مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي
لقطة من فيديو بثه مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لاجتماع بالفيديو بين نتنياهو والرئيس الصوماليلاندي عبد الرحمن عرّو، بعد اعتراف إسرائيل بصوماليلاند، 26 ديسمبر 2025

نتنياهو وصوماليلاند.. أبعد من التطويق وأعقد من الاستفزاز

كيف ولماذا خالف رئيس الوزراء الإسرائيلي التوقعات وبادر إلى اعتراف سيرفضه ترامب؟

منشور الثلاثاء 30 كانون الأول/ديسمبر 2025

في خريف 2024، وبينما اتَّجهت كل الأنظار إلى حرب الإبادة الجماعية في غزة بحثًا عن هدنة إنسانية، خاصةً بعد الضربات المؤثرة التي وجهتها الآلة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية إلى رموز وأدوات ما كان يُسمى "محور المقاومة" في إيران ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية؛ كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يبحث مع قيادات جيشه كيفية التصدي بفاعلية لتهديدات الحوثيين وقد بدت موجعة وأقوى مما كان مُتصوّرًا.

في ذلك الوقت كانت تركيا تضع اللمسات الأخيرة على اتفاق تهدئة بين إثيوبيا والصومال يتضمن تعليق اتفاق يناير/كانون الثاني 2024 السابق بين أديس أبابا وحكومة صوماليلاند الانفصالية، شمال غرب الصومال الفيدرالي، لضمان إيجاد منفذ بحري وقاعدة عسكرية لإثيوبيا في منطقة بربرة لـ50 عامًا، مقابل الاعتراف الرسمي بصوماليلاند.

تبين أن الاتفاق الذي رعاه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بنفسه يتضمن وصول إثيوبيا إلى البحر "بأمان" عبر الأراضي الصومالية -أو مكان آخر- واستمرار اعتراف أديس أبابا بوحدة الصومال وأراضيه. ثم أجريت الانتخابات الرئاسية في صوماليلاند وأسفرت عن فوز عبد الرحمن محمد عبد الله (عرّو) من الحزب القومي الصوماليلاندي (ودّأني) بفارق كبير.

بالتزامن مع تلك التطورات، بدأت أصوات مختلفة في الإعلام الإسرائيلي تتحدث عن أهمية التنبّه للاستراتيجية التركية للانتشار في شرق إفريقيا على خلفية تقارب الدين والتقاليد، وتطرح بدائل مثل الدخول في صوماليلاند بصورة فعّالة، لا سيما بعد تعليق التفاهم مع إثيوبيا، وروَّجت بعض الدراسات صراحةً إلى ضرورة استخدام تلك المنطقة الاستراتيجية لـ"تحقيق نصر حاسم" على الحوثيين.

ولم يكن هذا الطرح غريبًا، بل حلقة أخرى من مقدمات الحدث الكبير منذ أيام بإعلان نتنياهو الاعتراف الرسمي بصوماليلاند وإجرائه "لقاءً تاريخيًا" عن بعد مع عرّو، تلاه نشر بيانات من تل أبيب وهرجيسا تتحدث عن التعاون الحتمي والاستثماري في مجالات التكنولوجيا والتنمية والتجارة، والتطلع المشترك إلى علاقة قائمة على "الاحترام والمنفعة المتبادلة والقيم المشتركة".

كل شيء مقابل الاعتراف

عَكَس سلوك صوماليلاند منذ سنوات استعدادها لتقديم أي شيء وكل شيء مقابل الاعتراف الرسمي وفصل مسارها التاريخي عن مقديشيو، أو على الأقل إقامة علاقات تحمل صفة الرسمية، كما حدث مع الإمارات بعد استثمارها في ميناء بربرة وتعيين مبعوث دبلوماسي وتجاري لها في هرجيسا، حتى ولو كان هذا الاعتراف محدودًا وفي شكل وساطة لحل الخلافات مع الصومال الفيدرالي، كما حدث مع تركيا، التي سعت منذ ثلاث سنوات لتسهيل إجراء سلسلة من الجولات التفاوضية.

هذا الاتجاه البراجماتي المتحلل من أي التزامات ناحية أي أطراف إقليمية أخرى في المحيط الإفريقي والعربي عبَّر عنه وزير الرئاسة الصوماليلاندي خضر حسين عبدي في تصريحات حديثة لـ"الجزيرة"، نفى فيها استهداف أي دولة عربية أو إسلامية بالعلاقات مع إسرائيل، لكنه اعتبر أن من الطبيعي أن تتطور العلاقات بوجود إسرائيلي قوي على أرض دويلته؛ أكبر إقليم انفصالي غير معترف به في العالم.

وفي مواجهة تجاهل جامعة الدول العربية مطالبات صوماليلاند المتكررة بالتدخل الناجع في أزمتها مع الصومال الفيدرالي منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1991 على انهيار الدولة المركزية، حاولت الحكومات الانفصالية المتعاقبة إحياء التعاون مع إسرائيل مفتاحًا محتملًا لاعتراف دولي واسع وبصفة خاصة من الولايات المتحدة، على خلفية أن دولة الاحتلال كانت من القلة المعترفة بصوماليلاند خلال خمسة أيام فقط استقلت فيها عن بريطانيا عام 1960 قبل أن تتحدَّ مع الصومال الإيطالي مُكونةً دولةً فيدراليةً موحّدةً لم ترَ الاستقرار يومًا. فيما نعمت صوماليلاند بازدهار وأمن ملحوظين.

تستعين هرجيسا بتلك السردية للتدليل على أن حكومات المنطقة أهملتها لصالح دعم دولة هشة وفاشلة غير قابلة للتوحّد.

وعلى مدار عقود، اقتصر الوجود العربي والإسلامي الرسمي في الإقليم على إنشاء المدارس الدينية وبعثات تعليم اللغة العربية، كما يستضيف الأزهر عددًا كبيرًا من الطلاب سنويًا. لكن لم تقدم أي دولة عربية كبرى، ولا جامعة الدول العربية بطبيعة الحال، أي مقاربة فعّالة للقضية، فسنحت الفرصة لتدخل قوى مختلفة على رأسها إسرائيل.

الصهيونية وتطويق الهدف

الأهداف الصهيونية للوجود الرسمي في صوماليلاند يجب قراءتها من منظور استراتيجي وجيوسياسي استثنائي، على رأسها الوجود في منطقة مضيق باب المندب التي تزيد أهميتها التجارية والأمنية باطِّراد، ثم تأمين مركز عسكري واستخباراتي واقتصادي نشيط بالقرب من اليمن والسودان وإثيوبيا ومنابع النيل، ورفع قدرتها على تحركاتِ مساومةِ منافسيها الإقليميين ومواجهتهم من ناحية، ومن ناحية أخرى تقديم الخدمات لحلفائها الكبار وعلى رأسهم الولايات المتحدة أو أي دول أخرى تبحث عن مصالح محدودة أو مؤقتة.

وقد يعتقد البعض أن وضع مصر ليس جوهريًا في هذا التحرك، غير أن الحقيقة الدامغة تكمن في تضررها المباشر من دخول إسرائيل إلى منطقة على مقربة من أديس أبابا صاحبة السجل غير المريح في استخدام وسائل ضغط مختلفة على القاهرة، خاصة وأن نتنياهو اليوم يكرر بالضبط ما استنفر الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ عامين تقريبًا، ودَفَعه إلى توقيع بروتوكول تعاون عسكري وأمني رفيع المستوى مع الصومال ثم إعلان ترفيع العلاقات، والتلويح بتطبيق ميثاق الجامعة العربية للدفاع المشترك للتصدي لأي تهديد "مش بنهدد حد لكن لن نسمح لأي طرف يهدد الصومال".

تجدر الإشارة هنا إلى أن وفودًا رسميةً مصريةً سبق وزارت هرجيسا لبحث التعاون المشترك وتقديم المساعدات في مجالات خدمية وثقافية مختلفة، وكان آخرها في مايو/أيار 2019، لكن الموقف الرسمي ظل ثابتًا مع وحدة أراضي الصومال.

نحو تنسيق ثلاثي

من المُرجَّح أن يُشكَّل دعم إسرائيل لصوماليلاند عاملَ جذبٍ جديدًا لإثيوبيا لإنعاش اتفاق المنفذ البحري، أو على الأقل الشروع في أنشطة تشاركية في المجالات الاقتصادية والأمنية، مما يسهم في جعل المنطقة بالتدريج محورًا آخرَ لجذب الاستثمارات الدولية وتقوية الإقليم الانفصالي بصورة تحوله إلى دولة قائمة بحكم الأمر الواقع/de facto state تتوافر فيها فرص الحياة وكل شروط الاعتراف الدولي.

وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي استقبلت أديس أبابا الرئيس الصوماليلاندي عرّو بدعوة رسمية، فيما عكس مضيَّ العلاقاتِ الثنائيةِ على نحو مميز، رغم تعليق اتفاق المنفذ البحري.

هذه الطريق لن تكون نهايتها انتزاع الشرعية الدولية فحسب، أو تغيير الموقف الأمريكي (الرسمي) الذي ما زال ثابتًا بجانب الصومال الموحد، لأن أي تقارب إسرائيلي إثيوبي داعم لصوماليلاند سيمهّد إلى نتائج مهمة أخرى، على رأسها تمكين حكومة هرجيسا من القضاء على الانفصاليين داخل الإقليم والجماعات المطالبة بالوحدة الفيدرالية، أخذًا في الاعتبار المناوشات المتقطعة منذ ثلاث سنوات في مدينة لاسعاوند، التي تعكِّر صفوَ استقرارٍ تُروّج له الحكومات الصوماليلاندية المتعاقبة. وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى مزيد من المطالبات الانفصالية مما يجعل من المستحيل حماية وحدة الصومال، إلى جانب انهيار أي فرص للوصول إلى هدوء دائم وتقويض لأعمال العنف.

وبقليلٍ من التدبّر يمكن التمييز بين الأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية، والنتائج محتملة الحدوث في المديين المتوسط والبعيد من جهة، ومن جهة أخرى مساعي نتنياهو في سياق علاقته الخاصة جدًا بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبالحزب الجمهوري واليمين بشكل عام، الذي يمر حاليًا بسلسلة من التقلبات الداعية لمراجعة الأولويات وموقع دعم إسرائيل منها.

نتنياهو يخالف التوقعات والتوصيات

إذا كان الاعتراف الإسرائيلي بصوماليلاند هو نتيجة شبه حتمية لمقدمات طويلة، فإن اختيار التوقيت والمبادرة دون التنسيق التام مع ترامب إلى حدِّ إسباغ وصف "الاتفاقات الإبراهيمية" على الخطوة دون الحصول على موافقة مسبقة من ترامب، ثم رفض الأخير القرار الإسرائيلي واستبعاد إقدام واشنطن عليه، كلها مؤشرات على لعبة أوسع يحاول نتنياهو من خلالها انتزاع مكسب أكبر من مجرد المباركة، وأوسع من السماح بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى صوماليلاند.

منذ شهرين فقط، ألقى الباحث المتخصص في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية آشر لوبوتسكي محاضرة في معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب عن آفاق الاعتراف بصوماليلاند، ثم نشر ورقة استبعد فيها أن تبادر إسرائيل إلى ذلك منفردة بدون واشنطن، وأجمل الأسباب في احتمالية ردة الفعل الغاضبة في العواصم العربية والإسلامية، وأنَّ إسرائيل طالما ترددت في الاعتراف بالدول الانفصالية خشية انعكاس الأمر على وضع فلسطين من منظور القانون الدولي، وأن خطوة الاعتراف لا بد أن تسبقها جهود أخرى كخطوات رمزية مثل فتح مكتب تجاري والاعتراف بجوازات سفر صوماليلاند، موصيًا بضروة إقناع إدارة ترامب بالاعتراف بها أولًا.

وإذا سلّمنا بأن مجرم حرب مطلوبٌ للمحكمة الجنائية الدولية لن يتوقف كثيرًا عند تأثير محتمل للاعتراف على القضية الفلسطينية على خلفية تجاهله أطنانًا من القرارات الأممية السياسية والقضائية لصالح الشعب الفلسطيني، فضربة نتنياهو ليست مقامرةً. إنها مغامرة لا تعوزها الدراسة على ضوء أربعة أمور أساسية:

أولها، سابقة طرح مشروع قانون في الكونجرس للاعتراف باستقلال صوماليلاند دولةً مستقلةً ومنفصلةً، من الجمهوري سكوت بيري، في يونيو/حزيران الماضي، بعد شهور من تداول أوراق بحثية ودراسات في معاهد ومراكز أمريكية، أبرزها مشروع 2025 الصادر عن مؤسسة "هيريتج" اليمينية المحافظة، عن ضرورة دعم تقسيم الصومال لتوطيد مكانة الولايات المتحدة في القرن الإفريقي بحجة المجابهة الضرورية لنشاط الصين في إفريقيا، وتلافي تدهور الوجود الأمريكي في شرق القارة، واستعادة السيطرة الاقتصادية والعسكرية. وبالتالي فإن نتنياهو يعي جيدًا أنه يساهم في إحياء هذا الزخم، ويداعب أطماعًا لها ما يبررها.

ثانيها، ضَعف الموقف الرسمي العربي إزاء الاتفاق المعلق بين صوماليلاند وإثيوبيا، فقد تم احتواء الأمر فقط بعد التهديد المصري المبطن وبواسطة التدخل التركي الساعي أولًا إلى منع دول أخرى من التمدد في المنطقة، وغياب أي ردود فعل رسمية قوية من دول الخليج الأكثر ثراءً ووجودًا في المنطقة خلال العقد الأخير، وعدم انعكاس ما حدث بدعم فارق للصومال الفيدرالي.

ثالثها، أن المصالح الإسرائيلية المأمولة من تنسيق واسع مع صوماليلاند وإثيوبيا ودول أخرى في المنطقة باتت تكتسب أهمية كبرى لا تحتمل الإرجاء، خاصة في ظل التعاون المتنامي بين مصر وتركيا، كل على حدة، مع الصومال وجيبوتي، واتخاذه صور اتفاقات تعاون وشراكة عسكرية واقتصادية. فضلًا عن إتاحة بدائل استراتيجية أخرى للتحرك مستقبلًا في المنطقة، حتى إذا تأخرت الاستجابة الأمريكية للاعتراف.

أما الأمر الرابع فيتمثل في ضمان موطئ قدم للاحتلال بالقرب من اليمن تحسبًا لأي تصعيد مع إيران، وذلك في خضم التغيرات السياسية والميدانية العنيفة في الجنوب، تزامنًا مع التصعيد الأخير وقصف السعودية لمواقع المجلس الانتقالي الجنوبي اليمني وأسلحته القادمة من الإمارات بعد رفضه دعوة الرياض لسحب قواته من حضرموت والمهرة، وسط غموض أفق مسار التفاهم بين البلدين الخليجيين ومدى إمكانية التوصل لتفاهم بين طهران والرياض حول مستقبل الحوثيين.

كعادته؛ يريد نتنياهو الإمساك بزمام المبادرة وتلابيب القضية، فاستهدف أبعد نقطة ممكنة حتى يزج بواشنطن وباقي الدول المهتمة، في أتون التفاعل مع وضع صوماليلاند استغلالًا للحراك الحالي في المنطقة على حافة الانفجار الشامل وإعادة التشكيل، وزيارته الحالية لأمريكا.

لا مبالغة في وصف ما فعله نتنياهو بـ"الاستفزاز الاستراتيجي" بغية التفاوض مع ترامب، وربما مع دوائر أخرى، على تنصيبه راعيًا وحيدًا للمصالح الأمريكية والصهيونية في القرن الإفريقي، وتكريس وضع سياسي استثنائي، يُجيد الاستثمار فيه، بصورة الرجل الأقوى بالشرق الأوسط، غير القابل للتغيير والأقدر على تنفيذ أجندته.

المشهد يعني ببساطة أن الدفاع "الناجع" عن مصالح مصر وغيرها من الدول المتضررة بالمنطقة لن يستند إلى الخطابات في مجلس الأمن على ضرورتها، بل إلى الجاهزية للتحرك متنوع المسارات في ساحة القرن الإفريقي وخليج عدن، والعمل السياسي الجاد في واشنطن، للتصدي لخطط بسط نفوذ إسرائيل الإقليمي عبر الحلفاء والوكلاء.