"عودوا لموطنكم".. خطة بريطانية تعلق أحلام اللاجئين بين السماء والأرض
"أنا التي يقولون عني عادةً 'fucking Pakistani' قبل أن يُلحقوا بها 'عُودي إلى موطنك'، أعرف بخبرتي الشخصية، وخبرات ناخبيّ، لأي مدى أصبح ملفّ اللجوء قضيةً مثيرةً للانقسام في بلدنا"؛ بهذه الكلمات استهلّت وزيرة الداخلية البريطانية شابانا محمود خطابها أمام مجلس العموم الأسبوع الماضي.
اللغة غير المألوفة في البرلمان استخدمتها شابانا محمود وهي تُعلن خطط الحكومة البريطانية لإجراء أكثر عملية إصلاح جذرية لنظام اللجوء بالبلاد في العصر الحديث.
لم يصبح المقترح قانونًا بعد، ولا حتى مشروع قانون، لكن ورقة السياسات المكونة من 30 صفحة عرضت مقترحات الحكومة للتعامل مع أكثر القضايا إثارةً للجدل اليوم: الهجرة واللجوء، تحت عنوان "استعادة النظام والسيطرة: بيان حول سياسة الحكومة الخاصة باللجوء والعودة".
لا تُخفي الورقة نية وضع "نموذج لجوء جديد كليًا" يتمثلُ التغييرُ الجوهريُّ فيه بمنح من يطلبون اللجوء (اللاجئون قانونًا) حماية مؤقتة ومحدودة تحت اسم "الحماية الأساسية"، وهو ما قد لا يتوافق مع التزامات بريطانيا بموجب اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951.
الترحيل السهل
سيترتب على التغييرات المحتملة سلسلةُ إجراءات، من بينها تقليص مدة إقامة طالب اللجوء من 5 سنوات حاليًا إلى 30 شهرًا، تعقُبها مراجعة. وإذا اعتُبر بلد اللاجئ الأصلي آمنًا، فسيتعيّن عليه العودة إليه، ولن تمنح الإقامة الدائمة إلا بعد مرور 20 عامًا، يظلُّ خلالها الحاصلون على "الحماية الأساسية" في وضعٍ أقرب إلى المعلّق.
هذه التغييراتُ ستمس عشرات الآلاف من القادمين من البلدان العربية والإسلامية، من بينها مصر. وإن كانت طلبات اللجوء المصرية تشكل نسبة صغيرة من إجمالي، لكنها في تزايد مستمر وارتفعت إلى أكثر من 400 طلب سنويًا خلال السنوات الأربع الماضية.
بمجرد دخولها حيز التنفيذ، ستُطبق القواعد الجديدة على من يحصلون على الحماية وعلى من تُرفض طلباتهم، كما ستنطبق على المصريين الذين يدخلون بريطانيا بشكل قانوني للعمل أو الدراسة ثم يبقون بعد انتهاء تأشيراتهم ويتقدّمون بطلب لجوء.
منذ عام 2021 تقدم أكثر من 400 ألف شخص بطلبات لجوء في بريطانيا. ويتصدر مواطنو باكستان وأفغانستان وإيران وبنجلاديش وسوريا طلبات اللجوء في 2024، والأخيرة يدور حديث عن تصنيفها "بلدًا آمنًا" بعد سقوط نظام الأسد.
وتشير ورقة السياسات إلى أن من بين 111 ألفًا و800 شخص ممن تقدّموا للجوء في عام 2025، وصل 39% (43 ألفًا و600) منهم في قوارب صغيرة، بينما وصل 37% (41 ألفًا و100) أولًا بتأشيرات قانونية قبل أن يتقدموا بطلب اللجوء، ووصل نحو 15 ألفًا بوسائل أخرى.
صحيح أن الأرقام تبدو كبيرة، لكنها ليست كذلك بالنظر إلى أن طالبي اللجوء واللاجئين لم يشكّلوا في 2024 سوى 13% من إجمالي المهاجرين إلى بريطانيا، فيما يشكل الطلاب والعمال الأجانب النسبة الأكبر.
وبالرغم من أن بريطانيا في المرتبة 17 أوروبيًا على مستوى عدد الطلبات قياسًا لعدد السكان، فإن الاتجاه مقلق من منظور الحكومة، ففي عام 2024، ارتفع عدد طالبي اللجوء في بريطانيا بنسبة 18%، بينما تراجعت الطلبات في الاتحاد الأوروبي بنسبة 13%، وفقًا لورقة السياسات.
تسهّل المقترحات ترحيلَ من تُرفض طلباتهم بعد استنفاذ الطعون، وتحدُّ من استخدام الحق في الحياة الأسرية بموجب المادة 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ذريعةً لمنع الترحيل، مع إعادة تفسير المادة 3 الخاصة بحظر المعاملة اللاإنسانية لتسهيل الإبعاد.
كل هذا سيهدد قائمةً طويلةً من آلاف طالبي اللجوء الذين ينتظرون سنوات قبل الحصول على قرار نهائي، فحتى منتصف 2023 كانت هناك أكثر من 41 ألف طالب لجوء مرفوض، تسعى الحكومة لترحيلهم مع الإبقاء على مبدأ عدم الإعادة القسرية، وهو ما قد يدفع بريطانيا لفرض قيود على تأشيراتها للدول "الآمنة" التي ترفض استقبال مواطنيها، وربما تُستخدم دولًا ثالثة كمراكز ترحيل.
وفي تكرار لسياسات اليمين المتطرف في السبعينيات والثمانينيات، ممثلًا في الجبهة الوطنية والحزب الوطني البريطاني، سيُعرض على طالبي اللجوء المرفوضين، وفق ما تقرحه الورقة، حوافزَ مالية أكبر للعودة، تتجاوز الحد الأقصى الحالي البالغ 3 آلاف جنيه إسترليني.
ضغط على حزب العمال
بعيدًا عن الأرقام، ثمة عوامل سياسية تدفع حكومة العمال الحالية لتبّني مواقف متشددة في ملف الهجرة غير النظامية، يظهر هذا من عنوان ورقة السياسات بما يردده من صدى شعار استعادة السيطرة الذي لعب دورًا محوريًا في حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016.
ورغم أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يعد عليها بمكاسب ملموسة، فإن نايجل فاراج، البرلماني عن حزب الإصلاح ومهندس بريكست، يواصل صعوده في استطلاعات الرأي على أكتاف موجة شعبوية معادية للهجرة، إذ يستغلّ حزب الإصلاح والمحافظون زيادة الوافدين عبر القوارب الصغيرة إلى بريطانيا منذ وصول العمال للسلطة في يوليو/تموز 2024 لتأجيج هذا العداء.
ولم تفلح محاولات الحكومة الحالية والسابقة والمبادرات المتتالية في "إيقاف القوارب"، فبين عامي 2018 و2024، مُنحت الحمايةُ لـ68% من الوافدين عبر القوارب، من بينهم عدة آلاف من المصريين الذين عبروا القنال الإنجليزي، وشكّلوا نسبة 2% من إجمالي القادمين، ولم يُمنح اللجوء إلا لـ10% منهم، ليخضع الباقون لمقصلة الآليات الجديدة للترحيل.
وعلى عكس مطالب الأحزاب الأكثر يمينية، لا تمنع المقترحات الجديدة صراحةً طالبي اللجوء القادمين بالطرق غير المنظمة من تقديم طلباتهم، بذريعة المرور بدولة آمنة، ولا تحرمهم نهائيًا من الإقامة الدائمة.
ينعكس صعود حزب الإصلاح في استطلاعات الرأي من بينها الاستطلاع الذي أجرته YouGov هذا الشهر حول نوايا التصويت، وحصد فيه الحزب 27%، فيما حصل العمال على 19%، والمحافظون على 18%.
ورغم أن الانتخابات العامة لا تزال بعيدةً فإن الأحزاب الكبرى تتحرك مذعورةً نحو اليمين أملًا في استقطاب ناخبي الإصلاح، خصوصًا في ملف الهجرة. وإذا أضفنا إلى ذلك أنها المرة الأولى منذ 2016 التى يتصدّر فيها ملف الهجرة واللجوء قائمة أهم القضايا لدى الرأي العام، متقدمًا على الاقتصاد، ستصبح دوافع حزب العمال لتبّني مواقفها المتشددة من الهجرة أكثر وضوحًا، خصوصًا وأن هذا النظام المقترح يأتي أيضًا في ظل صعود اليمين المتطرف بقيادة تومي روبنسون، الذي قدّم دعمه لمقترحات الحكومة.
شبح باول… عودة اليمين المتطرّف
تعود جذور خطاب الكراهية ضد الأجانب في بريطانيا الحديثة إلى الخطاب العنصري الشهير الذي ألقاه السياسي إينوك باول عام 1968، والذي حذر فيه بشكل مثير من أن الهجرة ستؤدي إلى أنهار من الدم تفيض في شوارع البلاد بسبب الصراعات العرقية.
وفي وقت سابق من هذا العام، تعرّض رئيس الوزراء كير ستارمر لانتقادات عندما حذّر أثناء تقديم ورقة جديدة حول الهجرة من أنّ بريطانيا قد تصبح "جزيرة من الغرباء" وهو ما مثل صدى مباشرًا لخطاب باول.
وغير بعيد عن هذا الخطاب، حاولت شابانا محمود توضيح وجهة نظر حزبها بقولها أمام مجلس العموم إن "وتيرة التغيير وحجمه زعزعا استقرار المجتمع، إنهما يجعلان بلدنا أكثر انقسامًا. لا يمكن أبدًا تبرير العنف والعنصرية من أقلية، لكن إذا فشلنا في التعامل مع هذه الأزمة، سنقود مزيدًا من الناس إلى طريق يبدأ بالغضب وينتهي بالكراهية".
الفنادق التي تؤوي طالبي اللجوء كانت هدفًا دائمًا للاضطرابات
بريطانيا شهدت بالفعل اضطرابات عنيفة على مدى العامين الماضيين، ركّزت بشكل خاص على طالبي اللجوء، الحقيقيين أو المفترضين. وكانت الفنادق التي تؤويهم هدفًا متكررًا لهذه الاضطرابات.
واستغل اليمين التكلفة اليومية التي تصل إلى نحو 6 ملايين جنيه إسترليني وتدفعها الحكومة لفنادق طالبي اللجوء، في خضم أزمة السكن وارتفاع تكاليف المعيشة، في التحريض عليهم وهو ما حوّل الملف إلى قضية سياسية ساخنة، ودفع الحكومة نحو التعهد لإنهاء استخدام الفنادق في إيواء طالبي اللجوء بنهاية هذه الدورة البرلمانية، بحجة أنها تشكّل عامل جذب للمهاجرين. ومن المنتظر أن تُستبدل بها معسكرات عسكرية سابقة ومواقع كبيرة أخرى.
وتقترح الحكومة أيضًا إنهاء الالتزام القانوني الحالي بدعم طالبي اللجوء الذين سيصبحون بلا مأوى، ليكون بإمكانها حرمان من يملك حق العمل من الدعم وفق سلطة تقديرية. كما ستُفرض على من لديهم أصول مالية المساهمة في تكلفة إيوائهم على خطى النموذج الدنماركي.
رهانٌ محفوف بالمخاطر
في النهاية، ما تقدّمه شابانا بوصفه "إعادة ضبط ضرورية لنظام معطّل" يبدو أقرب إلى مقامرة عالية المخاطر تطال حياة البشر والأسس القانونية والأخلاقية لبريطانيا نفسها. فالحماية المؤقتة، والوعود المؤجّلة بالإقامة الدائمة، والآليات الأكثر صرامة للترحيل، وتقليص حقوق الرعاية، قد تُرضي ناخبين غاضبين في المدى القصير، أو تُبطئ صعود فاراج واليمين المتطرف، لكنها في الوقت ذاته سترسخ سياسة ترى في اللاجئين "مشكلة يجب إدارتها" بدلًا من النظر إليهم باعتبارهم أصحاب حقوق، وستدفع بريطانيا خطوة إضافية بعيدًا عن روح اتفاقية اللاجئين التي شاركت في صياغتها، حتى وإن لم تتجاوز نصّها بعد.
ستعني هذه المقترحات لآلاف الأشخاص الموجودين بالفعل في بريطانيا، بمن فيهم المصريون الذين تُنظر طلباتهم أو رُفضت، مزيدًا من انعدام الأمن وتهديدًا بالترحيل. أما بالنسبة لبريطانيا، فالسؤال سيكون هل ستأتي "استعادة السيطرة" على حساب مبادئ الحماية والعدالة وضبط النفس التي شكّلت يومًا ركائز نظام اللجوء البريطاني؟ وهل تسهم الحكومة، بمحاولتها احتواء رد الفعل الشعبي في صياغة الخطاب ذاته الذي تخشى منه؟


