تصوير: سالم الريس، المنصة
شاب يحمل علم فلسطين على الحدود الشرقية لقطاع غزة أثناء عملية إشعال إطارات مطاطية احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على جنين يوليو 2023.

مقاومة ما بعد الإبادة

السيولة المتبادلة بين المقاومة وحركة التضامن

منشور الأربعاء 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

لن تتحقق أي تسوية بين الفلسطينيين ودولة إسرائيل.

أن يبدأ مقالٌ بجملة نافية وقاطعة ليس مريحًا، لكن، لا مهرب من ذلك. فهذه الجملة في تقديري ملخص دقيق لما يعرفه السياسيون في كل أنحاء العالم، بمِن فيهم مَن يتشدقون طيلة الوقت بتعبيرات من نوعية "السلام"، "حل الدولتين"، "تسوية نزاعات الشرق الأوسط". ومَن يؤكدون بوجوه جادة، لا تغيب عنها الابتسامات المتفائلة، أنهم يعملون بناء على مخططات واضحة لحل النزاع، ولكي ينال الشعب الفلسطيني حقوقه في صيغة تعايش بين الدولة الفلسطينية المستقبلية ذات السيادة، ودولة إسرائيل.

لا وجود لتفسيرات معقدة لهذا التناقض؛ بين أن يكون السياسيون وأصحاب القرار في منطقتنا واعين خلال العقود الثمانية الأخيرة باستحالة "التسوية" التفاوضية، وأن يستمروا في تسويقها وخداع السذج بها، وإنفاق أموال طائلة عليها في الوقت ذاته.

إنه الدور الوحيد الذي يلعبه هذا النوع من السياسة المحافظة على ما هو قائم. بل إنه مبرر بقاء السياسيين أنفسهم، وأن يظهروا وكأنهم يعملون ويلعبون أدوارًا تاريخية. فالبديل مظلم ومخيف بالنسبة إليهم إن اعترفوا علانية بأن هذه التسوية مستحيلة. فهذا الاعتراف سيتبعه بالضرورة إما نفي الحقوق الفلسطينية التاريخية في الحياة والحرية والسلام، أو نفي ما تم تسميته بحق إسرائيل في الوجود.

بنفي حق الشعب الفلسطيني في البقاء والحرية والسلام ينسف السياسي أدوات عمله؛ الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية. وبنفي حق دولة إسرائيل في البقاء يُدخل السياسي نفسه في المتاهة، في المغامرة القصوى المتمثلة في معاداة سلطة الرأسمالية العالمية الحاكمة للكوكب. لأنه يعترف ساعتها بأن بقاء الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، ونيلهم لحقوقهم، لا يتحقق إلا بإنهاء وجود دولة إسرائيل كما نعرفها.

وهذا الإنهاء في حد ذاته معناه وجود دولة ديمقراطية وعلمانية في الشرق الأوسط، يتعايش فيها المنتمون لأجناس وديانات ومعتقدات مختلفة. دولة معادية بحكم طبيعتها لكل أنواع الاحتلال والاستغلال. بالتالي مهددة للشرق الأوسط بصورته المألوفة خلال أكثر من قرن، صورته التي تحقق مصالح أصحاب السلطة.

الإنكار بالغ الواقعية

بلا وجه، أصبح أبو عبيدة وجه المقاومة الفلسطينية وصوتها

استحالة التسوية بحل الدولتين، حتى ولو بدولة فلسطينية قزمة تابعة للدولة الأكبر إسرائيل، تعود بالأساس للجوهر التوسعي للمشروع الصهيوني، واستحالة استمراره إلا بالتوسع المعتمد على الأساطير التوراتية. فلم تملك إسرائيل سوى رفض كل قرارات الأمم المتحدة، سواء المتعلقة بالتقسيم، أو بخطوط وقف إطلاق النار، أو مقررات المؤتمرات الدولية الكثيرة التي عنت بمنطقتنا، أو على الأقل التهرب من الإقرار بها واحترامها. فمشروع دولة إسرائيل نفسه يُعرض للانهيار في اللحظة التي يقبل فيها القائمون عليه بحدود واضحة ومستقرة داخل فلسطين الكبرى.

لا يتعلق الأمر بالتفسيرات الأخلاقية الساذجة التي تربط سمات الجشع والإجرام بأسماء بن جوريون، أو جولدا مائير، أو بيجن، أو نتنياهو. لا علاقة لها بالسمات الشخصية للصقور والحمائم، فإسرائيل لم تعترف أبدًا، ولم تحترم أبدًا، قرارات وخطوط التقسيم أو وقف القتال.

حتى خلال مفاوضات كامب ديفيد التي امتدت لأكثر من عام كامل، وجرى ويجري تصويرها وكأنها كانت فرصة السلام الذهبية التي أضاعها الحمقى، لم يتورط ساسة إسرائيل خلالها، ولو لمرة واحدة، في الاعتراف الصريح بحدود محتملة لدولة للفلسطينيين.

بل على العكس، راوغوا في الحديث حول الحدود المصرية نفسها، وتوسعوا من جهة أخرى بديلة عن تلك التي اضطروا للانسحاب منها. سواء بالاستيطان في الضفة الغربية، أو في الجولان، أو احتلال أراض لبنانية، فيما يفاوضون السادات على مستعمراتهم في سيناء باعتبارها جزءًا من دولة إسرائيل.

تضخمت الاستحالة مع الوقت، بالذات مع مسار أوسلو، الذي منح إسرائيل فرصة تفتيت الضفة لكانتونات صغيرة محاطة بالمستعمرات، ولاحقًا بجدران الفصل العنصري، وعزلها عن بعضها البعض وعن غزة. ناهيك عن أن أي تسوية شاملة، إن كانت شاملةً، لا بد أن تتطرق للملايين من اللاجئين خارج فلسطين، ولمواطني الدرجة الثالثة الفلسطينيين داخل دولة الاحتلال، ولحقوق العودة وتقرير المصير والتعويض.

تعقدت الأمور أكثر فأكثر، فلم يعد هناك مكان أو مجال لإقامة هذه الدولة الفلسطينية بالأساس، حتى وإن خلصت النوايا، بعد عملية الإبادة الأخيرة. فطيلة عقود قادمة لن يستطيع أحد، أي أحد، له صلاحية الحديث حقيقة باسم الفلسطينيين أو الإسرائيليين، أن يجلس مع الآخر للوصول لـ"تسوية".

فأنهار الدم التي تدفقت خلال العامين الماضيين بنت عشرات الآلاف من الحواجز الجديدة بين الطرفين، لا يمكن نسفها الآن. ولذلك ينحصر سؤال اليوم التالي الشهير في منطقة التفاهة؛ هوية حاكمي غزة. وكأنها المسألة الأخيرة أو الأبدية. فيما هي مسألة إجرائية ستنفجر أو تتغير بعد شهور أو أعوام قليلة.

من هو الطرف الفلسطيني القادر على تمثيل كل أشكال المقاومة حاليًا؟

أن يجلس فلسطينيون وإسرائيليون معًا، ليتحدثوا بلسان الأغلبية من شعبيهما للوصول لهدنة، متاح. لكنها ستكون هدنةً لن تختلف كثيرًا عن تلك الثلاثة المتعلقة بغزة خلال العامين الماضيين، وانتهكتها كلها إسرائيل.

لكن التوصل لهدنة، أو لاتفاقية تبادل أسرى، أو لانسحابات جزئية، لا علاقة له بهدف التسوية الشاملة/السلام المزعوم. فالإسرائيلي إن جلس جادًا مع الفلسطيني للوصول لتسوية وسلام حقيقيين، عليه أن يحل كل المسائل العالقة، والجوهرية؛ مرة أخرى حق العودة وتقرير المصير.

ولحل هذه المسائل الجوهرية، لا مفر أمامه من أن يناقض المشروع الصهيوني نفسه، ومصالح دولة الاستيطان العنصري. فيفقد بالتالي في هذه الحالة صلاحية التعبير عن هذه الدولة نفسها.

والفلسطيني -ما لم يكن اسمه أبو مازن، أو دحلان، أو أبو شباب- إن جلس مع الإسرائيلي للوصول لهذه التسوية الشاملة، معبرًا عن القطاع الغالب من الشعب الفلسطيني، فسيكون بالضرورة معبرًا عن المقاومة الفلسطينية، أبرز مؤسسة استطاع الفلسطينيون بناءها ومنحها القدرة على الاستمرار طيلة تاريخهم، حتى وإن منيت بالهزائم أو تعددت مسمياتها.

وتعبير المقاومة الوارد في هذا المقال يعني كل أشكال الصمود الفلسطيني والعمل لإنهاء وجود دولة الاحتلال، أو على الأقل رفض التعايش معها، وإن كان رفضًا سلبيًا وصامتًا مثل الذي تمارسه قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948.

منظمة تحرير جديدة

تتجسد هنا المعضلة الأساسية؛ من هو هذا الطرف الفلسطيني القادر على تمثيل كل أشكال المقاومة حاليًا، أو على الأقل القادر على كسب قبولها، وأن يكون متحدثًا باسم قطاع واسع من الفلسطينيين داخل وخارج فلسطين؟!

لا أحد منذ وفاة ياسر عرفات في 2004، وهو يشاهد خراب مشروعه ومساره، أوسلو، ممثلًا في دبابة إسرائيلية على باب مقاطعته. والعناصر التي حظيت، كأفراد، بقبول واحترام يتجاوز نطاق مؤيدي منظماتها، إما ماتت أو اغتيلت أو اعتقلت. والمعتقلون منهم، مروان البرغوثي على سبيل المثال نعرف أن خروجه من السجن لأرضٍ فلسطينية مستحيل، لقدرته على خلق توافق حقيقي بين أطراف من الصعب التقاؤها.

نحن بحاجة لكيان جديد يقدِّم حلًا حقيقيًا للنزاع، بعيدًا عن وهم حل الدولتين

بعيدًا عن أسماء الأفراد، يعاني الواقع الفلسطيني نفسه من السيولة، التي لا تبتعد كثيرًا في ملامحها عن سيولة حركة التضامن/الرفض المشار إليها في المقال السابق. سيولة التفرق بين طرق ولافتات كثيرة، وسيولة غياب برنامج تحرري واضح ومتماسك، أو ما يطلق عليه خريطة الطريق. سيولة أن الساحة الفلسطينية حاليًا مقسمة بين الكثير من اللافتات.

أستثني منها سلطة الحكم الذاتي في رام الله، التي أُريد لها أن تولد كإدارة بلدية، عُمديِّة، مرتبطة عضويًا بإسرائيل، ولا تستطيع الحياة بدونها، وتقوم ببعض المهام المالية والقمعية بدلًا من دولة الاحتلال. وتستطيع إسرائيل أن تنهي وجودها متى شاءت.

أما الأطراف الأخرى المؤهلة لأن تشكل ما أسميه هنا بـ"المقاومة القادمة" غير السائلة، بمعناها الأكثر اتساعًا من المقاومة المسلحة، فهي حماس ككتلة قائمة بذاتها، حتى في سياق الضعف بعد الضربات التي منيت بها خلال العامين الماضيين، وكتلة تنظيمات المقاومة الأخرى الموازية لها، وكتلة "المستقلين" من شخصيات وطنية فلسطينية لها احترامها وقبولها بين الشعب الفلسطيني، ولها علاقات تربطها بالكتلتين الأُخريين. وأبرزها في تقديري مصطفى البرغوثي ومجموعة المبادرة الوطنية.

ربطت في المقال السابق خروج حركة التضامن/الرفض العالمية من حالة السيولة بأن يقدم لها الفلسطينيون شيئًا صلبًا. يبدو أن الأمل الوحيد لظهور هذا الشيء الصلب، المُحمَّل بخطابٍ وبرنامجٍ ينحوان للوضوح وربما لتأسيس معرفة جديدة، مرهونٌ بمبادرة من هؤلاء المستقلين لتأسيس كيان جديد، ضامٍّ لكل أشكال المقاومة في المناطق الثلاث؛ أراضي 1948، وأراضي 1967، والشتات.

كيان يتوجه ليس فقط للفلسطينيين، بل للشعوب العربية ولحركة التضامن/الرفض العالمية، مُقدمًا استراتيجية جديدة، وبرنامجًا يقدِّم حلًا حقيقيًا للنزاع، بعيدًا عن وهم حل الدولتين، وأن يفضح وهمية واستحالة هذا الحل.

"المقاومة القادمة" إذًا لا يمكن لها أن تنحصر في الجانب المسلح، وليس أمامها سوى أن تقطع وبحسم مع ماضي منظمة التحرير الفلسطينية القديمة، التي بنيت على أساس التبعية المزدوجة؛ تبعيتها لأنظمة عربية، وتبعية القوى المؤيدة من خارج فلسطين لها، ورضائها بما تقرره.

هذه العلاقة الجديدة ينبغي أن تُبنى بمشاركة وندية على أساس أن تحرير فلسطين من النهر للبحر، وبناء دولة ديمقراطية وعلمانية لكل مواطنيها، رهن بجهود ونضالات الجميع. ليس فقط الفلسطينيون، بل العرب أيضًا، وكل المؤمنين بالحق الفلسطيني في العالم.

ربما عبر ذلك تنتهي السيولة لصالح صلابة متبادلة تتبدى في الأطر التنظيمية والفكرية والسياسية والدعائية. يقدمها الفلسطينيون للعالم، ويقدمها العالم للفلسطينيين.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.