imdb
مشهد من فيلم "صوت هند رجب"، إخراج كوثر بن هنية (2025)

صوت هند رجب.. دخول السينما كفعل سياسي

منشور الأربعاء 3 كانون الأول/ديسمبر 2025

بعد ظهر 29 يناير/كانون الثاني 2024، تصل مكالمة استغاثة لمركز الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله بالضفة الغربية؛ طفلة اسمها ليان، عمرها 14 عامًا، تستغيث من سيارة عائلتها التي تتعرض لإطلاق نار الدبابات بمدينة غزة. تُقتل ليان فيما تتحدث مع فريق الهلال الأحمر.

بعد دقائق، تكشف مكالمة جديدة أن هناك طفلة أخرى لم تمت بعد في السيارة نفسها. عمرها ستة أعوام، واسمها هند رجب، ابنة عم ليان. يحاول فريق المركز إبقاءَ هند على التليفون، ومعرفةَ ما يحيط بها، وإلهاءَها عنه، وتشجيعها حتى تصل إليها سيارة إسعاف، لن تصل أبدًا.

تمرُّ الساعات، يحل الظلام الذي تخاف منه هند، الوحيدة في السيارة بين أشلاء عائلتها ودمائهم، والمحاصرة بالدمار والدبابات والقصف. تقترب أخيرًا سيارة الإسعاف، إنها على بعد أمتار. تستهدفها الدبابات، وتقتل طاقمها، وبعد دقائق تقتل الطفلة هند وهي تتحدث مع من حاولوا إبقاءَها معهم على التليفون. بعد 12 يومًا تصل الكاميرات وفرق البحث لما تبقى من جسد هند وعائلتها ومن حاولوا إنقاذها.

إنها الصدفة، لا أكثر، أن تبدأ العروض التجارية لفيلم صوت هند رجب (2025)، للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، في إسبانيا، يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني. إنه يوم الـ"بلاك فرايداي"، يوم التخفيضات المختلق لمضاعفة عمليتي الشراء والاستهلاك اللتين تجاوزتا خلال السنوات الأخيرة حدود يوم الجمعة الأخير من شهر نوفمبر، ليتمدد شاغلًا أيامًا طويلةً قبله وبعده.

https://youtu.be/hrssPpqv6vc?si=SuWKSq3dclA3T8Qf

نستمع داخل قاعة العرض للصوت الحقيقي لهند المحاصرة في سيارة بين أشلاء عائلتها. لا تتمكن أحيانًا إلا أن تجيب بـ"آه"، أو "لأ"، وأحيانًا أخرى تستنجد بمن تتحدث إليها قائلةً "تعالي خُديني". أما خارج قاعة العرض، على شاشة التليفزيون، ومن ضمن عشرات التقارير الإخبارية عن البلاك فرايداي، ونجاحه، وتأثيره الإيجابي على عالم المال والتجارة، تسأل المذيعة شابًا وشابةً أمام متجر ملابس ضخم، خرجا منه للتو، عن تكلفة مشترياتهم. يبدوان سعيدين، يتعاونان في تذكر المبلغ المدفوع بالتقريب، وبعد أن يخبرونا به يتفقان على أنه ضروري. الإنفاق في "الجمعة السوداء" هو شيءٌ ضروريٌّ!

إنه التناقض المذهل بين فقاعتين، من بين فقاعات أخرى لا تلتقي أو تتداخل، لكنها تصطدم فيما بينها. فقاعة الموت الحقيقي المحاصرة لطفلة السنوات الست في غزة، الوحيدة بين جثث وركام ودبابات، في يوم من ضمن الأيام السوداء الكثيرة على أهل غزة، وفقاعة الاستهلاك، وأن يدفع مجهولون، لهم سلطة على الأسواق والإعلام، مئات الملايين من البشر لإنفاق أموالهم في يوم محدد، ويسمونه بـ"الأسود"، كمناسبة مفتعلة. فنذهب للمتاجر من دون أن نفكر ولو للحظة واحدة إن كنا نحتاج حقيقة ما نشتريه. ونتصور أن فعليِّ الاستهلاك والإنفاق "ضروريان جدًا"، مثلما قال الشاب والشابة أمام كاميرا التليفزيون.

الفقاعة الأولى: السيارة

تحولت السيارة إلى حطام. مجرد بقايا هيكلٌ معدنيٌّ مخترَقٌ بما يصعب حصره من رصاص وقذائف. هند داخل الهيكل المعدني، بين الجثث والدم. تظن بدايةً أن أهلها نائمون، ثم تدرك أنهم ماتوا، وتدرك لاحقًا أن هناك أحياءً آخرين، قريبين منها، محميين داخل دباباتهم الحديثة المزودة بأحدث تقنيات الرصد والقتل، ولا يجب أن يعرفوا أنها ما زالت حية. لكنهم رأوا الطفلة، وقرروا قتلها ببطء.

لم ولن نرى ملامح هند رجب هناك. لكننا سنراها في أذهاننا، وسنرى المشهد كله، وكل مكوناته، عبر صوتها. وسنرى هذه الدبابات تقترب ومعها الظلام، الليل، وهذا الموت الذي سيقتحم جسدها في أي لحظة، ليُنهي تشبثها بالحياة والعالم عبر صوت رجل وامرأة بعيدَين، لا تعرف ملامحهما، لكنهما وعداها بأنهما سيأتيان لإخراجها من هذا المشهد.

الفقاعة الثانية: مركز الهلال الأحمر

أفيش فيلم "صوت هند رجب"، إخراج كوثر بن هنية (2025)

مبنى في أحد أحياء رام الله. بداخله مكاتب وخرائط إلكترونية وأجهزة اتصالات، تفصل بينها جدران زجاجية، تحولت فعليًا، لا مجازًا، لأقفاص لعدد من الرجال والنساء يحاولون إنقاذ هند بطرق مختلفة؛ يتحدثون مع مراكز تنسيق، ومنظمات دولية، ورجال أصحاب سلطة، على أمل أن يسمح الجيش الإسرائيلي لسيارة إسعاف فلسطينية أن تصل لهند من دون أن يستهدفها.

ولأنهم محاصرون من الجدران الزجاجية، والبيروقراطية، والعراقيل، وتعقيدات السياسة، والأوضاع الميدانية، لا تنفيس لمشاعر القهر والعجز واليأس والاختناق إلا بأن يتصارعوا فيما بينهم، عن المُصيب والمخطئ في طريقة الإنقاذ المحتمل لطفلة فلسطينية مثلهم، في مكان لا يمكنهم وصوله، فيما يذكرهم صوتها ربما بصوت الحقيقة؛ أن مصير هند رجب هو مصيرهم، مصير الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون.

الفقاعة الثالثة: قاعة السينما

كثيرون منَّا هجر منذ أعوام عادة حضور الأفلام في السينمات. أصبحت الفرجة المنزلية، وبالذات بعد تطور جودة الصوت والصورة المتاحين، فقاعتَنا الخاصةَ المريحةَ لمشاهدة الأفلام. لكن في حالة "صوت هند رجب" كان ظلام قاعة العرض، والصمت المطبق داخلها، وافتقاد الراحة في المقاعد، مناسبين تمامًا لمشاهدة الفيلم، والاستماع لصوت هند. تكاد تكون ظروف الحد الأدنى كي نرى ونواجه ما لن نراه على الشاشة، عبر الاستماع إليه.

دخل البعض لقاعة العرض، في يوم البلاك فرايداي، مرتديين كوفيات فلسطينية. لكن البعض الآخر لم ينتبهوا غالبًا لأي فيلم سيشاهدون، فدخلوا بالمشروبات والعلب الورقية الضخمة المعبئة حتى آخرها بالفشار. بعد ثوانٍ من بداية الفيلم، لم نعُد نسمع أصوات المضغ. لم يهمس أحد. الجميع مثبتون في مقاعدهم، يتجنبون ولو أقل حركة تخدش مهابة الموت الحاضر. وكأن الدخول لقاعة عرض للاستماع لصوت هند رجب، والبكاء كلٌّ بمفرده بصمت، تحولا لفعل مصاحبة رمزي لهند الوحيدة في مواجهة آلة القتل؛ أننا هنا، ما زلنا نسمعك ونسمع غزة، وإن كان في قاعةِ عرضٍ أوروبيةٍ بعيدة.

الفقاعة الرابعة: الشارع

الشارع مُحفزٌّ للسعادة والبهجة. واجهات المحلات والمطاعم تلمع وتتلألأ. المئات في طوابير طويلة أمام محلات بيع أوراق اليانصيب للسحب الكبير ليلة عيد الميلاد. وعلى بعد أمتار من قاعة العرض بُنيت في ميدان رئيسي حلقة واسعة للتزلج على الجليد مخصصة للأطفال؛ موسيقى طفولية مبهجة، وثلج صناعي في مدينة لا وجود للثلوج بها. إنه الشارع الذي أصبحنا نسير فيه دون أن ننظر لوجوه الآخرين، بل لشاشات الموبايلات، وتطبيقاتها. نفس ما تفعله إحداهن في فقاعة مركز الهلال الأحمر الفلسطيني، توثق بكاميرا المحمول ما يحدث أمامها، على أمل أن ينتقل لفقاعة السوشيال ميديا، ليراه أحدهم خلال هدنة محتملة من عملية الشراء.

تدرك كوثر بن هنية وتُخبرنا أن صوت هند رجب استعارة رمزية لصوت غزة وفلسطين

نخرج من قاعة العرض للشوارع المحيطة، المُزيّنة بأشجار الكريسماس الضخمة. ليست أشجارًا طبيعية، بل مصنوعة. مخاريط/قراطيس هائلة وقبيحة، بديلة عن أشجار الأَرْز القديمة. وملايين من لمبات الإضاءة، والكرات/الفقاعات الضخمة المضاءة في سياق هذا السباق الذي يتجدد كل عام بين المدن الأوروبية على من منها سيفوز بأكبر إضاءة لأعياد الميلاد. وكل هذه البهجة واللمعان يدعوان عشرات الآلاف من المارة، في كل شارع أو ميدان تجاري، للتوقف، والتقاط الصور السيلفي.

لم تفز مدينة مدريد في حمى الإضاءة والتزيين وعدد اللمبات المضاءة خلال شهر كامل قبل أعياد الميلاد. لم تفز على الرغم من أن البلدية استهلكت 13 مليون لمبة لهذه المناسبة، كي تلمع المدينة حتى يوم السادس من يناير، عيد الهدايا والألعاب، العيد المفضل للأطفال في سن هند أو أكبر.

13 مليون لمبة. أكثر من ستة أضعاف عدد البشر الأحياء في غزة المظلمة.

فقاعة إضافية: سينما الكمباوند

أثارت الجوائز التي نالها فيلم "صوت هند رجب" تحفظات وتساؤلات في بعض الأوساط السينمائية إن كانت جوائز برائحة سياسية. عادة ما يكون مفجرو هذا النوع من التعليقات من صناع أفلام ومسلسلات مجتمع الكُمباوند. الذين يروجون للسينما باعتبارها هذا الشيء الساحر، المنفصل عن الواقع، الذي يجب ألا يُلوث بالسياسة. وكأن أفلام ومسلسلات مجتمع الكُمباوند، والاستعراضات التقنية التافهة في جوهرها، أرقى وأكثر سموًا من الواقع، في حين أنها أفلام ومسلسلات ملوثة بسياسة أخرى، سياسة التغييب وتزييف الواقع.

يتناسى هؤلاء أن المهرجانات والجوائز لم تكن أبدًا مفصولة عن السياسة أو المصالح أو موازين القوى. كلها، بلا استثناء، من أصغرها لأكبرها. وفي حالة "صوت هند رجب" يتم التركيز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا، وتجاهل جائزة الجمهور في واحد من أهم مهرجانات العالم، سان سباستيان. لأنها تحديدًا جائزة الجمهور، الذي شاهد أفلام المهرجان وقرر أن يصوت لهذا الفيلم تحديدًا ليفوز بالجائزة. تصويت لصالح الواقع، لصالح حقيقة الدم، ولصالح صوت هند وهذه اللقطات الأخيرة التي نراها فيها قبل الإبادة، تلعب على شاطئ بحر غزة قبل أن يتحول إلى جحيم.

هناك تصور لا يعترف به صراحة السينمائيون الذين يحملونه، مفاده أن الأفلام الجيدة لا تُصنع لهذا الجمهور، ولا تكتسب قيمتها منه، أو من تعبيرها عن حقائق حياته وأحلامه وكوابيسه. وأن الأفلام الجيدة تصبح جيدة حين يعترف بها القليلون من العاملين بمجال السينما، والمتحكمين في صناديق التمويل والتسويق، حتى وإن كانوا جهلة بالسينما، ولجان التحكيم في مهرجانات أغلبها لا جمهور به من الأساس. جمهورها الوحيد ممن يعيشون في فقاعة نخبوية، يعيدون داخلها مضغ وهضم ما تم مضغه وهضمه آلاف المرات خلال تاريخ السينما الطويل.

خارج هذه الفقاعة الأخيرة، تدرك كوثر بن هنية مسألتين؛ الأولى قيمة الصوت والوثيقة في السينما. بل إن فيلمها يحاول العودة، ولو قليلًا، لأصل السينما؛ الوثيقة والحقيقة. والحقيقة هنا مُجسَّدة بموجات صوتية على شاشة كمبيوتر تسجل الصوت المفزوع لهند رجب، وكلمات من يحاولون إنقاذها، ويعدُونها بأنهم سيظلون معها للنهاية. فهذه هي أمنية هند الوحيدة؛ ليست الحياة أو السعادة، بل مجرد ألَّا يتركوها بمفردها، فهي تخاف الليل، بكل ما يمكن أن تحمله كلمة الليل من معانٍ.

المسألة الأخرى التي تدركها المخرجة، وتشير إليها في كلمات تقديمها للفيلم، وندركها نحن المتفرجين والمستمعين لصوت هند الحقيقي، أن صوتها استعارة رمزية لصوت غزة وفلسطين. إنه صوت الاستغاثة الضائع في عالم مزدحم، وضوضائه عالية. استغاثة تقابلها محاولات للوصول والإنقاذ والصحبة وإيقاف الإبادة، من دون جدوى. فغزة مثل هند، وحيدة، داخل فقاعة مفصولة عن بقية فقاعات العالم بمئات من السنوات وأميال لا تُحصى. على الرغم من أنها واقعية، ومعاصِرة، وقريبة جدًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.