
"يونيو المصرية" و"يونيو الإيرانية".. العضلات والمعرفة
بين يونيو 1967 ويونيو 2025 مشترك كارثي، جسورٌ تخفي تفاصيل أكثر خطورة من المعلن. المفاجأة واحدة والعدو واحد. انقضَّ في توقيت محسوب بدقة صباح 5 يونيو/حزيران 1967 على المطارات العسكرية المصرية، ودمّر سلاح الطيران. وفي إيران زُلزلت الأرض والسماء فجر 13 يونيو باستهداف منشآت نووية ومصانع حربية ومنظومات دفاعية، واغتيال علماء نووّين وكبار القادة العسكريين.
في مصر هُجِّر أهالي مدن قناة السويس. في قريتي سمعتُ اصطلاح "المهاجرين" القادم من فجر الإسلام. أشرف زميلي في المدرسة كنا نسمّيه "ابن المهاجرين". وفي طهران أخبرتني صديقتي أن أسرتها غادرت العاصمة مع المغادرين، صاروا مهاجرين من عاصمة مقصوفة. القضية أكبر من حرب نفسية يخوضها العدو بشراسة.
في عام 1967 تعرّضت مصر لهزيمة قاسية من دون أن تحارب. متى أعلن عدوّ عن موعده؟ لكن جمال عبد الناصر قال "انتظرناهم من الشرق فجاؤوا من الغرب"، من القاعدة العسكرية البريطانية ومن قاعدة ويليس الجوية الأمريكية في ليبيا. قررت أمريكا إسقاط نظام عبد الناصر الذي ساندته عام 1956، لولا حشود رفضت تنحّي الزعيم، فاجأته وأدهشت أعداءه. من إيجابيات الهزيمة أنها أنهت، من ضمن ما أنهت، عصر الارتجال وإدارة المؤسسات بالعشم والجدعنة، ووضعتنا أمام تحدي عصرٍ جديد، حتى إن عبد الناصر تحدث بعد الهزيمة عن استخدام العدو "كل معدات الحرب الإلكترونية".
وردية النهار لم تستعد
دولة المخابرات، التي أعلن عبد الناصر سقوطها بعد الهزيمة، من ثمارها المرّة مشهد هزلي رسمه عبد الفتاح أبو الفضل في مذكراته كنت نائبًا لرئيس المخابرات. في 22 مايو/أيار 1967، عاد أبو الفضل من مؤتمر شعبي بالعريش، بحضور الشاعر محمود حسن إسماعيل، وتوقف في القنطرة شرق المطلة على قناة السويس، ورأى فوضى "يعجز الإنسان عن وصفها" في محطة تنتظر بها قوات الاحتياط، "والمفروض أنها على وشك الاشتراك في الجبهة. كان الكل في ملابس مدنية ومعظمهم بجلابيبهم الريفية ويحملون بنادقهم... جُمعوا من قراهم على عجل ودون أي ترتيبات إدارية، وتسلموا أسلحتهم فقط... وشُحنوا في السكة الحديد كالدواب دون أي تجهيز أو ترتيب إداري من مأكل أو مشرب أو راحة. كانوا يتدافعون لشراء طعامهم من الباعة الجائلين بالمحطة في فوضى شاملة... حشد هائل من الشباب والرجال الضائعين نتيجة إهمال واستهتار سلطات القوات المسلحة بآدميتهم».
أمثال هؤلاء الجنود المساكين لا يعرفون "الحرب الإلكترونية"، فماذا عن الضباط؟
في تلك الفترة رصد العدو تفاصيل تقوم بها حاليًا الموبايلات الذكية التي ترصد مكان صاحبها. ومن تحليل البيانات يمكن معرفة الرغبات والانحرافات والعادات والتفضيلات والعلاقات الشخصية. في كتابه جواسيس جدعون: التاريخ السري للموساد، سجل جوردون توماس أن إسرائيل قبل الحرب أحاطت بكل التفاصيل الخاصة بقادة الجيش وضباطه، خصوصًا الطيارين، بما في ذلك "ميولهم الجنسية... وهل وصلوا إلى رتبهم بمقدرتهم أو بالوساطة". وأُرسلت من القاهرة خطابات مجهولة إلى بيوت ضباط، فقرأت زوجاتهم اتهامات للأزواج الذين توالى حصولهم على إجازات مرضية؛ ليتمكنوا من حل مشكلاتهم الأسرية. "وتلقى ضباط أركان الحرب مكالمات هاتفية مجهولة تقدّم تفاصيل عن حياة الشريك الخاصة. وتكلمت امرأة بصوت متعاطف مع مدرّس لتخبره أن السبب الوحيد لتراجع نتائج إحدى الطالبات هو أن والدها ـ الضابط رفيع المستوى ـ على علاقة جنسية برجل آخر؛ وقام ذلك الضابط على إثر المكالمة بإطلاق النار على نفسه. سبّبت هذه الحملة القاسية شقاقًا في الجيش المصري".
ماذا عن معرفتنا بالعدو؟
يجيب خالد منصور في كتاب في تشريح الهزيمة، نقلًا عن تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية، بتصريح منسوب إلى زكريا محيي الدين عن الفشل الاستخباري المصري، إذ كان الموساد يعرف اسم كل ضابط مصري بل اسم زوجته، "بينما لم تكن المخابرات المصرية تعرف أين يسكن وزير الدفاع موشي ديان".
استئساد أجهزة الأمن على المواطنين أعماها عن وجود "إما عميل عربي أو أحد رجال الموساد في كل قاعدة جوية مصرية أو رئاسة للأركان، وعلى الأقل كان هناك ثلاثة منهم في رئاسة الأركان العليا في القاهرة"، كما كتب جوردون توماس، استنادًا إلى رؤية مدير الموساد آنذاك، مائير أميت، أن عميلًا ميدانيًا جيدًا أفضل من فرقة من الجنود. ورسم الموساد مخططًا دقيقًا لسير العمل في القواعد الجوية.
كيف استطاعت خلايا الموساد إمداد العدو بكل هذه المعلومات؟ ومتى صُنِّعت وأخفيت هذه المسيّرات؟
حددوا الوقت الحرج لوحدات الرادار بين 7:30 و7:45 صباحًا. خلال هذه الدقائق تكون وردية الليل منهكة، ووردية النهار لم تستعد، "وتتأخر قليلًا بسبب بطء الخدمة في قاعات الطعام"، وبعد الإفطار يمشون نحو عشر دقائق إلى الثكنات، لإحضار معدات الطيران، "لكن معظمهم يقضي بضع دقائق إضافية في دورات المياه. فيصلون في الثامنة تقريبًا". أما القادة فلا يكونون على مكاتبهم قبل الثامنة والربع، "ويضيعون عشر دقائق أخرى في شرب القهوة والدردشة". وفي 5 يونيو 1967، قام العدو "بضربته المميتة في الثامنة ودقيقة واحدة".
عدوان 5 يونيو عملٌ معقد، أعدّه العدو ورعاته وخصوصًا الأمريكان. لم يكن ردًّا على قرار عبد الناصر بإغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية. أرادوا إسقاط النظام؛ فصحح المسار. أفاق النظام وأبعد الجيش عن السياسة، واقتصرت مهامه على الواجبات القتالية، على أيدي عسكريين محترفين في مقدمتهم عبد المنعم رياض ومحمد فوزي وسعد الدين الشاذلي. واستبدل بالمشهد الذي وصفه عبد الفتاح أبو الفضل، تجنيد متعلمين استعدادًا لخوض حرب التحرير.
"السكان" في الملاجئ
ما أشبه ليلة يونيو الإيرانية 2025 بصباح يونيو المصري 1967. لا أقصد المباغتة، وإنما دقة رسم ملامح المشهد، وتحديد العدو للأهداف، وتزامن توجيه طائرات مسيّرة إلى مؤسسات مدنية وعسكرية، وإلى علماء وقادة. كيف استطاعت خلايا الموساد إمداد العدو بكل هذه المعلومات؟ ومتى صُنِّعت وأخفيت هذه المسيّرات الانتحارية، وأُطلقت من العمق الإيراني نحو أهدافها؟
أسئلة ستجيب عنها التحقيقات، بعد انتهاء الحرب التي أثبتت أن العدو قابل للهزيمة، وأن نهايته محتملة مع أي خلخلة في موازين القوى العالمية، وأن رعاته سيتخلّون عنه حين تصبح تكلفة بقائه عليهم أكثر من فوائده لهم. ربما تصدق مقولة أرنولد توينبي الذي حدد عمر الكيان العسكري الصهيوني بمائة سنة.
نجاح الضربة الإسرائيلية، فجر 13 يونيو، يثير التساؤل عن ثنائية العضلات وسلطة المعرفة. كسبت إسرائيل جولة أولى، وقبل أن تفيق من نشوة التفوّق لم تمهلها إيران، وتوالت ضرباتها الصاروخية التي ستجعل قادة الاحتلال الصهيوني، وكذلك "الشعب اليهودي" الذي يتحدثون باسمه، يعيدون النظر في مفهوم الحدود الآمنة. وإلى أي مدى تصلح الأرض المحتلة، الممنوع شعبها من حقه في العودة إليها، وطنًا؟
العملية الإسرائيلية، فجر 13 يونيو، استهدفت إسقاط النظام الإيراني، لكنها ارتدّت إلى فلسطين المحتلة، تدفع "السكان" إلى الاحتماء بالملاجئ، تُذكّرهم بتاريخ ظنوا أنه طُوي طي السجل، فإذا به حيٌّ يؤكد أن كل مقيم في فلسطين المحتلة، من غير أهلها، إنما هو هدف عسكري. لا مدنيين من "الشعب اليهودي" في فلسطين. الردّ الإيراني أعاد الآمال في النصر. وأثبت استهداف الولايات المتحدة منشآت إيران النووية، فجر 22 يونيو، استمرار حرب صليبية أعلنها جورج بوش وهو يدمّر العراق عام 2003، والآن يذكّرنا دونالد ترامب بأن أمريكا لا تسمح بقيام قوة كبرى في هذه المنطقة. لا نهاية للتاريخ، ولا للحلم بالنصر. والرهان على الشعوب.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.