"دخل الربيع يضحك".. فكاهة فوق الرماد
يفيض فيلم دخل الربيع يضحك (2024) للمخرجة والكاتبة نهى عادل بالتناقضات الجميلة والموجعة في آنٍ واحد. ضحكٌ ظاهرٌ وحزنٌ دفينٌ، أماكنٌ مفتوحةٌ تبدو كأنفاسٍ محبوسةٍ، ووجوهٌ تبتسم بينما أرواحها تتلوّى في صمت.
في أول أفلامها الطويلة، تختار نهى أن تغوص في عالم النساء المأزومات بين ما يُراد لهنّ أن يَكنهُ، وما يَكْمن خلف ابتساماتهنّ من قهرٍ وكبتٍ وأحلامٍ محبوسةٍ.
يُبنى الفيلم على أربعِ حكاياتٍ متفرقةٍ تحدث في أربعةِ أماكنَ متباينةٍ؛ بلكونة في المعادي، مطعم يحتفل بعيد ميلاد، كوافير شعبيّ، وغرفة تجهيز عروس. حكايات تبدو متباعدة في ظاهرها لكنها تلتقي جميعًا عند جمرٍ واحدٍ مشتعل تحت الرماد. كل فصل يبدأ بخفةٍ ومرحٍ ظاهريٍّ، ثم ينفجر فجأةً في مواجهةٍ مؤلمةٍ تكشف ما تحت القشرة اللامعة من غصّةٍ وألمٍ. تلك البِنية التي تجمع بين التقطيع والتماثل تمنح الفيلم إيقاعًا نابضًا يشبه التنفس المتقطع، كأننا أمام رباعية سينمائية عن الأنثى في لحظات انكسارها الصغيرة التي لا يراها أحد.
استلهمت المخرجة هيكل الفيلم من رباعيات صلاح جاهين، وهو اختيار ذكي لم يقتصر على الشكل بل يمتد إلى الروح. فكل قصة تُشكّل بيتًا من تلك الرباعية الإنسانية التي يتجاور فيها الضحك والبكاء بلا فواصل، ويغدو المزاج المتأرجح بين النشوة والخذلان النغمة الرئيسية للعمل. هنا لا تتقاطع الشخصيات، بل تتقاطع الحالات؛ الخوف، الغيرة، الحنين، والرغبة في التجمّل أمام مرآةٍ اجتماعية قاسية.
ما يُبقي هذا العمل حاضرًا في الذاكرة هو صدقه العاري
ترسم نهى عادل عالمها من زوايا ضيّقة عمدًا، كأنها تختبر حدود الكادر كما تختبر بطلاتها حدود أجسادهنّ ومصائرهنّ. كاميرتها تقترب من الوجوه إلى حدّ الاختناق، تُرغم المشاهد على مواجهة ما نتفاداه عادةً: العيون التي تضحك وهي توشك على البكاء. الأماكن التي كان يُفترض أن تكون فضاءاتٍ للراحة. الشرفة، المطعم، الكوافير، غرفة العروس تتحول إلى أقفاصٍ صغيرة محشوة بالضحك العالي لتُغطي على وجعٍ لا يُقال.
حتى البلكونة المفتوحة على هواء المعادي لا تتنفس بحرية، رغم الموسيقى الدافئة التي تملأ الخلفية بأغنيات وردة وصباح وسعاد حسني. الأغنيات التي تُستدعى هنا ليس فقط للحنين، بل صدى لعصرٍ بدا أكثر إشراقًا وإنسانيةً من حاضرٍ خانقٍ يستهلك الضحك أداة بقاء.
تضع المخرجة نساءها في طبقاتٍ اجتماعية متباينة، من سيدة المعادي التي تحلم بالانتقال إلى كمباوند راقٍ، إلى صاحبة عيد الميلاد التي تتباهى بعمليات تجميلها وتنكر وجعها، إلى عاملة الباديكير التي تدّعي مقام الهوانم، إلى أم العروس التي تتلعثم وهي تتحدث الإنجليزية لتصطنع مكانةً أعلى. غير أن الرابط بين الجميع واحد؛ إحساسٌ دائمٌ بالنقص، ومحاولةٌ للهروب من الذات عبر القناع الاجتماعي، سواء أكان هذا القناع ماركة حقيبة، أو كلمة إنجليزية في غير موضعها.
هذا التنوّع الطبقي لا يُستخدم زينةً اجتماعيةً أو استعراضًا بانوراميًّا، بل مرآة تكشف وجهًا واحدًا للمرأة المصرية المقهورة؛ سواء في قصرٍ أو في صالون حلاقة. الجميع يضحك، والجميع يُخفي ما لا يُحتمل من القهر والخذلان. وربما في هذا تكمن شجاعة الفيلم؛ أنه لا يبحث عن بطولةٍ نسائية صاخبة إنما عن وجوهٍ عادية تضحك وتنهار في صمتٍ مهيب.
اختيار المخرجة ممثلين غير محترفين قرارٌ فنيّ بالغ الذكاء، أعاد للفيلم حسّه الخام وصدقه الأول. التلقائية التي أدت بها الممثلات أدوارهنّ منحت المشاهدين شعورًا بأن الكاميرا التقطت لحظاتٍ حقيقية من الحياة لا من السينما. كل أداء بدا مشغولًا بالصدق أكثر من الإتقان فغلب على الفيلم طابعٌ شبه تسجيليّ يمنحه روحًا واقعية محببة، حتى في لحظات المبالغة أو الارتجال.
ومع جمال التجربة وعمقها، فإن بعض المقاطع أطول مما تحتمل الفكرة خصوصًا في القصة الأخيرة داخل غرفة العروس، حيث تتكرر الانفعالات بعد أن تكون الحقيقة قد كُشفت تمامًا. كما أن التحوّل المفاجئ من البهجة إلى الانفجار في كل فصل قد يُربك الإيقاع أحيانًا رغم اتساقه مع الرؤية العامة للفيلم؛ أن الضحك نفسه شكلٌ من أشكال المقاومة، وأن الانهيار جزءٌ من دورة التجمل اليومية التي تعيشها نساء المدينة.
لكن ما يُبقي هذا العمل حاضرًا في الذاكرة هو صدقه العاري. لا يتحمل ولا يسعى إلى إرضاء ذوقٍ جماهيري، بل يضعنا في مواجهة مباشرة مع هشاشتنا. هو فيلم عنّا جميعًا، على اختلاف طبقاتنا، حين نضحك ونحن نكتم البكاء، حين ندّعي أن الحياة بخير بينما نتشظّى من الداخل. في ذلك المعنى العميق، يتحول "دخل الربيع يضحك" إلى مرثيةٍ للحياة اليومية، إلى نشيدٍ صغير عن الأنوثة المقهورة وهي تصرّ على الابتسام.
بالنهاية، يخرج المُشاهد وفي حلقه مرارة لكنها مرارة صافية، كطعم الدواء بعد حُمّى طويلة. فيلم نهى عادل الأول ليس مجرد وعدٍ بولادة صوتٍ نسائيّ جديد في السينما المصرية، بل إعلانٌ جريء عن نظرةٍ مختلفة للضحك والحزن، للحياة والمقاومة. "دخل الربيع يضحك" فيلم يرى في الربيع ضحكةً حزينة، وفي الحزن بذرةَ ضوءٍ جديدة.