أعطتنا هذه الواقعة فرصة جديدة للمقارنة بين إعلام انتُزع بعض حريته، وآخر مقيد تمامًا
تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أزمة الصحافة.. ما بعد الاعتراف

منشور الاثنين 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

مساحات الحرية والاستقلال التي أتاحتها ثورة يناير قبل أكثر من عشر سنوات منحت الإعلام قدرًا من التأثير والجاذبية، لكن السلطة الجديدة سرعان ما ضاق صدرها بما اعتبرته "انفلاتًا إعلاميًا"، بدعوى تأثيره السلبي على الحرب التي تخوضها الدولة ضد الإرهاب، ففرضت قيودًا على منصاته.

فقدَ الإعلام وبشكل تدريجي تأثيره وجاذبيته، حتى صار عاجزًا عن إيصال رسائل الدولة للجمهور، وهو ما دفع السلطة إلى التأفف من ضعفه وفشله في الترويج لسياساتها وإنجازاتها، ظهر هذا في تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي غبط فيه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على إعلامه.

تقييد وارتباك

هكذا، ظل المسؤولون خلال العقد الماضي، يفعلون الشيء وعكسه، يتحدثون عن تراجع الإعلام المصري وفشله في دعم أجندة السلطة ومواقفها، ثم يبررون حصاره بدعوى أن الدولة كانت في مواجهة عنيفة مع جماعات الإرهاب، وهو ما يستدعي التدخل حتى لا يتسبب الإعلام في إثارة البلبلة عبر نشر معلومات مغلوطة أو آراء وتحليلات مضللة، باعتبار المعركة الإعلامية جزءًا من المعركة الأمنية.

الانتصار على الإرهاب لم ينعكس على حرية الإعلام

من جهة أخرى، ظنت السلطة خلال تلك الفترة أن "وضع الأمور تحت السيطرة" وفرض "الرقابة والتوجيه" كافيان لحماية المجال الإعلامي من "الفوضى التي ضربته إثر ضخ أطراف خارجية مليارات الدولارات في سوق الإعلام المصري بهدف ضرب استقرار الدولة"، حسب ما صرح به مسؤول سابق لكاتب السطور.

ورغم أن الرئيس السيسي أعلن قبل ثلاثة أعوام انتصار الدولة في حربها على الإرهاب، فإن ذلك لم ينعكس على تعامل الدولة مع وسائل الإعلام التي هجرها الجمهور ليتجه إلى بدائل أكثر تنوعًا وموثوقية.

اعتراف مجاني

مؤخرًا، اعترفت السلطة بوجود أزمة كبيرة في المنظومة الإعلامية. هذا الاعتراف وإن كان متأخرًا لكنه قد يضعنا على أول طريق العلاج، لا سيما إذا جرى تشخيص الخلل وتحديد أسباب القصور بصورة مهنية.

كان لافتًا أن يدعو الرئيس السيسي رؤساء الهيئات الإعلامية إلى العمل على فتح وسائل الإعلام أمام مختلف الآراء، بما يرسخ مبدأ "الرأي والرأي الآخر" ويعزز التعددية والانفتاح الفكري. وهي دعوة تعني ضمنًا أن المرحلة الماضية شهدت حجبًا ومنعًا وتغييبًا متعمدًا لـ"الرأي الآخر"، وهو ما انعكس سلبًا على أداء المنظومة الإعلامية.

الحكومات التي تتحرى الشفافية في أدائها لا تخفي معلومة

فتحت تلك الدعوة باب الأمل في أن السلطة أدركت أن استمرار الإنكار لم يعد ممكنًا، وأن الإعلام الخاضع للسيطرة لا يلبي شغف الناس في المعرفة وهو ما يُفقده القدرة على التأثير.

لكن هل يعني هذا الاعتراف أن السلطة أدركت أن منع الصحافة من القيام بدورها في مراقبة أعمال الحكام وكيلًا عن المحكومين، يفتح أبواب الفساد على مصراعيه؟ فالحكومات التي تتحرى الشفافية في أدائها، لا تخفي معلومة ولا تمنع خبرًا ولا تنزعج من رأي.

وهل يعني هذا الاعتراف أن السلطة أيقنت أن ما تحجبه من أخبار وآراء يصل إلى الجمهور عبر منصات أخرى تتبنى توجهات وسياسات قد تستهدف بعضها مصالح الدولة وأمنها القومي.

العلاج بالحرية

قدرة الإعلام المصري على استعادة جمهوره تكمن في أدائه لواجبه دون وصاية أو رقابة، فكلما اتسع هامش الحرية وتحسنت البيئة المحيطة، ازدادت قدرة الصحفيين على إنتاج محتوى قادر على المنافسة، والعكس صحيح؛ فالجمهور لن يُقبِل على صحف أو قنوات تصنع محتوى يبتغي رضا السلطة ويشتري ودها.

بعد الاعتراف وتشخيص الخلل، يأتي الدور على وضع "روشتة العلاج" التي تعيد لمنصات الصحافة مصداقيتها وجاذبيتها، ما يجعلها قادرة على استرداد جمهورها. والبداية يجب أن تكون بإعادة النظر في البيئة السياسية والتشريعية التي فرضت قيودًا على صناعة الصحافة، وأن تعمل السلطة على تحويل المقاصد الدستورية إلى واقع ملموس.

فلا يجوز أن يحظر الدستور الذي أُقر منذ أكثر من عشر سنوات الحبس في قضايا النشر، بينما تظل المنظومة التشريعية تتضمن نصوصًا تسلط سيف الحبس على رقاب الصحفيين.

الصحافة ليست خصمًا للسلطة ولا منافسًا لها بل قناة اتصال مع المجتمع

ولا يجوز أن ينص الدستور على حظر الرقابة على الصحف ووسائل الإعلام إلا في حالتي الحرب والتعبئة العامة، ثم تُشرعن الرقابة وتُضمّن في قانون من المفترض أنه وُضع لتنظيم الصحافة والإعلام.

ولا يجوز أن يلزم الدستور الدولة بإصدار قانون ينظم حرية تداول المعلومات، ويستمر تجاهل هذا الإلزام من مجلس النواب طوال دورات انعقاد متتالية.

المطلوب الآن لو حسنت النوايا، التوافق بين أطراف المنظومة على أجندة إصلاح تشريعي شامل تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والصحافة على أساس من الثقة لا الوصاية، فالرقابة لا تمنع الشائعات، وإغلاق النوافذ وفرض القيود يدفعان الجمهور إلى التمسك ببدائل قد تكون سببًا في تضليله وخداعه بما تقدمه من محتوى جاذب لكنه محمل بأفكار يسعى أصحابها إلى ترسيخها بشكل ناعم في وجدان الناس.

الصحافة ليست خصمًا للسلطة ولا منافسًا لها، بل قناة اتصال بين الدولة والمجتمع، مهمتها أن تراقب وتقيم وتفسر وتنتقد، لا أن تبرر وتروج، تنقل آلام الناس وآمالها إلى دوائر صنع القرار.

استعادة هذه الوظيفة لن تتحقق إلا بعودة الثقة المتبادلة، فالدولة بحاجة إلى إعلام قوي وفاعل وحر، فبدونه تفقد بوصلتها وتُحرم من القناة التي تتعرف من خلالها على نبض الناس واتجاهات الرأي العام.

لن تتمكن الدولة من تحقيق أي تقدم أو إنجاز حقيقي، أو مواجهة التحديات التي تحيط بها من كل جانب دون صحافة تقوم بواجبها الأساسي، ولن يتحقق ذلك إلا بإعادة النظر في كل ما جرى في هذا الملف خلال العقد الماضي.

يخشى البعض أن يكون اعتراف الدولة بأزمة الصحافة مجرد لحظة عابرة، ثم لا نلبث أن نعود مجددًا إلى حالة الإنكار التي أوصلتنا إلى هذه النقطة، لنواصل الدوران في متاهة الثقة المفقودة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.