تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
يتلازم فيما يتعلق بفلسطين، فعل الاحتجاج مع الاحتفال الكرنفالي

فلسطين بين الدم والكرنفال

منشور الأربعاء 15 تشرين الأول/أكتوبر 2025

تشكلت صدمتي الأولى من طبيعة الاحتجاجات الأوروبية، مطلع 1999، عندما ذهبت لمظاهرة في الميدان الرئيسي في مدريد أغلب من فيها من التشيليين واللاتينيين، بالإضافة لكثير من الإسبان، مُلتفّين حول سماعات ضخمة تبث مباشرة جلسة محاكمة سفاح تشيلي الجنرال بينوشيه في لندن. وفوقنا، ترتفع صور الضحايا والمختفين بعد الانقلاب العسكري ضد حكم سلفادور الليندي وقصف القصر الرئاسي، في 11 سبتمبر/أيلول 1973.

في هذه المظاهرة التي ضمت منتمين لتيارات يسارية وديمقراطية حضر البكاء، والضحك، والرقص، والبيرة والنبيذ. لم أفهم هذا المزيج وقتها، فأنا آتٍ من بلاد التظاهر فيها مغامرة بالأمان الشخصي، وفعلٌ يتطلب الجدية البالغة، والأخذ في الحسبان احتمالية الاعتقال أو الاعتداءات البدنية. وبينما أبكي فرحًا لقرار احتجاز بينوشيه ومنعه من مغادرة الأراضي البريطانية حتى انتهاء محاكمته، بدأت في فهم تعايش فعل الاحتجاج مع الاحتفال الكرنفالي، وكيف يجتمعان سويًا.

مفارقات الأيقونة الفلسطينية

جانب من مظاهرة نظمها طلاب كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن لإحياء ذكرى النكبة، 15 مايو 2024

نوعان من المشاهد ارتبطا باسم فلسطين وحضرا بكثافة خلال الشهور الأخيرة. ظهرا منذ الأيام الأولى لهذه الحلقة من الإبادة بعد السابع من أكتوبر. ومع امتدادها وتوسعها، ازداد حضورهما، وظهر أكثر فأكثر التناقض بينهما.

النوع الأول مشاهد الدم؛ بشر بملابس ممزقة يكسوهم الغبار، جائعون ومشردون، وعلى وجوههم رعبٌ من موت يلامس جلودهم حرفيًا لا مجازًا. وعلى الجانب الآخر، بالذات في إنستجرام وتيك توك وغيرهما من التطبيقات الشبيهة مشاهد تنتسب لعالم الموضة أو الإغواء واستعراض الأجساد، لأناس يلمعون، يُبرِزُون جمال أجسادهم، يعبِّرون عن بهجة حقيقية أو مصطنعة، وهم يرتدون ما ينتسب لفلسطين؛ كوفيات، جلاليب نسائية تقليدية فلسطينية بعد إدخال تعديلات عليها، أكسسوارات، وغيرها.

هذا النوع الأخير من المشاهد؛ الإغواء والكرنفالية، تستفز المتابعين عن قرب للمأساة الفلسطينية ووتيرة القتل والتجويع والتعطيش لقطاع واسع من الشعب الفلسطيني. لكن البشر، هؤلاء المتابعين، لا يمكنهم في المقابل استكمال حياتهم اليومية، الطبيعية أو شبه الطبيعية، إن اكتفوا برؤية الدم والغبار والهياكل العظمية للأطفال الناجين، مؤقتًا، مجرد مؤقتًا، من المقتلة. وعلى العكس، يُفرّغ الإغراقُ في تأمل الحالة الكرنفالية، حالة اللمعان، المأساةَ من حقيقتها، يُدخلها عالم الفانتازيا الأنيقة الجذابة. فنتناساها وتتعود أعيننا على ما هو مُغرٍ، ومُغوٍ، و"جميل".

المفارقة هنا، أن النوعين المتناقضين من المشاهد امتزجا في منطقة ما، حيث تحضر استعارة الدم والتذكير به، في أجواء من الاسترخاء، أو الاحتفال، أو الكرنفالية، مع الابتسامات والضحك والأناقة، وربما الإغواء والعلاقات التي تنشأ بين الناشطين والناشطات، والحديث خلال تظاهرات التضامن عن أي شيء، وليس بالضرورة عن فلسطين. وكأنه مفتتح عملية استخدام أدوات عصرية تناسب العالم السطحي المهتم بالصورة، والمهووس بتجميل المحتوى. أدوات كانت قبل قليل حكرًا على قوى اليمين والطبقات العليا الحاكمة.

إنها هذه المنطقة تحديدًا التي اتسعت، وحضرت في شوارع عشرات المدن في العالم خلال الشهور الأخيرة، وتحولت لموجة تتسع كل يوم، وكان محتملًا أن تتحول لانتفاضة عالمية ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وضد الأنظمة التي لا تتخذ مواقف واضحة ضد الإبادة وممارسيها، لصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية الثابتة، جاعلةً من فلسطين أيقونة ورمزًا عالميًا.

ولأن هذه المنطقة تمتزج فيها الحياة الطبيعية بالغضب، اكتسبت طاقةً للاستمرار شكَّلت الخطر الذي دفع السياسيين خلال الأيام الأخيرة للتحرك العاجل، والعمل لوقف الإبادة ولو مؤقتًا، في محاولة لقطع الطريق أمام التجذر والوضوح، وكي يعود الغاضبون، الذين بدأوا في مواجهة قوات الشرطة، لبيوتهم.

الأسئلة الجوهرية أكثر اتساعًا من هذا السؤال التبسيطي السائد؛ انتصرت المقاومة في غزة أم هُزمت؟

يقولون إن أسطول الصمود كان نقطة التحول العالمية، أو العامل الحاسم الذي دفع لإيقاف الإبادة، ومحاولة التوصل لاتفاق. لكن هذا القول غير صحيح في تقديري. فالأسطول الذي استطاع جَمْع النقيضين؛ ما ينتسب لعالم الكرنفال والاحتفال، وما ينتسب لعالم الدم، كان نقطة الذروة في هذه الموجة العالمية، الأكبر منذ حرب فيتنام، لدعم الشعب الفلسطيني، وهي التي كان لها، وليس للأسطول، التأثير الحاسم.

ربما كانت عبقرية لحظة أسطول الصمود، وطبيعته، وتشكيلته، أنها عبَّرت عن جوهر طريقة الاحتجاج الأوروبية، وحوّلت مجراها لصالح فلسطين. فالأوروبيون في مظاهرات الاحتجاج، ولأنها غير ممنوعة، ولأنها عادة لا تتضمن المواجهات وقنابل الغاز وربما الرصاص، مثلما يحدث في بلداننا، لا تكتسي وجوههم بتعبيرات الغضب المفرط، أو التأثر أو البكاء الحزين. فربما تُرفع أكثر الشعارات راديكاليةً، ويتلازم البكاء تأثرًا مع إمساك علب البيرة والابتسام والرقص أيضًا. فيتحول الاحتجاج لطقس يومي لا يتعارض مع الحياة العادية، ولا يعوقها.

استعدت صدمتي الأولى في ذلك العام البعيد، 1999، في مظاهرة محاكمة سفاح تشيلي، بعد عقدين ونصف العقد، في زمن صورة السيلفي، والموضة، والسوشيال ميديا؛ كمحاولة لتجنب أي معايير أخلاقية للحكم على هذه الظاهرة، بل دفعًا باتجاه ضرورة رصدها، وفهمها، ومن ثَمَّ كيفية التعامل معها. فنعم، في قواربنا المشكلة لأسطول الصمود تجاورت ممارسة الحياة العادية، بما فيها الملل، مع قليل من الاحتفال، مع الإصرار والحزن والغضب.

أسئلة اللحظة المخادعة

مظاهرة حاشدة لدعم غزة في لندن- 21 أكتوبر 2023.

الأسئلة الجوهرية أكثر اتساعًا من هذا السؤال التبسيطي السائد، الذي يُفجر العراك والخصومة، سواء في دوائر المهتمين بالسياسة، أو المتابعين للمأساة الفلسطينية من خارج فلسطين؛ انتصرت المقاومة في غزة أم هُزمت؟ الأسئلة الجوهرية والصعبة الآن تتعلق بفهم اللحظة، لندرك ما سيتبعها؛ لماذا أوقفوا هذه الحلقة من الإبادة فجأة؟ لماذا ذهبوا للتفاوض والجلوس في قاعة على بعد أمتار من هذا "العدو الإرهابي" الذي زعموا أنهم أنهوا وجوده خلال عملية إبادة استمرت عامين؟ ولماذا يُعرِّضون الداخل الإسرائيلي لخطر الانقسام والمواجهة فجأة؟

إنها أسئلة تتعلق في جوهرها بمستقبل المقاومة نفسها. ولا أقصد هنا المقاومة الفلسطينية المسلحة متنوعة الفصائل في قطاع غزة أو الضفة الغربية. بل المقاومة بمعناها الأوسع؛ مقاومة الفلسطينيين، ومقاومة كل المنحازين للحق الفلسطيني، لوجود دولة إسرائيل. هذه المقاومة انتشرت في كل أنحاء العالم خلال الشهور الأخيرة، وإن انحصرت في أفعال بسيطة، بدايةً من الأزياء، الصور الجاذبة، السجاجيد الحمراء في مدخل مهرجان سينمائي، تعليق علم فلسطيني في شرفة بيت أوروبي، السير لساعة في مظاهرة، وصولًا لركوب القوارب من أقصى غرب البحر المتوسط لشرقه، وتعريض الحياة للخطر أو للاعتقال طيلة أكثر من شهر.

قبل أسبوعين، تحديدًا مساء يوم الأربعاء 1 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وبمجرد نشر الأخبار الأولى عن بدء اقتحام قوات الكوماندوز الإسرائيلي للقوارب الـ44 الباقية من أسطول الصمود في المياه الدولية، وبداية عملية اعتقال المشاركين، خرج تلقائيًا الآلاف للشوارع احتجاجًا على هذه الجريمة الجديدة. خرجوا في مدن أوروبية وآسيوية وإفريقية ولاتينية مختلفة. وفي الأيام التالية تصاعدت الحركة؛ إضرابات واسعة لطلاب الجامعات والمدارس الثانوية والعمال. مظاهرات حاشدة في مدن مختلفة؛ روما، مدريد، برشلونة، لندن، باريس، وغيرها. وصلت أعداد المشاركين في بعضها -مدريد على سبيل المثال- لما تجاوز في أقل التقديرات؛ المعادية منها، لأكثر من مائة ألف شخص، أغلبهم من الشابات والشباب، وقطاعات واسعة منهم لم يتظاهروا أبدًا من قبل.

خرج كل هؤلاء للشوارع كرد فعل على جريمة قرصنة الأسطول، بعد أن كان خلال أكثر من شهر رمزًا لمجمل حركة التضامن العالمية المتصاعدة مع فلسطين. خرجوا رفضًا لوجود دولة إسرائيل، وليس رفضًا لحكومتها، ورفضًا كذلك لليمين الأوروبي، سواء كان في صفوف المعارضة أو الحكم، بعد أن اعتاد تشويه حركة التضامن والأسطول والشعب الفلسطيني "الإرهابي"، والسخرية منهم، والهجوم عليهم، وترويج الشائعات والأكاذيب عنهم.

تبلورت هنا لحظة الإدراك والوعي الجديد بأن أي حاكم أو حاكمة أوروبية أو أمريكية من اليمين، في روما أو مدريد أو واشنطن، مكانه في السلة الطبيعية نفسها مع حكام إسرائيل، كحليف لآلة القتل الإسرائيلية وخادم وممول لها. مثلما يوضع كل المتضامنين مع الشعب الفلسطيني في جانب آخر، مع الفلسطينيين، ومع حقهم في الحياة والحرية.

لم تغب الحالة الكرنفالية، الاحتفالية، حالة الأناقة عن هذه الاحتجاجات. ولم يغب عنها كذلك الوضوح والجذرية. فلم ترفع فقط شعارات وقف الإبادة، أو الإفراج عن المشاركين في الأسطول، أو شعارات أن الأسطول خط أحمر، بل سادت قبل كل ذلك شعارات أكثر شمولية، ترفض نعت المقاومة بالإرهاب، وتؤكد أن حلم الدولة الفلسطينية هو أن تكون دولة ديمقراطية من النهر إلى البحر، على كامل أرض فلسطين التاريخية.

سمعنا كثيرًا بينما كنا على قوارب الأسطول، أو بعد الوصول للبر، أن أسطول الصمود حركة رمزية. وبعض هذه التعليقات تضع الرمز في مرتبة أقل من العمل السياسي. لكن الرمزيات، الكوفية حول أكتاف من ليسوا فلسطينيين، والأعلام المعلقة في شرفات البيوت، والرقص الفلسطيني في التظاهرات، وركوب قوارب في البحر عليها علم فلسطين باتجاه غزة؛ كل هذه الرمزيات مجتمعة تصنع السياسة. حتى وإن لم نعرف بعد ملامح هذه السياسة المقبلة، أو ملامح المقاومة في الزمن القادم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.