تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
الطبيبة والناشطة المصرية البهائية بسمة موسى

بسمة موسى.. بهائية ضد كل اضطهاد

منشور الخميس 4 كانون الأول/ديسمبر 2025

كانت الطائرات الإسرائيلية "تلمع أكثر من النجوم" فوق رؤوس عشرات الآلاف من سُكَّان مُدن القناة الذين اضطروا لهجرة أوطانهم الصغيرة على وقع الاعتداءات، والاحتماء في القاهرة أو محافظات الدلتا القريبة. ضمن هؤلاء، كانت هناك طفلة مصرية عمرها تسع سنوات، اسمها باسمة جمال موسى.

وُلدت باسمة، التي ستُعرف لاحقًا باسم بسمة، في بورفؤاد يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 1958 لأبوين بهائيين، يعيشان مع أبنائهما الستة في بيت مملوك ليونانيين، يؤجرون طابقه الأول لعائلة نوبية. ثم اندلعت الحرب، فهاجر الجميع.

انتقلت العائلة من بورفؤاد إلى كفر الزيات، حيث ستقضي سنوات الاستنزاف وما بعدها. بيتٌ جديدٌ، شوارعٌ مختلفةٌ، مدرسةٌ أخرى؛ بسبب هجرةٍ اضطراريةٍ فَرَضها عدوٌّ لا يُميّز بين مصريٍّ وآخر.

انقضت سنوات الحرب، لتعود بسمة مع أبويها وإخوتها الخمسة إلى وطنها الصغير في بورفؤاد؛ تُنهي دراستها الثانوية في إحدى مدارس بورسعيد، وتهجر وطنها الصغير مرةً ثانيةً، ولكن باختيارها، لتدرس طب الأسنان في جامعة القاهرة.

تعنيف وتكفير في مؤسسات التعليم

مثلما تمنح الأوطان الأُلفة فإنها تعطي الندوب. كانت الندبة الأولى في وطنها الصغير، بورسعيد، قبل الحرب. في يومها الأول في المدرسة عندما حلَّ موعد حصة الدين. طلبت المُدرِّسة من التلاميذ المسيحيين التوجه إلى الحوش لتلقي حصة الدين المسيحي، فخرجوا، وبقي التلاميذ المسلمون ومعهم بسمة التي كانت في حيرة صارحت المُدرِّسةَ بها: أنا حافظة الفاتحة وسور قصيرة بس أنا بهائية.

تتذكر علا شقيقة بسمة هذه القصة في حديثها مع المنصة "المُدرِّسة احتدّت عليها وقالتلها إن ده كلام فارغ ومفيش حاجة اسمها كده، وذنّبتها بأنها تقف جنب السبورة وتيجي بكرة مع وليّ أمرها". ثم تضيف "ده كان أول موقف تحس فيه بالتمييز".

كان حظ بسمة حسنًا لأنه كان لمديرة المدرسة صديقة بهائية، فأبدت تفهمًا. وعندما ذهب الأب إلى المدرسة في اليوم التالي انتهى تعنيف المُدرّسين. واختارت بسمة دراسة الدين الإسلامي في سنوات التعليم، ومثلها فعل جميع إخوتها، وكل المجتمع البهائي تقريبًا.

تعطَّل حصولها على الماجستير لسبع سنوات، وعلى الدكتوراه لتسعٍ أخرى

الندبة الثانية جاءت من الوطن الكبير. عندما تخرجت عام 1981 بتفوّق يسمح لها بالانضمام إلى السلك الأكاديمي، وكانت راغبة، فعُيِّنت في العام التالي معيدةً بدرجة مُدرس كما تقتضي القواعد الأكاديمية. ولكنَّ ما كان يفترض أن يحدث بعد ذلك، لم يتم بالسلاسة المعتادة.

في يوم تعيينها معيدةً، عُيِّن معها طبيب شاب اسمه علاء الأسواني، فتزاملا سنةً دراسيةً كاملةً مكنته من أن يحكي في مقال نشره في جريدة الشروق عام 2009، عمَّا واجهته بسمة من تمييز؛ "أعلن عدد من الأساتذة (الجامعيين) ما اعتبروه حربًا مقدسة ضد الدكتورة بسمة فتم إسقاطها عمدًا فى كل الاختبارات التى دخلتها بالرغم من تفوقها الذى يشهد به الجميع".

كان الاستهزاء بدينها والتهكم عليها واتهامها بالكفر أمورًا تتعرض لها بأنماط متكررة ولكنها "خاضت الحرب بشجاعة"، وفق المقال. تقدمت إلى المسؤولين في الدولة بمئات الشكاوى "حتى نجحت أخيرًا فى امتحان الدكتوراه بفضل تدخل رئيس الجامعة بنفسه ووقوف بعض الأساتذة المنصفين معها مثل الدكتور شريف المفتي والدكتور هاني أمين"، وهنا تدخّل الأزهر. 

استصدر الأساتذة المعترضون على تعيين بهائية في منصب أكاديمي من الأزهر بيانًا بتكفير البهائيين. وفي يناير/كانون الثاني 1986 نشرت جريدة عقيدتي التابعة لمؤسسة أخبار اليوم بيان مجمع البحوث الإسلامية "المندد بالدعوة البهائية"، مُستدلًا بما واجهه أتباعها من "قتل وتنكيل" من المسلمين.

أشارت بسمة نفسها إلى تلك الأزمة ضمن مشاركتها في الفيلم التسجيلي "عقيدتي أم وطني" للمخرج أحمد عزت، فقالت "همَّ راحوا الأزهر وجابوا ورقة إن أنا مرتدة، ساعتها استغربت جدًا إزاي هيئة دينية زي الأزهر تطلع شهادة إن شخص مرتد دون حتى أن تسأله". وتواصل "الارتداد يكون شخص مسلم وبِعد عن الإسلام. لكن أنا كبهائية مؤمنة بكل الأديان السماوية وبسيدنا محمد وبأن لا إله إلا الله وسيدنا محمد رسول الله".

تعطَّل حصول بسمة على درجة الماجستير لسبع سنوات، وعانت تسع سنوات أخرى لتنال الدكتوراه، ولم تبلغ درجة الأستاذية إلا عام 2012، أي بعد نحو 30 سنة من تخرجها، وهي مدة طويلة عن المعتاد، إذ يتطلب الأمر شغل وظيفة أستاذ مساعد لخمس سنوات، أو مُضي عشر سنوات على الحصول على المؤهل المطلوب.

تعليق المواطنة

التحريض على البهائيين في الصحف، الصورة من أرشيف روزاليوسف الصفحة الثانية بتاريخ 10 يوليو/ تموز 2008

في فيلمه "عقيدتي أم وطني"، حاول المخرج أحمد عزت توثيق الندبة الكبرى؛ الجلسة التي قضت فيها المحكمة الإدارية العليا بعدم أحقية البهائيين في أوراق الهوية، يوم 16 ديسمبر/كانون الأول 2006.

تفجّرت هذه الأزمة قبلها بست سنوات، مع توقف وزارة الداخلية عام 2000 عن إصدار البطاقات الشخصية الورقية، واستبدال بطاقات الرقم القومي بها، لتقرر مصلحة الأحوال الشخصية التوقف عن إصدار أو تجديد الوثائق الرسمية للمصريين البهائيين ما لم يقبلوا بتغيير ديانتهم إلى إحدى الديانات الثلاث المعترف بها رسميًا؛ الإسلام أو المسيحية أو اليهودية.

وضعت الوزارةُ المواطنين المصريين البهائيين أمام خيارين؛ ملء خانة الديانة بأي كذبةٍ، أو الحرمان من إثبات الهوية، وما يترتب عليه من تجميد مواطنتهم واستبعادهم من المجتمع وعدم الاعتراف بوجودهم في الدولة، وتعليق حقوقهم وحرمانهم من كل مصالحهم الحكومية.

ولأن المُواطنة لا يمكن أن تُعلَّق؛ لجأ البهائيون إلى مجلس الدولة، وقضت محكمة القضاء الإداري بالفعل في أبريل/نيسان 2006، بأحقيتهم في إثبات ديانتهم في أوراق الهوية. إلا أن وزارة الداخلية طعنت على الحكم، وفي ديسمبر من العام ذاته ألغت المحكمة الإدارية العليا الحكم السابق، وأعادت تعليق مواطنة البهائيين مجددًا، بل وأضافت إلى الحكم اعتبار معتنق البهائية "مرتدًا".

تكرار الندوب التي تعرّضت لها بسمة، حتى بلغت مرحلة مقايضة العقيدة بالمواطنة، ذهبت بها إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث حصلت من هناك على دبلومة المجتمع المدني وحقوق الإنسان، سبتمبر/أيلول 2005.

توزّعت حياة بسمة في تلك الفترة بين العمل والدبلومة والمحكمة. عندما صدر الحكم بعدم الاعتراف، كانت هناك، مثلما كانت هناك في كل جلسة، تحدثت، مثلما تحدثت في كل جلسة، مع النشطاء والصحفيين عن الدين البهائي وحق المواطنة. في الفيلم تطرح سؤالًا بديهيًا؛ لماذا لا يمكنني أن أحمل بطاقة شخصية؟ وفي المؤتمرات والندوات، كانت تتساءل عن أسباب عدم قدرتها على إثبات زواجها في بطاقتها الشخصية!

باسمة موسى في إحدى الندوات وإلى جوارها منير مجاهد

في عام 2006، انضمت إلى مجموعة مصريين ضد التمييز الديني، وهناك حظيت باحترام وحب كل من تعامل معها، كما يقول منير مجاهد العضو المؤسس للمجموعة "كانت إنسانة بالغة الأدب والاحترام والهدوء، ولديها إيمان كامل بالمساواة بين الناس".

يصفها مجاهد لـ المنصة "ركزت كل حياتها على الدفاع عن قضية البهائيين وكانت تستطيع دائما الوصول إلى حلول وسط، يعني مثلا إحنا كنا بنطالب بإلغاء خانة الديانة من البطاقات الشخصية، لكن لما بدا أن الدولة مش هتعمل كده وافقِت على بدائل كوضع (أخرى)، أو (-) مكان خانة الديانة".

طرق البهائيون أبواب مجلس الدولة مجددًا في يناير 2007 بهذه المسألة؛ مُطالبين بحقهم في استخراج الوثائق الرسمية دون الإلزام بتسجيل ديانة لا يعتنقونها. وبعد عام كامل، قضت محكمة القضاء الإداري في يناير 2008 بإلزام مصلحة الأحوال المدنية بإصدار هذه الوثائق، مع ترك خانة الديانة فارغة، أو وضع علامة (-) بدلًا منها.

لكنَّ هذا الحكم لم يُنهِ تعليق حقها في المواطنة، وامتدت متاعبها من عدم قدرتها على إصدار بطاقة ائتمانية من البنك إلى العجز عن سحب أموالها من حسابها، بينما تفاقمت أزمات عائلتها مع تسجيل أولادهم في المدارس، وحُرمت شقيقتها من التقديم لابنها في أحد مشروعات الدولة لإسكان الشباب، كما حكت في حوار أجرته مع المصري اليوم في أغسطس/آب 2008.

امتد تعليق المواطنة بعد الحكم، لأن وزارة الداخلية امتنعت عن تنفيذ الحكم الذي أعلنت أنها لن تطعن عليه، بحجة انتظار الفصل في طعون أخرى تقدم بها محامون إسلاميون، إلى أن صدر أخيرًا قرار وزير الداخلية بوضع علامة (-) في خانة الديانة لغير معتنقي الأديان الثلاثة، في 14 أبريل/نيسان 2009.

ضد كل اضطهاد

شاركت بسمة موسى كمتحدثة فى العديد من المؤتمرات والندوات التي كانت تنظمها منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان المصرية، وكذلك نشر لها العديد من المقالات في جرائد مصرية دافعت فيها عن حقوق المرأة والطفل والتعليم والاهتمام بالبيئة والمناخ والتسامح والسلام.

لكنها رغم نشاطها الحقوقي، لم تقترب من السياسة، ولم تنضم في حياتها إلى أي حزب أو جماعة سياسية، بل وفي كل حوارتها الصحفية كانت توضح أن دينها يمنعها من ممارسة السياسة.

تشعبت مسارات حياتها إلا أنها دائمًا ما تصل إلى هدف واحد؛ وقف التمييز الديني

في حوار المصري اليوم، أكدت أنه "بحكم الدين (البهائي) السياسة ممنوعة عندنا، وكذلك ممنوع الدخول في الأحزاب لأن البهائية تؤمن بوحدة العالم الإنساني، وإذا تحزّبنا تنهدم فكرة الوحدة"، لكنها كانت مهتمة بشكل رئيسي بقضايا المضطهدين، والأقليات.

في عام 2010، منحتها منظمة المؤتمر الإسلامى الأمريكي جائزة شخصية العام فى مجال التسامح الدينى وحرية العقيدة. لكن على الجانب الآخر، اعتبرت جريدة اليوم السابع عام 2009 أن إعلان بسمة لعقيدتها مسألة تحدث "في مواجهة الأغلبية المسلمة"، وأن إصرارها على هذا الإعلان يجعلها من أكثر النساء "إثارة للجدل".

وعندما اندلعت ثورة يناير، حصر أول دستور بعدها -وكانت الغلبة في كتابته للإسلاميين- حرية ممارسة الشعائر الدينية واتخاذ دور العبادة لـ"الأديان السماوية". ثم أطاح النظام الجديد بالإسلاميين في 2013، فأحيا ذلك آمال البهائيين في المواطنة الكاملة، فشكلوا وفدًا شاركت فيه بسمة موسى للقاء عمرو موسى، رئيس لجنة الخمسين لكتابة الدستور الجديد. في ذلك اللقاء طالبت بسمة بقانون لتجريم التمييز ضد الأقليات المصرية، وضرورة تشكيل هيئة مستقلة لمراقبة أي تمييز أو اضطهاد.

لكنَّ الإطاحة بالإسلاميين لم تحسِّن المركز القانوني للبهائيين وغيرهم، إذ بقيت حرية العقيدة في الدستور مقتصرة على أتباع الأديان الثلاثة.

تمييز ما بعد الموت

قبر دكتورة باسمة موسى بين قبرين نظرًا لعدم وجود أماكن لدفن الموتى البهائين

تشعبت مسارات حياتها؛ إلا أنها كانت دائمًا ما تصل إلى هدف واحد؛ وقف التمييز الديني بين المواطنين، ومنح الجميع حق المواطنة.

لكنَّ ندبة أخيرة كانت في انتظارها بعد وفاتها يوم السبت 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2025.

فوفقًا للصورة التي حصلت عليها المنصة لمقبرتها، دُفنت بسمة في قبر حُفر بين قبرين في مدفن البهائيين في البساتين، وهي المدافن الوحيدة المخصصة لللبهائيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ورغم أن مساحتها توشك على النفاد، فضلًا عن مشقة السفر بالجثامين من كل أنحاء الجمهورية، ترفض مصر تخصيص أراضٍ جديدة لدفن البهائيين.

لم يُميّز العدو بين مصريٍّ وآخر، لكنَّ مصر فعلت أحيانًا. هُجِّرت بسمة قسرًا من مدينتها، دفعت الأثمان كاملة، ولكن عندما جاء وقت نيل الحقوق ظهرت عوامل القسمة. أما هي، فظلَّت هادئة حتى وهي تواجه، بشجاعة، ظلم ذوي القربى أبناء الوطن.