تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
الصورة السينمائية للصعيد أسيرة تصورات مشوهة وسرديات تاريخية مغلوطة

صوفيون وثوار ومطاريد..الصعايدة كما شكلهم خيال السينما

منشور الخميس 4 أيلول/سبتمبر 2025

لطالما ارتبط الصعيد في الخيال البصري المصري بموقعه جنوب البلاد، كمنطقة زراعية على ضفاف النيل، تتكرر فيها الصور النمطية حول الفقر والثأر وتجارة السلاح. هذا التصور لم يتشكل فقط عبر عدسة السينما بل ترسخ في الوعي الوطني كامتداد طبيعي لفكرة أن "مصر هبة النيل"، حيث تُختزل البلاد في مجرى النهر وضفافه، ويُغفل عمقها الصحراوي الذي شكّل وجدانها وموروثها الروحي والثقافي لقرون.

هكذا، جرى التعامل مع الصعيد بوصفه مخزنًا للعمالة وحقلًا للزراعة، لا بوصفه فضاءً رحبًا يربط مصر بامتداداتها الطبيعية غربًا وجنوبًا عبر الصحراء الكبرى.

غير أن هناك سرديات فنية مغايرة أعادت التفكير في موقع الصعيد، ليس فقط كجنوب زراعي، بل كامتداد طبيعي وثقافي وروحي للصحراء، متصل بتاريخ من الرهبنة والتصوف والمقاومة يتجاوز الاختزال المتكرر في الدراما السائدة. هذا المقال يحاول تتبع بعض التمثيلات السينمائية والدرامية التي انشغلت بهذه الرؤية البديلة، في مقابل الخطاب البصري الذي استقر لعقود طويلة.

المقاومة والتنميط

في مقابل الأعمال الفنية التي أعادت تمثيل الصعيد كفضاء روحي وجغرافي متصل بالصحراء الكبرى، ثمة خط آخر أكثر رسوخًا في السينما الكلاسيكية والدراما التلفزيونية المصرية، وهو الذي يقدِّم الصعيدي كخارج عن القانون، ويصوّر الجبل كملاذ للمجرمين والمهربين. أفلام مثل الوحش 1954، وفتوة الجبل، ومسلسل ذئاب الجبل 1992، وحتى فيلم الجزيرة 2007، كلها تستعيد هذا التصور النمطي، حيث يصبح الجبل رمزًا للفوضى، والعنف، والهرب والتمرد على السلطة.

اختزلت الدراما الصعيدي في صورة البلطجي أو تاجر السلاح متجاهلة أبعادًا روحية وثقافية أعمق

في هذه السرديات، لا يُنظر للجبل كملاذ للمتصوفة أو الثوار، بل كفضاء مظلم تُلاحق فيه الدولةُ الخارجين عن القانون. لكن هذا التصور لم يأتِ من فراغ، بل تشكَّل خلال تاريخ طويل من المواجهة بين السلطة المركزية وسكان الأطراف. فالصعيد، لا سيما في لحظات المقاومة ضد الحملة الفرنسية والتجنيد الإجباري والسخرة في عهد محمد علي أو الاحتلال البريطاني، كان يتخذ من الجبل والصحراء نقاطًا للتحصن والهروب. ومع الوقت جرى صياغة هذا التاريخ بلغة تُضفي طابعًا شيطانيًا على المطاريد، دون التفريق بين من يقاوم السلطة ومن يمارس الجريمة.

هكذا، اختزلت الدراما الصعيدي في صورة البلطجي أو العنيف أو تاجر السلاح، مُغيِّبة بذلك أبعادًا روحية وتاريخية ومعمارية وثقافية أعمق. من بينها المقاومات التي انطلقت من أهالي الصعيد ضد حملات التجنيد الإجباري في عهد محمد علي، وما تبعها من إجراءات قمعية عنيفة، وحتى لحظات الصدام المتكررة مع الدولة المركزية الحديثة.

اختارت السينما تصوير الجميع بوصفهم "مطاريد الجبل"، متجاهلة تعقيد علاقة الصعايدة بجغرافيتهم، وارتباطهم المتنوع بالجبل والصحراء كموارد للنجاة، لا مجرد أوكار للجريمة.

واحة النخيل وأطياف الغياب

في المشهد الافتتاحي لفيلم عرق البلح 1998 يعود شخص غريب على قدميه إلى الواحة باحثًا عن أهله وعن هويته. تحاصره الصحراء من كل جانب، كما يحاصره الفراغ بداخله، لكن الواحة تكون شبه خالية، لأنها كما يقول السرد "انكشف رعب الشمس حين غابت النخلات العاليات عنها".

لقطة لشريهان من فيلم عرق البلح، من إخراج رضوان الكاشف، وإنتاج 1998

نحن هنا أمام ملحمة بصرية وروحية، لا تكتفي بطرح أسئلة حول البُعد الجغرافي أو المكان، بل تنفذ إلى عمق الشعور الإنساني: كيف عبَرت الصحراء إلى قلوبهم؟ كيف عاشوا فيها بعيدًا عن رعب الشمس؟ وكيف انتهى المطاف برحيلهم عنها، واحدًا تلو الآخر، حتى صارت الواحة بلا نخيل، بلا رجال، بلا ظل؟

الفيلم لا يتعامل مع الصعيد كمجتمع زراعي على ضفاف النيل، بل كمجتمع صحراوي حدودي، قائم على الهشاشة والتكرار والانتظار. تتكرر فيه الحكايات الصغيرة مثل النسيم، ويصبح الصمت أبلغ من الحوار. الكثبان، والواحة، والنخيل، والفراغ، ليست فقط خلفية مكانية، بل كيانات تعكس بنية الحياة نفسها.

تُبنى السردية على غياب الذكور ورحيلهم المتتالي، في مقابل صمود النساء اللاتي يحمين الواحة والبيت والطقوس. هنا، لا يظهر الصعيد كموضع قوة ذكورية أو فحولة تقليدية، بل كحيّز نسوي مقاوم، متكئ على صبر لا يُرى.

الحضور الأنثوي في الفيلم يرتبط بالصحراء باعتبارها فضاءً روحيًا خالصًا: جافّ، صامت، لكنه قادر على حمل الذاكرة، والتكثيف، والبوح المؤجل. بهذا، يعيد الفيلم ربط الصعيد بالصحراء الكبرى ليس فقط جغرافيًا، بل نفسيًا وعاطفيًا، مقترحًا صورة الجنوب ككيان معلّق بين الغياب والذكرى، بين الحلم والرمال، بين نخيل رحل وشمس لا تغيب.

فيلم المومياء 

في فيلم المومياء (1969) لشادي عبد السلام، يظهر الصعيد بوصفه مسرحًا لصراع مركّب بين الحداثة والماضي، بين العلم والتقاليد. قبيلة "الحربات" التي تعيش في صحراء طيبة لا تزرع الأرض، بل تمتهن سرقة الآثار، وتحفر في الجبال، وتُبقي علاقتها بالمكان قائمة على الخفاء، والمراوغة، والعيش على أطلال التاريخ.

الجبال، الكهوف، والانحدارات تظهر بلغة بصرية صارمة، تقدّم الصعيد كامتداد مباشر للصحراء الكبرى، حيث لا يُفهم التراث كحجر ميت، بل كقوة حية تتكلم عبر الصمت والظل. شريط الصوت يتخلله صمت ثقيل، وصوت الرياح وهي تعبُر الصخور، وصوت الرمال وهي تتحرك كأنها تهمس أو تصرخ من تحت الأقدام. الصمت ليس غيابًا، بل حضورًا للمكان، للفراغ، وللأسئلة الوجودية.

وسط هذا كله، يظهر ونيس، شاب ضئيل، معذَّب، يبحث عن ذاته في ممرات ضيقة، بين تماثيل شاهقة ومومياوات راقدة. محاطًا بضخامة المكان، يبدو هشًّا وضائعًا، لا يستطيع الانتماء لحاضره، ولا فهم تاريخه. تتضخم الصحراء من حوله وتبتلعه رمزيًا، كأن الهوية لا تتكوّن إلا عبر المرور القاسي في أحشاء التاريخ والجغرافيا. يقدم الفيلم الصعيد كأثر حي من التاريخ الصحراوي، لا ينتمي فقط لمصر، بل لتخوم الأسطورة والكونية.

يروي مسلسل شيخ العرب همام آخر ملوك الصعيد (2010) سيرة زعيم قبائل هوارة في القرن الثامن عشر، ويعكس ملامح السلطة الذاتية التي نشأت في الجنوب وتحالفاتها مع القبائل الرحّل والعشائر البدوية. الصعيد هنا ليس مجرد جنوب زراعي، بل مجال سياسي وجغرافي مفتوح على الصحراء، يعكس تعقيد التكوين القبلي وشبكات القوة المحلية في مواجهة المركز. هوية همام كزعيم قبلي تعكس تعقيد علاقة الصعيد بالصحراء كنطاق حكم ومقاومة.

https://soundcloud.com/almanassa/sets/krfgx1vpirqi

الصعيد المقدس 

تقدّم الميديا المسيحية القبطية في مصر، خصوصًا من خلال قنوات مثل أغابي وCTV، نموذجًا بصريًا مختلفًا يتعامل مع الصحراء لا كخلفية محايدة، بل كفضاء روحي للتجلي والتطهُّر. في هذه الأعمال التي تحكي سير القديسين والرهبان، تظهر الصحراء باعتبارها موضعًا للانعزال ومقاومة الإغواء والتجرُّد من العالم، وهي سرديات تنبع من تاريخ طويل للرهبنة في جبال الصعيد، مثل دير الأنبا أنطونيوس والدير الأبيض ودير العذراء بجبل درنكة وغيرها من الأديرة المنتشرة في صحراء الصعيد.

هذه الإنتاجات، رغم تواضع تقنياتها، تخلق لغة بصرية خاصة: مشاهد صامتة، لقطات طويلة، تركيز على الوحدة والتأمل، ما يجعلها أقرب إلى التجربة الشعائرية منها إلى العمل الدرامي التقليدي. وهي أيضًا إنتاجات غير مركزية، تنفذ خارج رقابة الدولة والسوق، وتخاطب جمهورًا صعيديًا بشكل خاص ومسيحيًا بشكل عام بلغته ووجدانه.

من خلال هذه الميديا، يَظهر الصعيد موضعًا للتقديس لا للتهميش، وفضاءً مرتبطًا بالصحراء الكبرى عبْر الخيال الروحي لا الجغرافي فقط، مما يعيد رسم علاقته بالمكان والهوية خارج التصورات السائدة حتى لو ارتبط ذلك بمرجعية مسيحية بالأساس.

سيرة بني هلال

سيرة بني هلال، التي تتنقل بين الحجاز وتونس ومصر، تجسد الصعيد كجزء من نطاق ثقافي وجغرافي أوسع. في الوجدان الشعبي، أبو زيد الهلالي قريب، لا غريب، والسيرة تعكس كرامة الترحال والصراع. وقد تحوّلت السيرة إلى أعمال درامية وجداريات ومواويل. هذا الامتداد يربط الجنوب بالصحراء الكبرى وبلاد المغرب. المفارقة أن أهم السير الشعبية في الصعيد دارت حول "مطاريد الجبل" الذين تحوّلوا لاحقًا إلى رموز فنية، مثل "ياسين وبهية"، ما يؤكد استمرار الثنائية: الجبل كمكان للتمرد أو للجريمة، وفق زاوية السرد.

ما تحتاجه السينما والدراما المصرية اليوم هو إعادة تعريف الصعيد ليس فقط كجنوب زراعي تابع للقاهرة، بل كجزء من صحراء كبرى، تلتقي فيها ثقافات، وتمتد فيها مسارات روحية وتاريخية، وتشهد مقاومات وتفاعلات معقدة. هناك سرديات كثيرة لم تُروَ بعد، وأراضٍ لم تُصوَّر إلا بوصفها خلفية، لا كحياة كاملة.

إن إعادة ربط الصعيد بالصحراء الكبرى يفتح أفقًا جديدًا في التخيل البصري، يعيد الاعتبار للمكان لا كهوامش بل كنقاط التقاء وتحول. وهذا الخطاب لا يُنقذ فقط تمثيل الصعيد من الكليشيه، بل يعيد دمجه في خرائط أوسع: جغرافية وثقافية وروحية، تعكس تعقيده وتنوعه وتاريخه العابر للحدود.