تصمبم يوسف أيمن، المنصة
السيطرة وتكميم الأفواه تعيق تقدم المجتمعات

توجيهات الرئيس وفيتو "النقل"

منشور الاثنين 25 أغسطس 2025

لم يكن مفاجئًا أن تُسارع وزارة النقل باتهام جريدة فيتو بنشر الشائعات والأكاذيب بعد عشرة أيام فقط من تشديد الرئيس عبد الفتاح السيسي على "التزام الدولة الراسخ بإعلاء حرية التعبير، واحتضان كافة الآراء الوطنية ضمن المنظومة الإعلامية المصرية، بما يعزز من التعددية والانفتاح الفكري"، حسبما جاء في بيان رئاسة الجمهورية.

عندما اجتمع الرئيس السيسي برؤساء الهيئات الإعلامية في العاشر من أغسطس/آب الحالي، وجّههم بوضع خريطة طريق لتطوير الإعلام المصري، تتضمن مواكبته للتطورات العالمية المتسارعة، وتمكينه من أداء رسالته بما يتماشى مع توجهات الدولة المصرية الحديثة.

في ذلك الاجتماع الذي استمر نحو ثلاث ساعات، تحدث الرئيس مطولًا عن "سبل النهوض بالمنظومة الإعلامية"، في مقدمتها الانفتاح على مختلف الآراء بما يرسخ "مبدأ الرأي والرأي الآخر"، مؤكّدًا عدم جواز أن يكون "الرأي الآخر محجوبًا أو ممنوعًا من الظهور في وسائل إعلام الدولة"، حسبما ذكر رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أحمد المسلماني في تصريحاته لنشرة التاسعة على القناة الأولى مساء الاجتماع.

لم تمر عشرة أيام حتى اصطدمت التوجيهات الرئاسية المحمودة بحقائق الواقع، عندما نشرت جريدة فيتو تقريرًا بعنوان "التدرج يحوّل القيادات السابقة إلى مناصب شرفية"، يرصد استعانة وزارة النقل بمستشارين من خارج الوزارة، معظمهم من العسكريين، وذلك ضمن ملف صحفي موسّع نُشر بالعدد نفسه تحت عنوان "جمهورية المستشارين: حكومة في الظل تُكلف الملايين وتساؤلات حول جدوى مهامهم".

لكن يبدو أن وزارة النقل، التي يتولَّاها نائب رئيس الوزراء كامل الوزير، لا تأخذ توجيهات رئيس الجمهورية بشأن حرية الإعلام مأخذ الجد، ولا تؤمن بحرية الرأي والتعبير ولا تحترم الرأي الآخر الذي دعا السيسي إلى عدم "حجبه" أو "منعه". فسارعت بالإعلان عن تقديم بلاغ إلى النائب العام تتهم فيه فيتو بنشر الأكاذيب والشائعات، ثم تراجعت واكتفت بشكوى وجهتها إلى المجلس الأعلى للإعلام.

يأتي ذلك رغم نشر الجريدة توضيحَ الوزارةِ على موقعها الإلكتروني التزامًا منها بكفالة حق الرد المعمول به في معظم الدول الديمقراطية التي تحترم الصحافة والإعلام، حيث يتواصل المسؤولون مع المنصات الصحفية لتصحيح أو توضيح أي معلومات مغلوطة أو غير دقيقة إن وجدت.

إذا أرادت السلطة فتح صفحة جديدة تعزز فيها من مصداقية وتأثير وانتشار الإعلام المصري فالمسار واضح

درجت السلطة على إطلاق شعارات عن "إصلاح الإعلام" وإتاحة مساحات لكل الآراء، بينما يكشف واقع الحال تربُّصًا بالصحافة وإصرارًا على جر الصحفيين إلى ساحات القضاء بدلًا من التعاون معهم في كشف الحقائق وتزويدهم بالمعلومات اللازمة لتتضح الصورة للشعب الذي أكد الرئيس مرارًا أنه لا يريد له أن يكون "مُغيّبًا" أو "جاهلًا"، بل "واعٍ ومثقف ومتعلّم"، وفق ما نقل المسلماني عن الرئيس.

كيف يمكن أن يتحقق هذا الوعي إذا كان الإعلام محاصرًا، وإذا كان الرأي الآخر يمثل جريمة، وإذا كانت الصحف مهددة كلما حاولت أن تؤدي دورها في كشف الحقائق ونشر المعلومات؟

أزمة فيتو ووزارة النقل كاشفة لطريقة تعامل السلطة مع الإعلام في العقد الأخير؛ حديث متكرر عن فتح المجال العام ومنح مساحات للمخالفين والمعارضين للتعبير عن آرائهم تحت شعار الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية، لكن عندما تترجم الصحافة تلك الشعارات إلى واقع يضيق صدر المسؤولين فيتعاملون مع الصحف بعصبية زائدة، ذلك أنهم لا يؤمنون بحق الصحافة في الرقابة على أعمالهم نيابةً عن المواطنين، ويعتقدون أن دور الصحفيين يقف عند حد نقل تصريحاتهم والحديث عن إنجازاتهم، دون تدقيق أو مراجعة.

في سبتمبر/أيلول 2021، أطلق الرئيس الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان باعتبارها "نقطة مضيئة في تاريخ مصر، وخطوة جادة على سبيل النهوض بحقوق الإنسان بالبلاد".

الاستراتيجية التي وُصفت حينها بأنها "خارطة طريق طموحة" تضمنت "روشتة" لمعالجة أزمة حرية الرأي والتعبير، تشمل "إصدار قانون ينظم حق الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات الرسمية وتداولها، تعزيز مناخ التعددية وتنوع الآراء، حماية الصحفيين أثناء تأدية عملهم، تعزيز الحق في ممارسة حرية التعبير، مع مراجعة دورية للقوانين المقيدة لهذا الحق، إصدار مدونة سلوك شاملة تنظم الممارسات الإعلامية والصحفية، ورفع الوعي المجتمعي بأهمية حرية التعبير".

غير أن أربع سنوات مرّت منذ إطلاق الوثيقة، بقيت خلالها معضلة الإعلام لا تراوح مكانها؛ لا تعديلات أُدخلت على القوانين المقيدة لحرية الصحافة، ولا قانون تداول المعلومات خرج إلى النور رغم مرور أكثر من 10 سنوات على إقرار الإلزام الدستوري بإصداره، ولا مناخ التعددية وتنوع الآراء تحقق. أما عن حماية الصحفيين فحدّث ولا حرج؛ بلاغات ومحاكمات وحصار مستمر، و"كأنك يا أبو زيد ما غزيت".

يكفي عقد كامل لتدرك السلطة أن انسداد الأفق، وإغلاق المجال العام، ومحاصرة الإعلام، يكلف الدولة أثمانًا باهظة. فلا يمكن مواجهة الحملات الخارجية التي تستهدف صورة مصر، وتقول السلطة إنها ممولة بمليارات الدولارات، عبر التضييق على الصحافة والإعلام. ولا يمكن صد الخطاب المعادي إذا كان الصوت الوحيد المسموع هو صوت السلطة.

الكرة الآن في ملعب السلطة؛ إما أن تترجم وعودها إلى خطوات ملموسة تبدأ بتحرير المجال الإعلامي من القيود وإعادة النظر في القوانين المقيدة للصحافة وإصدار قانون لتداول المعلومات ورفع يد الأجهزة عن المنصات الصحفية، أو أن تستمر في إطلاق الشعارات التي يسير الواقع عكس اتجاهها.

الاختبار الحقيقي ليس فيما يُقال، إنما في ما يُمارس على الأرض. إذا أرادت السلطة فتح صفحة جديدة تعزز فيها من مصداقية وتأثير وانتشار الإعلام المصري، فالمسار واضح، وروشتة الإصلاح قُتلت بحثًا خلال السنوات الماضية في مؤتمرات ولقاءات، بعضها علني وبعضها في غرف مغلقة.

الصحافة الحرة هي جهاز المناعة الذي يحمي المجتمعات، هي التي تدقق السياسات وتراجع القرارات وترصد الأخطاء وتلقي الضوء على مواضع الخلل قبل أن تتحول إلى كوارث... هي الركيزة الأساسية التي ترفع عليها أعمدة الدولة الحديثة المستقرة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.