين من أمم أخرى، أو أمعنت النظر إلى براعة المصري في المقاومة بالحيلة، أو راجعت جردةً بسيطةً لتوالي تمردات المصريين واحتجاجاتهم وثوراتهم عبر التاريخ، لابتعدت عن هذا الحكم المتسرع الذي أصدره أصحابه في أوقات الضعف والقنوط، الذي يعد مجرد ذريعة للركون إلى يأس يُعفي من المقاومة أو التصدي سواء بالإصلاح أو الثورة.
لقد استند من حكموا برضوخ المصري أمام السلطة، سواء كانت لابن البلد أيام الاستقلال، أو للغريب أيام الاحتلال، إلى خصائص سكان الأرض السوداء، حيث الزراعة التي تعلم صاحبها الانحناء، حين يكون مضطرًا إلى المكوث إلى جوار زرعه في انتظار حصاده، متحملًا في سبيل ذلك أي تجاوز أو عسف أو قهر، على النقيض من سكان البادية، الذين ليس لديهم ما يجبرهم على البقاء، ولا شيء يمنعهم من أن يفكوا خيامهم، ويمضوا في الصحراء إلى حيث شاءوا.
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن ما زاد من وطأة الزرع على شخصية المصري هو اعتماده على مياه النهر. ولأن السلطة هي المتحكمة في الري؛ تهندسه وتوزعه وتحدد كمه وكيفه، فإنها تمسك الفلاح من رقبته. فلا يجد أمامه من سبيل سوى طاعة من يمنح زرعه الماء، حتى يكون فلاحًا ناجحًا، فإن اعترض أو تمرد سيحرم منه، وبذا يعرّض نفسه للفقر والجوع، وربما الهلاك.
أوهام الجغرافيا
خلق تجانس أهل المجتمعات النهرية نموذج عيش يطلق عليه نمط الإنتاج الآسيوي، لا سيما قبل ظهور الدولة القومية الحديثة التي جعلت الحصول على الماء حقًا، حتى لو كانت السلطة هي التي تتحكم في الري، ولا يختلف المصريون عن بقية سكان الأنهار.
لكن هناك من تحدث عن الطبيعة الجغرافية لمصر بالذات، حيث الوادي الضيق، والصحراء الواسعة. وفي الضيق يسهل على السلطة أو الإدارة المركزية ملاحقة كل معترض عليها وعقابه، فإن تمرد وهرب أحد من أهل الوادي والدلتا إلى الصحراء الغربية سيهلك لا محالة، أو يعاني من غربة وضياع.
وإن لجأ إلى جبال الصحراء الشرقية فقد حكم على نفسه بالطرد، ربما حتى موته. وسيعيش بالقطع منبوذًا اجتماعيًا، بعد أن يصير في نظر المجتمع واحدًا من "الفلاتية"، حسب الاسم الذي أطلق عليهم عبر تاريخ مصر، أو المطاريد وفق الاسم الذي حملوه منذ ستينيات القرن العشرين، وإلى الآن.
لكن وضع المصري هنا لا يختلف عن مثيله في أي بلد يشبه مصر في جغرافيتها، حيث ضيق الأماكن الصالحة للسكنى والعيش، وانبساط الصحراء دون جبال وعرة توفر قدرًا من الحماية أو الملاذ للهاربين من عسف السلطة، أو كون هذه الصحراء جرداء قاحلة، بلا موارد أو أسباب رزق، وبذا لا تصلح لتوفير أي نوع مستقر وآمن من الحياة للبشر. وحتى لو لم تكن هذه الصحراء كذلك فإن الدولة المعاصرة صارت لديها من أدوات القوة العسكرية، خصوصًا سلاح الطيران، ما يمكنها من ملاحقة أي متمرد هارب.
أوهام الاستشراق
هناك من وضعوا المصريين تحت طائلة التصور السائد عن الاستبداد الشرقي، الذي لا يخرج في معناه العميق عن الإنشاء الاستشراقي، ومخرجات المركزية الأوروبية، فالغرب نفسه عانى طويلًا من استبداد في ظل تحالف السلطتين الزمنية والدينية، أي الملوك ورجال الكنيسة، وعاش قرونًا يرزح تحت نير الإقطاع، ويرضخ الناس فيه لما تفرضه الحملات العسكرية الجائحة.
مثال لذلك هجمات قبائل الفايكنج والجرمان، ولم يعرف الغرب الديمقراطية إلا في القرون الأخيرة، وقام بوصل تجربة أثينا القديمة مع الزمن الحديث والمعاصر، وكأن بينهما كانت الشعوب تعيش حرة تحت حكم الأباطرة والملوك والقياصرة.
كان في مصر ملوكٌ ينظرون إلى شرعيتهم على أنها بنت الرضاء الشعبي
وحتى في الزمن الحديث والمعاصر عرفت بعض المجتمعات الأوروبية الخضوع الشديد لنظم حكم مستبدة، مثل الألمان تحت حكم النازي هتلر، والطليان تحت حكم الفاشي موسوليني، والأسبان تحت حكم الجنرال فرانكو، والروس تحت حكم الشيوعيين، وكذلك بلدان أوروبا الشرقية.
وفي هذا المضمار توجد رؤية أخرى عن مصر، تتحدث عما تسمى الفرعونية السياسية، تحيل إلى صورة الطاغية القرآنية لفرعون موسى ووزيره هامان، وتسند حجتها إلى الحق الإلهي للملوك الذي عرفته الحضارة المصرية القديمة.
في هذا تعميم خاطئ، إذ لم يكن كل من توالى على حكم مصر في القرون الطويلة التي سبقت أول احتلال لأرض النيل على يد الهكسوس، يقر له بهذا الحق، فالمصريون خرجوا من عباءة هذا التصور، وتعاملوا مع الملوك فيما بعد على أنهم خرجوا من بين الناس، ولم يهبطوا من السماء، وواجهوهم على هذا الأساس في مواضع ومواقع كثيرة، رصدها المؤرخون، وبينوا فيها كيف كان في مصر ملوك يوصون بالعدل ويقيمونه، وينظرون إلى شرعيتهم على أنها بنت الرضاء الشعبي، وليست مباركة مزعومة للسماء.
كان بعض الملوك يقرون بحق الأمة عليهم في إقامة العدل، الذي تم التعبير عنه بجلاء في ماعت. وتحمل وصايا الملوك لورثة عروشهم الكثير من حثهم على عدم ظلم الرعية، وبذل واسع الجهد في سبيل الارتقاء بحياتهم وحمايتهم.
ثلاثة أخطاء
هناك ثلاثة تصورات خاطئة عن مصر، وربما هي افتراءات وتخرصات، شاعت وكادت ترسخ في الأذهان، وكأنها حقيقة لا تقبل الجدل.
الخطأ الأول، عمّم البعض مغرضين أو متسرعين أو جاهلين حكاية ومسار فرعون موسى على كل ملوك الفراعنة، ونحت مصطلح "الفرعونية السياسية"، كما سبق الذكر، مع أن هؤلاء وإن كانوا قد تصوروا أن لهم "الحق الإلهي" في الحكم، فإن شرعيتهم قامت على العدل وخدمة الرعية، ولم ينفردوا بالقرار تمامًا، وهو ما تحمله وصاياهم، مثلما أوضحنا، وكذلك ما ورد عن علاقة المعبد بالدولة، أو علاقة الدين بالسلطة السياسية، من تصورات بينت أن قرار أهل الحكم لم يكن مطلقًا.
البشرية كلها عرفت الاسترقاق والاستعباد والاستبداد
والخطأ الثاني برز في الآونة الأخيرة في ركاب رغبة البعض في الإساءة إلى مصر. فيردد هؤلاء دومًا أن لفظ "السجن" ومشتقاته ورد فى القرآن الكريم عشر مرات مقرونًا بمصر، تسعة منه في سورة "يوسف" مواكبًا لقصة النبي يوسف، وواحدة في سورة "الشعراء" مرتبطًا بقصة النبي موسى.
يعتقد هؤلاء أن هذا الاقتران أو التلازم النصي يعنيان أن مصر كانت دائمًا أرضًا للقهر والعسف والإذلال، مع أن السجن أُقيم فى مصر القديمة كمؤسسة عقابية للمجرمين والرافضين للحاكم أو مَن يظلمهم، فى وقت كانت فيه الأمم الأخرى، غير المتحضرة، تجز أعناق المختلفين مع السلطة السياسية أو المعترضين عليها، أو تحرقهم بدون محاكمة.
أما الخطأ الثالث، فهو أن الحكم على أهل مصر بالخنوع لم يعتن أصحابه بمقارنة حال المصريين بغيرها في هذه القرون الغابرة. ولو أتعب هؤلاء المتعجلون أنفسهم بعض الوقت وقارنوا بين ما كانت عليه مصر من علاقة السلطة بالمجتمع، أو الحاكم بالمحكوم، وما كانت عليه أممٌ أخرى قديمةٌ، لوجدوا أن حال مصر كانت أحسن كثيرًا من غيرها.
لقد وصل الأمر في هذا كله بالبعض حد وصف التاريخ المصري كله بأنه "تراث العبيد"، مع أن البشرية كلها عرفت الاسترقاق والاستعباد والاستبداد، وبعضه كان أشد قسوة مما عرفته بعض فترات التاريخ الاجتماعي المصري، وفيما كانت أمم أخرى تصمت حيال القهر والضيم والظلم، شهدت أرض النيل على مدار الزمن أشكالًا عدةً من التمرد، امتدت من مجرد الاعتراض اللفظي كما جاء في واقعة "الفلاح الفصيح" حتى الثورة، مرورًا بالعصيان والانتفاض والخروج والهبوب والفوران والتفلت من قبضة الحكم الشديدة.
مقاومون ولو بالحيلة
توزعت غضبة المصريين الرافضة للرضوخ والركوع والهجوع والخنوع، على مسارين؛ الأول هو الثورات والانتفاضات الشعبية ضد الحكام، حين يركنوا إلى ظلم الشعب وقهره، والثاني هو الثورة ضد المحتل الأجنبي، وتنظيم الصفوف لمحاربته، وإجباره على الخروج مهزومًا من أرض النيل، أو صهره وهضمه في تلافيف المجتمع المصري.
يكفي في هذا المضمار أن نشير إلى أربعة أمور أساسية؛ الأول هو أن مصر احتفظت بهويتها وخصوصيتها الثقافية والحضارية على مر الزمن، وقاومت الاستلاب أمام ثقافات الغرباء والوافدين والقادمين من بعيد.
وحتى الأديان السماوية التي تعاقب المصريون على اعتناقها منحوها من الخصوصية المصرية الكثير، حتى صارت في جانبها الثقافي، وجزء من جانبها الاعتقادي، متماهية أو على الأقل متوائمة مع "الطريق المصري".
والثاني هو أن واحدةً من أقدم الثورات في التاريخ الإنساني، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق، وقعت في أرض النيل، حين ثار المصريون على الملك بيبي الأول في سنة 2300 ق.م بسبب الفساد الإداري، والظلم الاجتماعي.
والثالث هو أن مصر لم تمر عليها حقبةٌ تاريخيةٌ، أو عهدٌ من العهود السياسية إلا وشهدت ثورات وانتفاضات وهبات وتمردات لم تنقطع، وهذا ينفي عن أهلها مسألة الخنوع والخضوع التي يصم البعض بها المصريين، في إزاحة متعمدة أو غافلة أو جاهلة لتاريخ غير منقطع من التبرم والتذمر والرفض والاحتجاج وإبداء الخلاف والاختلاف.
أما الأمر الرابع فيخص معرفة المصريين بأشكال متنوعة من المقاومة بالحيلة، مارسوها طوال الزمن، بما في ذلك الوقت الذي يصنفه بعض المؤرخين على أنه كان استسلامًا لعسف السلطة السياسية وتجبرها، سواء كانت سلطة وطنية أنتجها المجتمع المصري ومؤسساته وتشكيلاته، أو كانت احتلالًا خارجيًا أو أجنبيًا، ما إن يرحل أحده، حتى يأتي غيره، لكن بقيت مصر على مدار هذا الزمن الطويل هي مصر.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
