متداولة على إكس
جثامين قتلى الهجوم على مسجد في مدينة الفاشر بإقليم دارفور، 19 سبتمبر 2025

السودان في مفترق طرق ما بعد الفاشر.. الدبلوماسية تصطدم بالحشد العسكري

منشور الأحد 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

مرحلةٌ جديدةٌ من التصعيد العسكري دخلتها الحرب السودانية المستعرة منذ أكثر من عامين ونصف العام بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع، بعد سيطرة الأخيرة على مدينة الفاشر ، مركز ولاية إقليم دارفور الواقع غرب السودان، وتأهبها للتوسع في إقليم كردفان، مع تعثر جهود اللجنة الرباعية الدولية المعنية بالسودان في التوصل إلى هدنة إنسانية مدتها 3 أشهر تقود لوقف دائم لإطلاق النار. 

 وبينما أعلنت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو موافقتها على مقترح الهدنة المقدم من اللجنة الرباعية المكونة من مصر والولايات المتحدة والسعودية والإمارات، تجاهل الجيش السوداني المقترح وأعلن مواصلة التعبئة لاستعادة الفاشر و"القضاء على الدعم السريع".

مشهد يشي بأن الحرب لن تضع أوزارها قريبًا في السودان في ظل التعقيدات التي أضافتها التطورات العسكرية الأخيرة بسقوط الفاشر التي كانت تمثل آخر معقل للجيش السوداني في إقليم دارفور، في وقت تحذر الأمم المتحدة من احتمالات انتقال المعارك إلى نقطة سيطرة جديدة في كردفان، وهي منطقة لا تقل أهمية استراتيجية عن الفاشر، حيث تمهد السيطرة عليها الانتقال إلى الخرطوم وولايات وسط السودان التي يسيطر عليها الجيش. 

ما بعد الفاشر

أربك سقوط الفاشر الأطراف جميعًا فيما يخص إعادة توزيع موازين القوى، ومستقبل الحكم بين شرق ووسط السودان الخاضع لمجلس السيادة السوداني برئاسة قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، وغرب البلاد الذي تديره الآن قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو/حميدتي، وسط مخاوف من احتمالات تقسيم السودان على الطريقة الليبية ودخول البلاد في حرب استنزاف طويلة.

للفاشر أهميةٌ استراتيجيةٌ في رسم الموازين لهذا الصراع الدموي نظرًا لموقعها الحيوي الذي يربط إقليم دارفور بولايات وسط السودان، كما أنها كانت آخر معقل للجيش السوداني في دارفور بعد سيطرة الدعم السريع في وقت سابق على 4 ولايات منذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، حيث يشكل الإقليم بوابةً نحو أربع دول إفريقية هي تشاد وليبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى.

يسيطر الجيش على شرق البلاد وولايات الوسط بينما يحكم الدعم السريع قبضته على إقليم دارفور

"استيلاء الدعم السريع على كامل ولايات إقليم دارفور ينذرُ بتوسع الرقعة الجغرافية للحرب ويطيل أمدها بعد أن فقدت جزءًا كبيرًا من مكتسباتها العسكرية واللوجستية باستعادة الجيش السوداني سيطرته على ولاية الخرطوم"؛ يخلص الخبير العسكري السوداني أمين إسماعيل المجذوب إلى أن قوات الدعم عمدت إلى السيطرة على الفاشر بعد حصار طويل لقلب أوراق اللعبة لصالحها في عملية التسوية السياسية المحتملة بين الطرفين.

هذا ما كشفته تصريحات صادرة عن الحكومة السودانية بأن قبول الدعم السريع للامتثال لهدنة إنسانية هذه المرة بهدف استغلال التطورات الميدانية وإعادة ترتيب أوضاعها العسكرية والسياسية، لذا يرهن الجيش السوداني الموافقة على المضي في مسار التهدئة بانسحاب الدعم السريع بالكامل من المناطق المدنية وتسليم الأسلحة.

وعقب سيطرة قواته على الفاشر، أكد حميدتي سعيه إلى إنشاء جيش جديد ودولة مدنية ديمقراطية، معتبرًا سيطرته على المدينة خطوة نحو توحيد السودان. 

وإن كان سقوط الفاشر يعتبر محطةً جديدةً في مسار الحرب تعقد من الحلول الدبلوماسية، غير أن المجذوب خبير إدارة الأزمات بمركز البحوث الاستراتيجية السوداني يستبعد في حديثه لـ المنصة أن ينفرد الدعم السريع بحكم إقليم دارفور كاملًا في ظل وجود مناطق لا تخضع لسيطرته وقبائل تتعاون وتدين بالولاء للحكومة الشرعية في بورتسودان، إضافةً لتنامي الرفض الشعبي مع الانتهاكات التي يرتكبها جنود الدعم السريع.

سكرين شوت من خريطة السودان حيث تظهر مدينة الفاشر في الغرب بالقرب من حدود السودان مع ليبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، 6 مايو 2025

في حديثه مع المنصة، يتفق الخبير العسكري جمال الشهيد مع المجذوب في أن الاستيلاء على الفاشر ما هو إلا محاولة من الدعم السريع لفرض واقع عسكري على الأرض وترسيخ وجوده في دارفور التي تعد بوابته للإمداد العسكري واللوجيستي، كما يسعى لاستثمار انتصاره بالتوغل في كردفان لإعادة تموضع قوات الجيش، معتبرًا أن هذا التفوق لم يكن ليحدث بدون اعتماده على المرتزقة وحصوله على دعم خارجي.

ويتهم السودان، الإمارات، بتمويل قوات الدعم السريع ما أدى إلى وقوع مجازر بحق المدنيين في إقليم دارفور، في ظل تقارير تتحدث عن إرسال شحنات عسكرية إلى هذه القوات عبر تشاد، إلا أن أبوظبي نفت مرارًا هذه الاتهامات.

وسبق أن تقدم السودان بشكوى ضد تشاد لدى الاتحاد الإفريقي واتهمها بالتورط في نقل أسلحة وذخائر إلى ميليشيات متمردة تخوض قتالًا ضد قواته النظامية، كما اتهم الجيش السوداني قوات ليبية تابعة لقائد الجيش خليفة حفتر بالمشاركة مع قوات الدعم السريع في هجمات حدودية.

رغم ذلك، يعتقد جمال الشهيد أن الجيش السوداني لا يزال قادرًا على استعادة أجزاء من الأراضي والمناطق التي خسرها في إقليم دارفور  وحسم المعارك التي تشهدها ولايات كردفان بالطريقة التي نجح بها في العودة إلى ولاية الخرطوم وتحريره القصر الرئاسي من قبضة الدعم السريع، "الحرب وإن طال أمدها ستبقى محسومة للجيش في ظل امتلاكه القدرات العسكرية والدعم الشعبي".

مخاوف من التقسيم 

أعادت سيطرة الدعم السريع على الفاشر وتمدده في إقليم دارفور مخاوف من احتمالات تفكك السودان إلى أقاليم ودويلات صغيرة.

في وقت يُربَط فيه السودان بالنموذج الليبي الذي يشهد تقسيمًا للسلطة والنفوذ والموارد الاقتصادية بين حكومتي طرابلس وبني غازي يذهب المحلل السياسي عثمان ميرغني إلى أبعد من ذلك محذرًا من تقسيم السودان إلى أقاليم متناحرة على طريقة يوغسلافيا التي تفككت إلى سبع جمهوريات مستقلة.

دخلت جهود الرباعية المُشكلة من مصر وأمريكا والسعودية والإمارات نفقًا مظلمًا

 "سيناريو التقسيم والتفكك يطل برأسه بعد تسارع الأحداث الميدانية، حيث تسيطر حكومة بورتسودان على شرق البلاد وولايات الوسط، بينما يحكم الدعم السريع قبضته على إقليم دارفور. عمليًا التقسيم تحقق والأسوأ لم يأت بعد إلا إذا نجحت جهود الوساطة في احتواء التصعيد وهي فرصة تتلاشى مع الوقت" يقول ميرغني لـ ـالمنصة في وقت دخلت فيه الجهود الدبلوماسية نفقًا مظلمًا في ظل تضارب الرؤى بشأن آلية تسوية الصراع.

تتضمن خارطة الطريق التي قدمتها اللجنة الرباعية هدنة إنسانية لمدة 3 أشهر تقود لوقف دائم لإطلاق النار في جميع أرجاء السودان وبدء حوار بين الأطراف المتنازعة تنتهي بتشكيل حكومة مدنية مستقلة ذات شرعية واسعة في سقف زمني لا يتجاوز 9 أشهر.

تحظى هذه الخطة بتأييد من الاتحاد الإفريقي، إلا أنها تصطدم بتعقيدات الصراع السياسي العسكري المستمر في السودان، فبينما يرفض مجلس السيادة السوداني تبني أي مقترح يتضمن دمج الدعم السريع في نظام الحكم الجديد ونزع سلاحه والخروج من المناطق المدنية التي تنتشر فيها قواته، يطالب حميدتي بتصفية الحركة الإسلامية من المشهد السياسي وإعادة تشكيل الجيش على أسس مهنية.

مع ذلك لا يزال يتمسك الباحث السياسي عثمان ميرغني بخريطة الطريق ويراها نافذة أمل بإمكانها أن تسهم في إخراج السودان من نفق الحرب.

الموقف المصري

بعثرت معركة الفاشر أوراق مصر في معالجة الحرب السودانية. وألقت القاهرة بثقلها الدبلوماسي من خلال اللجنة الرباعية للتوصل إلى هدنة مؤقتة تقود لوقف دائم لإطلاق النار.

إلا أن بعدًا سياسيًا وأمنيًا جديدًا بات على مصر  التعامل معه، وهو الخوف من أن يؤدي هذا التحول إلى تصاعد المخاطر الأمنية على حدودها الجنوبية في ظل سيطرة الدعم السريع على ممر إقليمي مهم يربط السودان بتشاد وليبيا قد يشكل منفذًا لتدفق المسلحين ويفاقم الأوضاع الإنسانية.

يتزامن ذلك مع تقارير تشير  إلى أن مصر وتركيا عززتا الدعم العسكري للجيش السوداني لاستعادة الفاشر  واحتواء المكاسب التي حققتها الدعم السريع مؤخرًا، مبينة أن مصر والجيش السوداني يعملان على إنشاء غرفة عمليات جديدة في مدينة الأبيض شمال كردفان، لوقف تقدم قوات الدعم السريع واستعادة المدن الكبرى.

ولا تخفي القاهرة دعمها للجيش السوداني باعتباره مركز الشرعية في البلاد، وعبرت مرارًا عن رفضها تقسيم السودان ودعت إلى التصدى لأي محاولات لإنشاء كيانات موازية تضر بوحدة السودان وسلامة أراضيه، وذلك تعقيبًا على إعلان قوات الدعم السريع تأسيس "حكومة تأسيس" التي تتخذ من نيالا في إقليم دارفور مقرًا لها.

يشير خبير الأمن القومي اللواء محمد عبد الواحد إلى أن سقوط إقليم دارفور في قبضة الدعم السريع يفتح الباب لصعود الجماعات المتمردة على طول الخط الحدودي بين السودان وتشاد وليبيا، واستغلاله في عمليات تهريب الأسلحة ودفع السكان إلى النزوح وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، محذرًا من أن تعزيز الدعم السريع لخطوط إمداده من جنوب ليبيا قد يطيل أمد الحرب ويستدرج أطرافًا خارجية جديدة.

كشفت التطورات الأخيرة عن توتر طفا إلى السطح بين مصر والإمارات

تراقب القاهرة ما يحدث في الفاشر بعين من القلق، لكنها ما زالت حتى الآن تتمسك بالدبلوماسية؛ يستبعد عبد الواحد في تصريحه لـ المنصة أن يكون هناك تحرك عسكري قريب طالما لم تشن قوات الدعم السريع هجمات ضد مصر أو نشعر بتهديد حقيقي. 

تتفق الباحثة في الشأن الإفريقي أماني الطويل مع عبد الواحد في أن رهان مصر حتى الآن على الدبلوماسية كحل لوقف الحرب وعدم اتساع جغرافيتها أو تعرض أمنها القومي للخطر .

وتشير أماني الطويل لـ المنصة إلى أن التطورات الميدانية الأخيرة في الفاشر وطريقة التعاطي مع الحرب تظهران أن مصر والإمارات ليستا على وفاق في الملف السوداني، فكل بلد يدعم طرفًا مختلفًا عن الآخر، وهناك تباين في الرؤى بين البلدين لمسار التسوية ومستقبل اليوم التالي للحرب، وهو ما سبق وأدى إلى إفشال مؤتمر لندن الذي عقد هذا العام لحل الأزمة السودانية بسبب الخلافات العربية بين مصر والسعودية والإمارات.

تصطدم الحلول الدبلوماسية التي يأمل السودانيون أن تضع حدًا لمأساتهم بواقع عسكري معقد، حيث أكد الجيش السوداني استمراره في التعبئة لاستعادة الفاشر رغم إعلان المستشار الأميركي مسعد بولس موافقة طرفي الحرب على هدنة مؤقتة مدتها 3 أشهر. ليبقى الصراع عالقًا بين أطراف متحاربة ومصالح إقليمية متضاربة ومجتمع دولي عاجز أو غير مهتم.