تصوير: ستيفن أوغيلفي/ مجلة كوزمو/ متاح برخصة المشاع الإبداعي
جيفري إبستين (27 عامًا) في إعلان شخصي نُشر بمجلة "كوزمو" (Cosmo) في عدد يوليو 1980

إمبراطورية إبستين: فك وتركيب الشرق الأوسط على هامش استغلال القاصرات

منشور الخميس 11 كانون الأول/ديسمبر 2025

دفع ظهور وثائق جيفري إبستين، الشهر الماضي، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وآخرين من أصحاب النفوذ في السياسة والمال نحو صدارة مشهدٍ دائمًا ما حاولوا تفاديه. مشهدٌ كاشف لعالم تلتقي فيه السياسة والثروة واستغلال القاصرات.

تحت ضغط الكونجرس، اضطرت وزارة العدل الأمريكية في 12 نوفمبر/تشرين الثاني لنشر أكبر دفعة حتى الآن من المواد التي تخص التحقيقات في قضايا إبستين والتي سعت الإدارة الأمريكية لإخفائها حمايةً لاسم ترامب من العودة إلى الواجهة مجددًا.

لكنّ ما تكشفه عشرات الآلاف من صفحات الوثائق المُفرج عنها لا تقف عند حد الشبكة القذرة لاستغلال القاصرات التي تورط فيها سياسيون كبار، إنما تمتد إلى ما هو أبعد، فقد أعيد خلال السنوات الخمس التي سبقت وفاة إبستين الغامضة عام 2019 تشكيل الشرق الأوسط مجددًا من إيران إلى سوريا وغزة على يد ساسة اجتمعوا في براثن شبكته لوضع قواعد الشرق الأوسط الجديد.

مدرس الرياضيات.. إمبراطور الجنس

لا يوحي ماضي إبستين الذي وُلد عام 1953 في نيويورك لأسرة يهودية مهاجرة من أوروبا الشرقية بما وصل إليه إمبراطور تجارة الجنس وصناعة الحروب. فأمه كانت مُساعدةً بسيطةً في مدرسة عامة، ووالده موظف في دائرة الحدائق التابعة للمدينة. في ظلّهما قضى إبستين طفولةً متواضعةً بين المدرسة وعزف الموسيقى ومحاولة تعلم الرياضيات التي فشل فيها، إلى أن عيَّنه دونالد بار مدير مدرسة دالتون مُدرِّسًا للرياضيات في المدرسة عام 1974 دون مؤهلات تُذكر.

من هنا تبدأ قصة ما تصفه الصحفية الاستقصائية ويتني ويب بـ"التحالف الدنس بين أجهزة الاستخبارات والجريمة المنظمة الذي أفرز جيفري إبستين". ففي مجلديها "أمة واحدة تحت الابتزاز"/One Nation Under Blackmail، الصادر عام 2022، تتجول محققة MintPress News بين الوثائق القضائية ومحاضر الشرطة وشهادات الضحايا والجناة، لتقدّم سردًا دقيقًا لوحشٍ أطلق عقاله دونالد بار؛ الذي كان قبل أن يصبح مديرًا لواحدة من أبرز المدارس التحضيرية المؤهلة لجامعات النخبة ضابطَ استخباراتٍ في مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS).

في دالتون، درَّس إبستين الرياضيات لطلاب المرحلة الثانوية. هناك، وثّقت إشادة صحيفة المدرسة The Daltonian بفلسفته "الفريدة" التي "تمزج بين التمارين البدنية والتحفيز الروحي والرياضي". لكنها جمعت أيضًا شهادات من بعض خرّيجي المدرسة عن شعور واسع بالسخط منه، بسبب "تركيزه المستمر" على المراهقات في حفلات الطلاب التي كان يواظب على حضورها.

وضَعه هذا "التركيز المستمر" مع المراهقات في عزلة مدرسية ضيقة، انتشله منها بعد عامين آلان جرينبرج، وهو والد طفلين يُدرِّس لهما إبستين، وفي الوقت نفسه هو الرئيس التنفيذي لعملاق المصارف الاستثمارية Bear Stearns، الذي سيُعرف لاحقًا مع انهياره المدوي خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008.

وفق ما تنقله ويب، انبهر جرينبيرج بما اعتبره "عبقريةً استثنائيةً" لدى الأخير، فسهّل صعوده الصاروخي داخل المؤسسة، ليتحوّل خلال أقل من أربع سنوات من مساعد مبتدئ إلى متداولٍ في بورصة الأسهم الأمريكية يدير حسابات ضخمة بحلول عام 1980.

هذا الصعود الصاروخي الذي عزاه جرينبرج إلى عبقرية إبستين، تُقدِّم له ويب سرديةً مختلفةً على لسان شهادات مقربين منه تحدثوا عن لمعة في عين جرينبرج وهو يرى الموظف الصاعد يتقرّب لابنته، الطفلة، مُلتقطًا انحرافًا يتشاركان فيه سويًا. هكذا فتحت الانحرافات الجنسية أبواب الطبقات العليا من عالم المال وتجارة الجنس والسلاح، ليترسّخ دور إبستين كـ"مخلصاتي" أو وسيط النفوذ، وهو الدور الذي سيلازمه حتى القبر.

السنوات التي تلت الخروج المفاجئ من Bear Stearns في 1981، تبقى الأكثر غموضًا في سيرة إبستين، فقد ادّعى أنه ترك عملاق المال ليؤسس صندوقًا استثماريًا "للمليارديرات". بين قائمة الأثرياء تلك، بدأ أولى خطواته في عالم تهريب السلاح عام 1987 لحساب تاجر سلاح بريطاني.

تكشف ويب، نقلًا عن ستيفن هوفنبرج، وهو الأستاذ السابق لإبستين في مرحلة ما بعد ستيرنز، أن ذلك التاجر هو السير دوجلاس ليس، الذي كان إبستين "مشاركًا رئيسيًا معه في عمليات تهريب السلاح وغسل الأموال لحساب إسرائيل، ولما كانوا يقومون به في المملكة المتحدة".

رفيق الشيطان يملأ الفراغ

في شتاء 1991، غرق القبطان إيان روبرت ماكسويل.

ماكسويل المولود في التشيك كان لاجئًا إلى بريطانيا، هناك أصبح إمبراطورًا إعلاميًا بواجهة أعمال خيرية. لكنَّ الأهم أنه لُقِّب أيضًا بـ"جاسوس إسرائيل الخارق"، لدوره في فتح باب خلفي للاستخبارات الاسرائيلية داخل برنامج PROMIS.

صُمم هذا البرنامج في البداية أداة رقمنة لوزارة العدل الأمريكية، حتى نقله ماكسويل إلى الموساد بعد تعديله، ليمنح الاستخبارات الإسرائيلية نافذةً على أنشطة أعدائها وحلفائها، وفق ما كشفه الصحفيان جوردون توماس ومارتن ديلون في كتابهما "روبرت ماكسويل، جاسوس إسرائيل الخارق: حياة واغتيال إمبراطور الإعلام/Robert Maxwell, Israel’s Superspy The Life and Murder of a Media Mogul".

بوفاته، انهارت الإمبراطورية الإعلامية والاستخباراتية، كاشفةً عن ديون هائلة وأموال مسروقة من صناديق التقاعد بعدما انتهت مناوراته المالية الاحتيالية، واستحواذاته المتهورة، وتعاملاته السرية مع الموساد والاتحاد السوفيتي إلى إفلاس شركاته، وفضيحة عائلته، وتدمير واجهته كرجل أعمال في بريطانيا.

هكذا خلت الساحة لإبستين، الذي تسلّل في العقد السابق بخفة داخل الطبقة العليا الأمريكية لدرجة مكّنته من التقاط الخيط الذي يربط هذه الشبكة المعقدة من العلاقات والعمليات مُنقذًا إياها من الانفراط. لكنه لم يكن وحده.

كانت جيسلين ماكسويل أكثر أشقائها الخمسة فهمًا لحقيقة والدها وما كان يفعله وما تركه. لم ترث إمبراطوريته التي انهارت تحت ثقل الديون وفضائح التجسس لكنها ورثت الغرائز التي بنت تلك الإمبراطورية؛ الدوافع التي حرّكتها، ودليل الأسماء الذي جعلها خطِرة بما فيها من ضباط استخبارات إسرائيليين، وسماسرة عالم النشر، وبقايا الشبكات القادمة من أوروبا الشرقية التي نسجها ماكسويل الأب في الثمانينيات. جميعهم ترقَّب ما إذا كانت الابنة ستملأ فراغ أبيها أم ستختفي.

جيسلين لم تفعل هذا ولا ذاك. بل مدّت يدها نحو إبستين. 

التقت جيسلين بإبستين أول مرة في نيويورك أواخر الثمانينيات عبر شبكة العلاقات الاجتماعية نفسها التي كانت تحيط بوالدها ماكسويل الأب. ثم بعد وفاة والدها، التصقت به بشدّة. لكنَّ ما بدا أنه علاقة عاطفية كان في جوهره أمرًا أكثر انتهازية، فقد وفّرت له مدخلًا للدوائر التي هيمن والدها عليها يومًا، وقدّم لها هو السيولة والسرّية والطموح الإجرامي.

استخدم الثنائي مركزهما الاجتماعي وثراءهما غطاءً لاستقطاب صغيرات ذوات أوضاع مادية واجتماعية هشّة، فكانا منخرطين في عالم مزادات التحف واللوحات الفنية النادرة. كانت جيسلين تستهدف رسامات في مقتبل مسيرتهن الفنية ممن يتوقنّ لوصول لوحاتهن لكبار المشترين، مثل ماريا فارمر، وتعدهُن بعقود مع معارضٍ مرموقة وإقامات فنية في متاحف وجامعات عالمية. ومن ثم تعرّفهن على إبستين بصفته مستثمرًا وذواقًا رفيعًا للفن.

هنا تبدأ طلباتهما الجنسية التي تزيد فظاعتها تدريجيًا. وكما رصدت ويب، كان خطر سلب الفرص العملية يخيم على ضحاياهما، فيضطررن للرضوخ. لم تكتفِ جيسلين بذلك بل كانت تحوم حول المدارس الإعدادية وأماكن تجمع المراهقات. وبعين خبيرة في فن الإقناع، كانت تقتنص فتيات من عائلات مفككة أو فقيرة يبحثن عن مصدر دخل. فتعرض عليهن "وظيفة صيفية" كعاملات مساج لإبستين وأصدقائه. 

استغلّا معًا الصغيرات الأكثر هشاشة عبر وعود براقة بتأمين مالي ومنح دراسية، انتهت بانتهاكهن وتقديمهن لأصحاب النفوذ. لم يكن الهدف من ذلك ابتزاز الطبقات العليا، بل بناء علاقات قائمة على الخوف المتبادل من الفضيحة، مدعومة برغبات حقيقية مشتركة في كسر المحرمات.

لم يتبدد ما بناه ماكسويل من إمبراطورية لتدوير الأموال، وسمسرة السلاح، وجمع مواد الابتزاز، وزرع ضباط الاستخبارات الإسرائيلية بهدوء في أوروبا والشرق الأوسط. كان يحتاج إلى راعٍ، شخص دون أخلاق، لزج اجتماعيًا لدرجة تمكّنه من التسلّل إلى صالونات مانهاتن، وقصور الخليج، ووزارات تل أبيب.

خطط قديمة وإقليم جديد

بحلول عام 2013، كانت الانتفاضة السورية ضد نظام الأسد  تحولّت عمدًا إلى حربٍ أهلية. رأت إسرائيل في تلك الفوضى نافذةً لتحقيق أحلام راودتها طويلًا، أقلّها الحصول على اعتراف رسمي بضمّ الجولان السوري إلى السيادة الإسرائيلية.

لم يكن الاستبداد الموثّق لنظام بشار الأسد هو ما حرّك "القلوب النازفة" والقوى الإسرائيلية والأوروبية والأمريكية وترساناتها ضده، إنما السعي لخلقِ حكومةٍ منزوعةِ المخالب، قابلةٍ للانحناء أمام خطط إسرائيل التوسعية في الإقليم ووصولها غير المقيّد إلى الأرض السورية وبناها التحتية، ما أشعل عقدًا كاملًا من التدخلات.

وقتها، كان إيهود باراك، الذي أيقن منذ سنوات بأن الأسد ينزلق في سقوط سريع، منسحبًا من الحياة العامة بعد انهيار حزبه والإطاحة به من منصب رئيس وزراء إسرائيل، ليتسلل إلى دوائر أكثر هدوءًا داخل غرف الاجتماعات ومناقشات الأمن.

في هذه الغرف المغلقة التقى باراك بإبستين، واستغل علاقتهما في مناورات سياسية خلف الكواليس لم تخلُ في الوقت نفسه من انتهاك الصغيرات، ليضيف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إلى سجل جرائمه بحق الفلسطينيين اتهامات بالاعتداء الجنسي العنيف على إحدى أبرز ضحايا إبستين، فيرجينيا جوفري، وفق ما ورد في مذكراتها ووثائق المحكمة.

تكشف مجموعة الرسائل الإلكترونية المسرّبة مؤخرًا أن باراك اعتمد على إبستين في الحصول على تسريبات أحاديث النميمة السياسية بين النخب الروسية والأوروبية، وتلميحات من مسؤولين أمنيين أمريكيين سابقين، وإرشادات حول التوقيت المناسب للتواصل مع رئيس الموساد.

في الوقت نفسه، سعى باراك إلى التقرب من فيكتور فيكسلبرج، مؤسس مجموعة Renova Group، وهي تكتل روسي ضخم تأسس عام 1990 ويملك أصولًا في قطاعات الطاقة والمعادن والاتصالات. كان العمل الاستشاري في رينوفا يحقق عائدًا ماديًا معتبرًا لكن الأهم من ذلك أنه فتح له ممرًا إلى الدائرة السياسية الداخلية في روسيا.

تابع إبستين خطوات باراك عن كثب، محذرًا إياه من التسرع وموجّهًا طريقة حديثه مع الطرف الروسي. وبموافقة غير معلنة من الموساد، حاول الرجلان دفع موسكو نحو إرساء انتقال مُدار بعناية للسلطة في دمشق يسمح بالإطاحة بالأسد دون المساس بمكانة روسيا ونفوذها في سوريا.

صاغ باراك مقال رأي يجادل فيه بأن روسيا وحدها قادرة على هندسة نهاية للحرب عبر تأمين مخازن الأسلحة الكيماوية في سوريا وتوجيه البلاد نحو نظام جديد. ودفعه إبستين إلى تشديد الرسالة والتحذير من التأخير. لكن الصحف الأمريكية طالبت بتفاصيل أكثر، وحين رفض باراك تقديم المزيد، ظهر المقال في النهاية بصيغة أقل حدة في صحيفة ديلي تلغراف البريطانية.

غير أن الجهد الحقيقي تركّز على منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي الدولي عام 2015، فقد سعى باراك إلى ترتيب اجتماع خاص مع فلاديمير بوتين، بينما بقي إبستين قريبًا منه يزوّده بتحركات المسؤولين الأوروبيين ويكرر له أن بوتين يرغب في لقائه.

اعتمد باراك على فيكسلبرج ليؤمّن له تسجيلًا في اللحظة الأخيرة لحضور المؤتمر. وسجّل مشاركته في المنتدى باسم شركة الاستشارات التي يملكها Hyperion EB لزيادة فرصه في لقاء بوتين.

قدّم أحد كبار مساعدي الرئيس الروسي قناة تواصل مباشرة. وانعقد الاجتماع بهدوء، وكتب باراك لاحقًا أن الرسائل التي جرى تبادلها وصلت إلى "كبار اللاعبين".

بعد شهرين، ضربت صواريخ محمّلة بغاز السارين منطقة الغوطة. وقدّمت الصور المروّعة ذريعة للرئيس باراك أوباما لطلب موافقة الكونجرس على شنّ ضربات عسكرية. ودفع إبستين، باراك، إلى إحياء حجّته السابقة وربط الملف السوري بإيران.

عندما صرّح جون كيري بأن الأسد قد يتجنب الضربات إذا سلّم ترسانته الكيماوية، سارعت روسيا إلى التقاط مقترح باراك وتحويله إلى مبادرة. وسرعان ما تفاوضت واشنطن وموسكو على إطارٍ لتفكيك المخزون السوري على نحوٍ يعكس الخطوط العريضة التي رسمها باراك، والقائمة على فكرة استخدام ملف نزع الأسلحة الكيماوية ذريعةً لتغيير النظام واستبدال وجه مدعوم أمميًا به.

وبعد نحو عقد من الاقتتال الأهلي، وفي ذروة الحملة الإسرائيلية الكاسحة في الإقليم، فرّ الأسد إلى موسكو. وظهر الجولاني، القائد السابق في تنظيم القاعدة، وقد تحوّل إلى أحمد الشرع.

العين الساهرة على الإبادة

ورث إبستين لاحقًا مفاتيح الباب الخلفي الذي فتحه ماكسويل للموساد. في عام 2005، ضخّ نحو 40 مليون دولار تمويلًا أوليًّا في شركة ناشئة يملكها المستثمر الأمريكي الألماني بيتر ثيل، التي ستتحول لاحقًا إلى عملاق المراقبة Palantir. لعبت الشركة دورًا محوريًا في الإبادة في غزة، إذ أطلقت قدرة إسرائيل على أتمتة حملة القتل الجماعي.

صُممت خوارزميات Palantir لتتعلّم أنماط السلوك البشري إلى أن يُختزل الإنسان لـ"عدد من الاحتمالات". وعندما يتحوّل الفرد إلى معادلة احتمالية، تذوب الفاصلة بين التحليل والإفناء. هكذا صارت غزة حقل التجارب الأول لهذا النمط من القتل المؤتمت.

"لافندر"، البرنامج الذي يعطي الفلسطينيين في القطاع المحاصر درجة رقمية للتهديد، يصنّف المراهقين وأصحاب الدكاكين والمعلّمين والأمهات، ويضع لكلٍّ منهم رقمًا يقدّمه بوصفه "هدفًا" في منظومة التصويب الإسرائيلية، أمّا "هَبسورا" (الإنجيل)، البرنامج الذي يستخرج أهدافًا جديدةً من الصور الفضائية والاتصالات الملتقطة، فكان يضخّ سيلًا لا ينقطع من الإحداثيات إلى الطائرات التي تحلّق فوق القطاع، فتقصف بدون رحمة.

ومن خلال Palantir بقيت بصمات إبستين، حتى بعد موته، عالقة في الشرق الأوسط الذي تعيد إسرائيل نَحته بالقوة الغاشمة.

ما بعد القبر

قناة خلفية أخرى جرى توجيهها بشكل حاد نحو إيران. فمع اقتراب إنجاز الإطار الممهد للاتفاق النووي، عارض باراك الاتفاق علنًا، بينما اعتمد سرًا على إبستين لإعادة فتح "الممرّ الروسي" عبر الاتصال بسيرجي بيلياكوف، ووجّهه لكيفية عرض خبرته أمام مستشاري بوتين. وبعد منتدى 2015، عاد باراك وقد أمّن سلسلة اجتماعات على مستويات رفيعة، وكتب لإبستين شاكرًا، بهدوء، ترتيبه لها.

بعد ذلك بعشر سنوات، كانت إسرائيل تستهدف القدرات النووية الإيرانية بلا هوادة، سواء باغتيال كبار العلماء وكبار ضباط الجيش، أو بشنّ هجوم عسكري استمر 12 يومًا وأسفر عن مقتل 935 شخصًا، بينهم 38 طفلًا، بذريعة كبح التطوير النووي الإيراني عام 2025.

ثمة شخصية أخرى برزت ضمن تلك المجموعة المتباينة التي تتولى إعادة تشكيل الشرق الأوسط في ظل النفوذ الإسرائيلي هو توم برّاك، فقد ظهر اسمه في الصفحات المسرّبة، يتخلّل طلباته الحصول على صورٍ لفتيات كي تجعله يبتسم.

أرسى برّاك موقعه بصلابةٍ داخل الشبكات التي رسمها إبستين باعتباره قناةً تصل مباشرة إلى أذن دونالد ترامب. وفي عام 2024، أدى اليمين سفيرًا للولايات المتحدة لدى تركيا، ثم عُيّن لاحقًا مبعوثًا خاصًا لترامب إلى سوريا ولبنان.

في إطلالة تلفزيونية مؤخرًا، عرض توم برّاك رؤية الولايات المتحدة وإسرائيل للمنطقة. هو يتخيّل شرقًا أوسطَ فيه الحدود الاستعمارية بلا قيمة، وتُحدَّد فيه النتائج وفق ميزان القوة لا وفق الحقوق الوطنية. ويروّج لسياسة تقوم على الصفقات، ويميل إلى تكريس التفوّق العسكري الإسرائيلي، ويدعو إلى تحييد حلفاء إيران، ويفضّل الفاعلين "المرنين" من الجماعات غير النظامية "شبه العسكرية" على الدول كما يتعامل مع الهوية الفلسطينية بوصفها قابلةً للإزاحة، ويدعم إعادة تشكيل حقائق المنطقة بما يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية.

في السادس من يوليو/تموز 2019، أُلقي القبض على إبستين في فلوريدا بتهمٍ تتعلّق بالاتجار بقاصرات والتآمر على الاتجار بفتيات دون السن القانونية بين عامي 2002 و2005، عبر ممتلكاته في نيويورك وبالم بيتش. واتّهمه الادعاء بإدارة شبكة تُرغم فتيات، بعضهن دون الثامنة عشرة، على ممارسات جنسية، وبالتحريض على استقطاب أخريات. وأثناء انتظاره المحاكمة في مركز الاحتجاز الفيدرالي، عُثر عليه ميتًا داخل زنزانته.

ورغم خضوعه لرقابة انتحار مشدّدة، سُجّلت وفاته بوصفها انتحارًا. وكان قد عبّر قبل موته عن رغبته في حفظ جسده بالتجميد الحيوي على أمل أن يعود إلى الحياة عندما تتوافر التكنولوجيا المناسبة.

هذه الرغبة في التجمد، قابلها تفكك بطيء لشبكة إبستين يكشف ما هو أبعد من حكاية فاحشة عن الاتجار والثروة؛ إنه يفضح بنية عالمية هشّة تتقاطع فيها شبكات الاستخبارات ورأس المال والسياسية، وغالبًا بعيدًا عن المساءلة. فمن صالونات مانهاتن إلى ساحات القتال في الشرق الأوسط، يواصل هذا الإرث تشكيل الجغرافيا السياسية بعد أعوام من وفاة إبستين. ولم يعد السؤال، من كان يعرف؟ بل، من سهّل، ومن استفاد، ومن سيحكم في ظلّ هذا الإرث لاحقًا؟


نشرت المنصة نسخة إنجليزية لهذه القصة للمرة الأولى في 27 نوفمبر 2025