سيأتي يومك أيها اليهودي
متى تتحقق آخر كلمات أدولف أيشمان؟
تصدُق مقولة "الكِتابُ يُقرأ من عنوانه" على كتاب من بغداد إلى أكسفورد.. آفي شلايم وتفكيك الرواية الإسرائيلية للشاعرة العراقية أمل الجبوري. هذا عملٌ يدلُّ عليه عنوانه، كما يُقرأ من صورة فوتوغرافية التُقطت عام 2024 لبطل الكتاب المؤرخ "المزعج" آفي شلايم بجوار الملصق الشهير "زيارة فلسطين" الذي صممه الفنان النمساوي فرانز كراوس عام 1936 لجمعية تطوير السياحة في فلسطين.
في ذلك الوقت كانت كلمة "إسرائيلي" تعني في مصر أنه يهودي الديانة، لا أكثر ولا أقل. ثم قرَّر الغرب العلماني أن يجعل الدين جنسية، وأن يمنح الصهاينة وطنًا. ولا يعلق شلايم على جدران بيته في أكسفورد إلا بوستر "زيارة فلسطين".
كنت شاهدًا على توجُّس ناشرين مصريين وعرب من كتاب "من بغداد إلى أكسفورد.. آفي شلايم وتفكيك الرواية الإسرائيلية"؛ إما خوفًا من الاتهام بالتطبيع لأن شلايم إسرائيلي وإن غادر فلسطين المحتلة، ولا يرحب بعودته جيش الاحتلال. وإما تفاديًا لغضب أنظمة خليجية أسست علاقات كاملة مع العدو، وسوف تمنع دخول الكتاب، وقد تُعاقب الناشر بالمنع من الاشتراك في معارضها الباذخة.
والناشر في نهاية الأمر رأسمالي صغير لا يغامر. وكما تأخَّر نقض الرواية الصهيونية، ثم جاء تفكيكها من داخل الأرشيف الإسرائيلي على أيدي مؤرخين إسرائيليين، فلا تعدم الحقيقة مَن يؤمن بها، ويراهن على نشرها، مهما تكن الخسائر المادية. هكذا صدر الكتاب عن دار لندن للطباعة والنشر وجولدن بوك للنشر في العاصمة البريطانية.
بطل من ورق
كتاب كاشف ينطلق بطله شلايم من موقع اليهودي العربي الذي اختبر النكبة من جانبها الآخر، ولم ينسَ عنصرية مورست على أهله العراقيين وتنمُّرًا تعرض له صبيًّا، بعد ترحيلهم القسري إلى إسرائيل. وقرر ألا يكون شاهد زور على التاريخ، بعد أن أتيح له الاطلاع على الأرشيف الإسرائيلي، وقراءة الرواية الحقيقية المسكوت عنها.
اختار بشجاعة أن ينحاز إلى الوعي البديل، وأن يسهم في تأسيسه من منظور معرفي إنساني، وأن يعلن "مسؤولية أخلاقية للوقوف مع الفلسطينيين في نضالهم من أجل الحقيقة، والحرية، والاستقلال، والعدالة"، وسلاحه في هذا الاختيار أن يفند آثار آلة التسويغ الصهيونية، ويؤكد أن وجود إسرائيل خيانة صريحة للقيم الإنسانية.
الكتاب أشبه بقذيفة تتعدد انشطاراتها، ومن هذه الانشطارات أختارُ قصة قصيرة لم أقرأها فيما أتيح لي من كتب الجاسوسية الخاصة بالموساد. يروي شلايم واقعة تجنيد الطالب العراقي إبراهيم حمامة، وابتعاثه للدراسة بجامعة الأزهر قبيل عدوان يونيو/حزيران 1967. قصة حمامة، وأنشطة الموساد ذات الطابع الدامي في حق العرب، تقرّب يومًا توعّد به النازي التافه أدولف أيشمان غريمه الصهيوني رفائيل إيتان.
جرى اصطياد أيشمان من مخبئه الأرجنتيني، وحُوكم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. الفيلسوفة الألمانية حنَّا آرندت حضرت المحاكمة، وابتكرت اصطلاح تفاهة الشرّ، واصفة أيشمان بالضحالة، نافية عنه أصالة الشر، فقدْ مارسَ جرائمه بأسلوب وظيفي بيروقراطي، لا يتعاطف مع مَن يسوقهم إلى معسكرات الموت ولا يكرههم.
لكن السموم النازية المتسربة إلى الضحايا اليهود جعلتهم وحوشًا، يبالغون في السادية تجاه الفلسطينيين العزل. بعد 7 أكتوبر 2023، تباهى بعض مَن ارتكبوا جرائم في النكبة بالمشاركة في محو قرى فلسطينية، والتلذذ بإفراغ بقايا الذخيرة في جثث النساء والأطفال. أيشمان كائن بليد، ذو أداء آلي يشبه الضواري التي تُشبع غريزة الجوع، ولا تستثمر قوتها في تعذيب الفرائس، ولا تمارس عليها أي نوع أو درجة من السادية. أما النازيون الجدد في فلسطين المحتلة فهم أكثر توحُّشًا، يستمتعون بسلخ ضحاياهم.
هذا كله يقرّب اليوم الذي توعد به أيشمان، ففي 31 مايو/أيار 1961 نظر إلى رافي إيتان، في غرفة الإعدام، وقال "سيأتي اليوم الذي تلحقني به، أيها اليهودي". ردَّ إيتان "ليس اليوم يا أدولف، ليس اليوم".
الواقعة ذكرها جوردون توماس في كتابه المرعب جواسيس جدعون.. التاريخ السري للموساد. في مقال نشرته في المنصة بعنوان يونيو المصرية ويونيو الإيرانية.. العضلات والمعرفة ذكرتُ منه جانبًا يخصُّ اختراق الجبهة المصرية وانكشافها قبل عدوان 1967.
جاسوس الأزهر
لا تتهاون إسرائيل في الثأر، ولا تتورع عن ممارسة إرهاب الدولة، وترهن سمعتها بقدرتها على انتقام يشمل الضحايا الفلسطينيين الذين يحميهم القانون الدولي، ويمنحهم حق مقاومة الاحتلال. في صفحة جرائم العدو أسماء أسرى مصريين في عدوانَي 1956 و1967، صفحة مطوية عن أسرى دفنوا في مقابر جماعية في سيناء، وحرقت جثثهم. كما يتباهى العدو بجرائم سيف جدعون الذي حصد مدنيين منهم عالم الذرة المصري يحيى المشد، في باريس. تفاصيل الجريمة يوردها توماس في الكتاب الذي يشعر قارئه بأنه مكشوف تمامًا.
باستثناء حكاية العراقي إبراهيم حمامة في جامعة الأزهر، لا يكاد كتاب توماس يفلت شيئًا. صدر الكتاب في نيويورك عام 1999، وفي السنة نفسها صدرت ترجمته التي شارك فيها الفلسطيني أحمد عمر شاهين والمصري مجدي شرشر.
تكاد الطبعة الثانية أن تكون ضعف حجم الأولى، وصدرت عام 2007 في بيروت، وترجمها مروان سعد الدين، وأضاف إليها فصولًا تالية لما بعد الخلاص من صدام حسين، وذكر أن الولايات المتحدة "تنفق 40 مليار دولار سنويًّا على الاستخبارات"، وأن إسرائيل تنفق رقمًا أقل من الراعي الأمريكي، وأن الرقم سيرتفع "في كلا البلدين في السنوات القادمة"، وأن الموساد سيعمل "بأسلوب أكثر فتكًا... لا يزال جهاز الاستخبارات الوحيد الذي يمتلك وحدة اغتيالات مجازة رسميًّا".
فاتت جوردون توماس حكايةُ "جاسوس الأزهر" التي يوثقها آفي شلايم المولود في بغداد عام 1945. في سنِّ الخامسة، أُكرهت عائلة شلايم على الترحيل إلى إسرائيل. يذكر أنهم كانوا سعداء في العراق، جذورهم عراقية، ويندمجون في المجتمع المتسامح، ويتكلمون العربية في المنزل. لا علاقة لهم بالصهيونية، ولا بالكيان الجديد الناهض على جثة الدولة الفلسطينية التاريخية.
إبراهيم إلياهو حمامة "جاسوس الأزهر" ابن ريجينا خالة شلايم. حكايته دالة على آثار قهر وتهميش اجتماعي واستغلال استخباري مارسه الصهاينة على البعض من اليهود العرب. ولم يجد يهود العراق، الذين سِيقوا إلى إسرائيل، فرصًا للعمل أو الاندماج. ورأى الموساد استغلال ملامح الشاب، وإتقانه التام للغة العربية وإلمامه بثقافتها، فأعدَّه لمهمة جاسوسية، واختار له أكثر البلاد العربية تهديدًا لإسرائيل.
"فُرض عليه قبول هذا الدور، لا بوصفه خيانة، وإنما باعتباره المخرج الوحيد الممكن للاندماج الاجتماعي والاقتصادي". حمامة وأمثاله، كما يرى شلايم، استثناءات نادرة في صفوف يهود العراق الذين عانوا محنتَي التهجير والتهميش في إسرائيل، وظلوا أوفياء لتراثهم العربي.
الصهيونية القاسية
من وثائق أرشيفية وشهادات عائلية، يسجل شلايم تفاصيل حكاية إبراهيم المتمكن من ثقافة عربية إسلامية أهّلته، ببراعة، لأداء دور العراقي المسلم الباحث في العلوم الدينية. وتقدَّم بطلب للدراسة في جامعة الأزهر، واندمج في المجتمع الطلابي، وكوَّن علاقات متينة مع مواطنين مصريين، منهم "أفراد في سلاح الطيران". ثم تطورت العلاقات إلى مستوى من الثقة والصداقة أتاح له "معلومات حساسة ودقيقة حول سلاح الجو المصري".
بحسب رواية شقيق إبراهيم، كما يوردها شلايم، فإن هذه المعلومات لعبت دورًا "بالغ الأثر في الهجوم الإسرائيلي المفاجئ على المطارات والقواعد الجوية المصرية"، في عدوان يونيو/حزيران 1967.
في إسرائيل الآن يقيم يهود مجلوبون من أوروبا، ينتمون إلى اليسار الأليف، بالأدق اليسار المخصيِّ. أقصى ما يشعرون به هو التعاطف القلبي مع مأساة الفلسطينيين المتمثلة في الإذلال على الحواجز، واستمرار ضم الأراضي وإقامة مستعمرات لمجلوبين جدد من الشرق والغرب، ومنع الفلسطينيين من حق العودة الذي يكفله القانون الدولي. هذا الفصيل من اليساريين يتبنى صهيونية ناعمة تحسّن وجه إسرائيل.
أما شلايم فيربط الجذور بالثمار، ويرى تفجيرات بغداد خلال، عامي 1950 و1951، أكثر تمثيلات "الصهيونية القاسية". ولا تقل الصهيونية قسوة باستخدام أبناء الطائفة اليهودية أدواتٍ في تنفيذ المشروع الصهيوني. وتعلق المؤلفة الدكتورة أمل الجبوري الأستاذة في قسم دراسة الأديان والفلسفة في جامعة لندن قائلة في الكتاب إن شلايم "يُدرج ضمن هذه السردية الموجعة حكاية قريبه إبراهيم حمامة".
في تاريخ الكيان الصهيوني استثناء نادر. بنوا فرنًا خاصًّا لحرق جثة أيشمان، ونثروا رماده في مساحة واسعة من البحر؛ لمحو أي أثر يجعل المتعاطفين يحولونه إلى معبود نازي. لكن كلماته الأخيرة تظل وعيدًا. سوف يأتي يوم لمحاكمة مجرمي الحرب. رافي إيتان، بغطرسة المنتصر، قال "ليس اليوم يا أدولف، ليس اليوم". ولم يقل: لن يكون!
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.