تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
عمدة نيويورك الفائز نوفمبر 2025 على خطى أوباما وبيرني ساندرز

زهران ممداني يحكم نيويورك.. تحديات عمدة لا يعتذر عن جذريته

منشور الأربعاء 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

تغيّر المشهد السياسي في أكبر المدن الأمريكية على يد شاب اشتراكي ديمقراطي مسلم يتبّنى خطابًا جذريًا بلا مواربة ولا اعتذار.

نجح زهران ممداني بعد 34 عامًا من ولادته في أوغندا لأبوين تنحدر أصولهما من الهند في الفوز بانتخابات عُمديّة مدينة نيويورك، التي تُعدُّ على نطاق واسع مركز الرأسمالية العالمي.

فوز  يشكل قطيعة حادة مع التقليد النيويوركي المديد بانتخاب قيادات بيضاء مدعومة من أصحاب رؤوس الأموال بما يشير إلى تحوّل أيديولوجي كبير داخل الحزب الديمقراطي. كما أنه يمثل انتصارًا رمزيًا لليسار الأمريكي ودليلًا على أن الإصلاحات الاقتصادية الجذرية لا تزال ممكنة.

لكن التفاؤل يظل مشروطًا، فالممولون الكبار وقيادات الحزب والشخصيات الوطنية جاهزون بالفعل لمقاومة أجندته.

إنها لحظة مليئة بالفرص لليسار الأمريكي، وتتطلب أيضًا الكثير من الحذر، فنجاح ممداني في تنفيذ خططه سيحدد ما إذا كانت هذه لحظة تحوّل للحزب الديمقراطي أم مجرد نافذة ضيقة للاشتراكية.

في الوقت الحالي، يُظهر هذا الفوز أن تنظيم المجتمعات المهمشة قادر على الوصول لأعلى مواقع السلطة، أمّا اختبار المرحلة المقبلة فقد بدأ بالفعل.

على مدار عقود، واجه المرشحون المناهضون لهيمنة رأس المال سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها مقاومة شرسة؛ بيرني ساندرز وجيريمي كوربن وأليكسيس تسيبراس جميعهم صعدوا بوعود الاشتراكية الديمقراطية لكنهم اصطدموا بمعارضة مُنسّقة من قيادات أحزابهم، ومن كبار الممولين ووسائل الإعلام الوطنية. ناهيك عن الاختبار الاقتصادي.

كيف صوت التضخم لممداني

محتجون أمريكيون يرفعون لافتة تأييد لزهران ممداني في مدينة نيويورك، 14 يونيو 2025

ممداني أول عمدة اشتراكي ديمقراطي لمدينة نيويورك. خلال حملته، تحدّى الجناح الوسطي داخل حزبه الديمقراطي، وانتقد اعتماده الكبير على كبار الممولين.

أندرو كومو، العمدة الديمقراطي السابق للمدينة، الذي خاض الانتخابات الأخيرة مستقلًا بعد خسارته ترشيح حزبه لصالح ممداني، وصف الانتخابات بأنها "حرب أهلية" داخل الحزب، مُقدّمًا نفسه كمدافع عن المعتدلين في مواجهة التقدميين الصاعدين. لكن الناخبين اختاروا التغيير.

لعقود طويلة، عبَّرت نيويورك المدينة عن كل ما ترمز له سياسات النيوليبرالية، بدءًا من تمجيد الملكية الشخصية إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد حتى ولو على حساب البُعد الاجتماعي. 

لكن معدلات التضخم في الولايات المتحدة شهدت قفزة كبيرة في 2022 بعد جائحة كورونا. ورغم نجاح الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال السنوات التالية في كبحه، لا يزال عند مستويات مرتفعة تاريخيًا، زادت من ضغوط المعيشة في السنوات الأخيرة.

ضمن هذا السياق، ركز برنامج ممداني الاقتصادي على تدخل الدولة في العديد من الخدمات العامة لتقديمها إما بسعر غير تجاري، أو مجانًا.

دافع عن سياسات كنا نعرفها في بلادنا قبل أن تهب رياح "النيوليبرالية" منذ نحو ثلاثة عقود؛ طالب بإنشاء دكاكين أشبه بمنافذ التموين التي تبيع السلع المدعمة، وبقيود على الإيجار، وأوتوبيسات بتعريفة محدودة.

وضمن تعهداته بالمجانية، يعد بمد نطاق خدمات رعاية الأطفال المتاحة بدون مقابل، ففي نيويورك توجد بالفعل خدمات مجانية من هذا النوع لبعض الفئات العمرية، لكنه يريد توسيعها لتشمل أطفال المدينة من سن ستة أسابيع إلى خمس سنوات، هذا ضمن حزمة من السياسات التي تساند أسر الأطفال، وتتيح لهم الدعم المالي والخدمات لإعانتهم على رعاية أبنائهم.

خلال الأسابيع الماضية أنفق أكثر من 22 مليارديرًا عشرات ملايين الدولارات لإسقاط ممداني

ورغم تمتع قطاعات واسعة من المساكن في نيويورك بسياسة "استقرار الإيجار" التي تضمن كبح معدلات رفع هذه الإيجارات بحكم القانون، يرى ممداني أن هذه السياسة غير كافية لتخفيف أعباء الطبقات العاملة، لذا يقترح تجميد الإيجارات، بجانب سياسات تحفز على التوسع في بناء المساكن، خاصة المساكن الرخيصة، لزيادة المعروض من البيوت وخفض الإيجار.

يلخص تصوراته الاجتماعية في خطاب الانتصار بالانتخابات "يجب ألا تكون الحياة الكريمة حكرًا لقلة محظوظة، بل ينبغي أن تكون حقًا تضمنه حكومة المدينة لكل فرد من سكان نيويورك".

ابحث عن التمويل

يبدو أن الصدام مع الطبقات الثرية لن يقتصر على ما سبق فقط، إذ يبحث ممداني عن تمويل لسياساته من خلال رفع ضريبة الدخل على الشركات إلى 11.5%، وتعديل ضريبة الدخل على الأثرياء، بحيث تزيد بـ2% على كل من يتجاوز دخله السنوي مليون دولار.

وفي مقابل الاقتطاع من دخول الأغنياء، يطمح  لتطبيق زيادة تدريجية في الحد الأدنى للأجور بالمدينة، من 16.5 دولار في الساعة في الوقت الراهن، إلى 30 دولارًا في 2030.

 فاز الشاب الاشتراكي إذن رغم أنف أصحاب المصالح المالية؛ خلال الأسابيع الماضية، أنفق أكثر من 22 مليارديرًا عشرات ملايين الدولارات عبر لجان العمل السياسي الضخمة لإسقاطه.

وحده مايكل بلومبرج ضخ 13.3 مليون دولار دعمًا لكومو؛ بينما قدّم رونالد لودر، وريث شركة إستيه لودر، نحو مليون دولار.

https://www.youtube.com/watch?v=AWy9qDyw1ZY

ارفع الصوت يا ترامب

التهديد المباشر الذي شكّله ممداني لم يُنكره أو يعتذر عنه، بل أكده خلال حملته؛ "يقولون إننا نشكّل تهديدًا وجوديًا، وهم محقون". هذا التهديد لم يتوقف عند إجراءات الحماية الاجتماعية للفقراء على حساب الطبقات الأكثر ثراءً، ولكنه امتد أيضًا إلى استغلال طاقة مجتمعات الأقليات التي طالما هُمِّشت عن السياسة الرسمية.

ففي وقت يُصعِّد فيه الرئيس دونالد ترامب خطابه وإجراءات إدارته العدائية ضد المهاجرين، ركّزت حملة ممداني على المجتمعات المهاجرة في المدينة، وظهر في تسجيلات انتخابية باللغات الأردية والإسبانية والعربية.

وفي خطاب النصر، حيّا أنصاره بالعربية قائلًا "أنا منكم وإليكم"، قبل أن يعدد الفئات التي تعهّد بتمثيلها؛ "أصحاب البقالات اليمنيون، الجدّات المكسيكيات، سائقو التاكسي السنغاليون، الممرضات الأوزبكيات، العمّات الإثيوبيات". 

وبينما واصلت طبقة السياسيين التقليديين بإصرار راسخ إدانة الحراك الطلابي والجماهيري المؤيد للفلسطينيين خلال سنتي الإبادة الإسرائيلية في غزة، أيّده الشاب الذي دعم خلال سنوات دراسته في كلية بودوين ولاية ماين النشاط الطلابي المطالب بتحرير فلسطين.

هذا الموقف حشد الشباب والناخبين الذين سئموا مواقف الحزب الديمقراطي التقليدية الداعمة لإسرائيل، وبالتأكيد دورًا في صعوده.

عمدة نيويورك المنتخب كان واضحًا وهو يتهم إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية"، ويعد بالقبض على رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك تنفيذًا لأوامر المحكمة الجنائية الدولية.

بالمقابل جعل ذلك ممداني هدفًا للجمهوريين على المستوى الوطني. فقد وصفه دونالد ترامب مرارًا بأنه "شيوعي"، وهدد بقطع التمويل الفيدرالي عن نيويورك إذا انتخبه أهلها، وهو ما ردّ عليه في ليلة الفوز قائلًا "إذا كان هناك من يستطيع أن يبيّن لأمةٍ خانها دونالد ترامب كيفية هزيمته، فهي المدينة التي أنتجته. دونالد ترامب؛ بما أنك تشاهد الآن، لدي كلمة لك: ارفع الصوت".

هل يقدر على تنفيذها؟

زهران ممداني وسط عدد من داعميه، 29 أكتوبر 2025

رغم ذلك كله، تُظهر التجارب السابقة أن الفوز في صناديق الاقتراع لا يضمن النجاح في الحكم. فقد واجه ساندرز وكوربن وتسيبراس مقاومة مؤسسية أعاقت تنفيذ برامجهم السياسية.

ممداني الآن يقف على المسار ذاته في مواجهة قيادات حزبية ومصالح مالية نافذة، وتتراص العديد من التحديات في سبيل تطبيق سياساته، على رأسها علاقته السيئة بترامب الذي وصفه بالشيوعي، وهدد بقطع تمويل الحكومة الفيدرالية عن مدينته في حال فوز، وفي المقابل يصف الرئيس بـ"الفاشية".

إلى جانب هذا العداء مع البيت الأبيض، لا يملك عمدة نيويورك الجديد وحده القرار بشأن تطبيق كافة السياسات التي يقترحها، فالكثير منها يجب أن تصدر بقانون أو عن طريق مسؤولين آخرين خارج نطاق سلطته.

تضرب مجلة Time أكثر من مثال على عمد سابقين لنيويورك لم ينجحوا في تمرير خططهم لزيادة الضرائب بسبب فشلهم في الحصول على تأييد المشرعين، مثل الملياردير ميشيل بلومبرج الذي رأس المدينة في بداية القرن الحالي، ودي بلاسيو الذي تولى المنصب بين 2014-2021.

كذلك يدور جدل واسع حول السياسة الأنسب لحل مشكلة تكاليف السكن في نيويورك. بينما يدفع ممداني إلى تجميد فوري للإيجارات، يحذر البعض من أن هذا الإجراء سيكون مجرد تأجيل للأزمة، فبنهاية ولايته سيأتي حاكم آخر ويجد الإيجار بعيدًا عن معدلات التضخم فيضطر لزيادته لتعويض ما سبق، وهناك من يرى أن الحد من الإيجارات سيقلل شهية المطورين لبناء مساكن جديدة.

أمام هذه التحديات، يبدو العمدة الشاب متفائلًا بقدرته على تطبيق تصوراته الاجتماعية التي لا يخجل من وصفها باليسارية في قلب واحدة من أكبر مراكز المال في العالم؛ يدلي بتصريح بعد فوزه بالمنصب "الحكمة التقليدية قد تقول إنني بعيد كل البعد عن المرشح المثالي. أنا شاب، رغم كل محاولاتي لأن أكون أكبر سنًا. أنا مسلم. أنا اشتراكي ديمقراطي. والأسوأ في نظر البعض، أنني أرفض الاعتذار عن أيٍّ من ذلك".