من مظاهرات بيروت. الصورة: وسام متى

إجابات عن أسئلة لبنان: لماذا انفجر الغضب.. وهل يستمر.. ومَن في الشارع الآن؟

منشور الاثنين 21 أكتوبر 2019

ينشر هذا التحليل الإخباري باتفاق خاص مع موقع بوسطجي.


قد يكون من المبكر تقييم الحراك الشعبي اللبناني المستمر ضد السياسات الاقتصادية التي أوصلت لبنان إلى حافة الهاوية. ومع ذلك، ثمة حاجة إلى محاولة قراءة هادئة لما جرى ويجري، واستشراف آفاق المستقبل القريب والبعيد.

تتعدد مقاربات الحراك الشعبي اللبناني وتذهب في أكثر من اتجاه، لتتماهى مع اتجاهات السياسة اللبنانية بكل تعقيداتها وتشعباتها الداخلية والخارجية.

ومع ذلك، ثمة ثابتة لا ينكرها أحد، حتى السياسيين المسؤولين عن الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية على اختلاف انتماءاتهم وتموضعاتهم السياسية، وهي أن الشعب اللبناني لم يعد يحتمل تلك السياسات التي تتجاوز مستوى الفجور في الاستخفاف بكل تفاصيل حياتهم، من غذاء وطبابة واستشفاء وتعليم وبيئة وبنية تحتية.

لهذا فإنّ أحدًا لم يجرؤ على وصف الغضب الشعبي الذي تفجر في شوارع لبنان منذ الإعلان عن "ضريبة الواتساب"، على غرار "ضريبة الملك" في المسرحية الرحبانية الشهيرة "ناطورة المفاتيح"، التي استنفدت صبر الشعب على كل الممارسات السلطوية.

بهذا المعنى، يصبح الانفجار الشعبي منطقيًا، وإن كان ثمة تساؤلات تُطرح على ما المحفّز الذي فجّره على هذا النحو الذي شهدته البلاد خلال الأيام الماضية.

الأسئلة التي يمكن أن تطرح هنا أربعة: ما هو السبب المباشر الذي أدى إلى تفجير الغضب، بعيدًا عن فرضية الواتساب؟ والثاني؛ كيف يمكن قراءة خريطة الحراك لجهة الانتماءات السياسية والطبقية للمشاركين فيه؟

وثالثها؛ كيف تعاملت القوى السياسية الشريكة في الحكم مع الموقف الناشئ؟

 

والرابع والأخير: هل سيؤدي التوافق بين القوى السياسية، إن حدث، إلى اخماد الحركة الشعبية أم أن التناقضات ستسهم في تأجيجها؟

 

1- ما الذي فجّر الغضب؟

ليست هذه المرّة الأولى التي ينتفض فيها اللبنانيون ضد السلطة الحاكمة. ثمة سوابق كثيرة في هذا السياق، وأقربها الغضب الشعبي الذي فجّرته أزمة النفايات في العام 2015، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع، تعبيرًا عن غضبهم، في ما شكّل أوّل تحدٍّ جدّي للقوى السياسية الشريكة في الحكم على قاعدة التحالفات الحزبية/ الطائفية المتوافقة مع ذلك الشكل الغريب من الديموقراطية المسمّاة "ديموقراطية توافقية"، والتي يمكن النظر إليها باعتبارها ديكتاتورية أمراء المال والطوائف.

وإذا كان الحراك السابق قد تلاشى بعد توافق القوى الحاكمة على بعض التفاهمات من جهة، واستخدامها الأجهزة النظامية الحامية لها من القوى الأمنية، والشارع المؤيد لها، البلطجية، لوأد الحراك من جهة ثانية، فضلًا عن استغلالها التناقضات الأيديولوجية داخل الحراك نفسه، فإنّ الموجة الحالية جاءت أقوى بكثير من سابقتها، إن في حجمها وشكل حركتها، أو انتماءات المشاركين فيها، أو التفاعلات السياسية التي أسهمت بشكل أو بآخر في إطلاقها.

وفي الأساس؛ فإنّ التدهور الاقتصادي الخطير الذي شهده لبنان خلال الأشهر الماضية يبقى العنصر الجوهري في خروج الجماهير إلى الشارع.

وبالرغم من أن الأزمة الاقتصادية ليست جديدة في لبنان، فإنّ جملة مؤشرات برزت خلال الآونة الأخيرة أتت لتجعل احتمالات الانفجار الاجتماعي أكبر بكثير من قدرة الـ "ستاتيكو" السياسي القائم على احتوائه.

إذا كانت عناوين الأزمة الاقتصادية ظلت مقتصرة خلال سنوات على المؤشرات الماكرو-اقتصادية والميكرو-اقتصادية، التي تبقى في الأساس عناوين النقاش بين النخبة السياسية والاقتصادية في البلاد، فإنّ ما جرى خلال الأسابيع الماضية جعل القلق من الانهيار الاقتصادي يتسرّب بشكل غير مسبوق إلى القاعدة الشعبية.

هذه القاعدة استشعرت الخطر بشكل مباشر مع بدء ارتفاع سعر صرف الدولار في مقابل الليرة اللبنانية في السوق غير الرسمية، وذلك بعد الاستقرار الذي ظلت السلطة الحاكمة تتباهى به طوال سنوات، وهذا الارتفاع نفسه راح قبل أسابيع يشكل مصدر قلق كبير لدى الفئات الشعبية على مجمل مستلزمات حياتهم المعيشية: البنزين، الخبز، الدواء.

 

يضاف إلى ما سبق أن الفئات الاجتماعية التي ظلت ساكنة لسنوات طويلة نتيجة منظومة الخدمات التي كانت تحصل عليها من أحزاب السلطة الحاكمة، قد فقدت ثقتها بتلك الأحزاب نفسها، لهذه الأسباب:

  • الأزمة الاقتصادية في البلاد.
  • شح الموارد المالية للأحزاب، ولا سيما حزب الله.
  • أزمة خدمات التوظيف في الأجهزة الحكومية (المعروفة في لبنان باسم الواسطة) وذلك غداة إقرار بند وقف التوظيف الحكومي لفترة خمس سنوات في الموازنة العامة للدولة للعام 2019.
  • علاوة على ذلك؛ كان واضحًا أن التناقضات بين شركاء السلطة الحاكمة نفسهم قد شكّلت محفّزًا إضافيًا لتفجّر الغضب. فقبل أيام قليلة من ليلة الغضب، الخميس 17 أكتوبر/ تشرين الأول، كانت التسريبات الإعلامية تتوالى عن سعي هذا الفريق أو ذاك لـ"قلب الطاولة" الحكومية، لأسباب عديدة.

بل إن صحيفة الأخبار الناطقة بشكل غير رسمي باسم حزب الله أكدت صراحة في تقرير بعنوان "حزب الله إلى الشارع لمواجهة المصارف" أنّ "الحزب لن يقِف مُتفرّجًا على انصياع المصارف، وغيرها من المؤسسات، لقرارات العقوبات الأمريكية".

قد يكون لحزب الله دور ما في ما حدث اليومين الأوليين فقط من الحراك، إن لم يكن باتخاذ قرار مباشر فعلى الأقل بعدم ممانعة جمهوره في التعبير عن غضبه هذين اليومين، إذ سُجّل فيهما انخراط نادر لبيئته الحاضنة في حركة الاحتجاج العفوية، وذلك على نحو شبه منظم في معاقله داخل بيروت وضواحيها الجنوبية والشمالية.

ومع ذلك، يصعب تمامًا القول بأنّ حزب الله هو المحرّك الأساسي للاحتجاجات، حتى وإن كان راغبًا في البداية استثمار الشارع في الصراع الدائر مع الشركاء في الحكم، وعلى رأسهم تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، سواء في موضوع المصارف أو في خطة الكهرباء التي يطرحها التيار الوطني الحر، وهذين البندين بالذات كانا في صلب المداولات الجارية حول "الورقة الاقتصادية" في مهلة الساعات الاثنتين والسبعين التي حددها الحريري في خطابه بعد الأزمة، قبل أن يكون له "كلام آخر".

حتى وإن جرى التسليم جدلًا بدور حزب الله، فالثابت أن الشارع قد سبق الجميع، بل أنه جعل الأمور تنفلت عن أيّة أجندة حزبية محتملة، بدليل "الخطاب المرتبك" للأمين العام لحزب الله حسن نصرالله يوم السبت.

2- كيف يمكن قراءة خريطة الحراك؟

يصعب على وجه الدقة تحديد خريطة المشاركين في الحراك الشعبي، في ظل غياب القيادة الموحّدة أو حتى قيادات متعددة يمكنها أن تشكل ائتلافًا جبهويًا، كما يحصل في الغالب خلال الانتفاضات والثورات الشعبية.

يضاف إلى ما سبق أن مطالب الحراك الشعبي تندرج في إطار اقتصادي– اجتماعي فضفاض، وهو واقع فرضته الضغوط الاقتصادية التي ترزح تحتها مختلف فئات الشعب اللبناني بكل انتماءاته السياسية والطائفية، ما يجعل السمة الرئيسية للحراك الراهن استثنائية مقارنة بما سبقه، لجهة عبوره فوق الحدود المناطقية والطائفية غير المعلنة في البلاد.

ثمة شواهد كثيرة على ذلك، أهمها أن الحراك الشعبي حاليًا ينتشر في كل المناطق اللبنانية، وأن المشاركين في التظاهرات ينحدرون من انتماءات حزبية مختلفة، بما في ذلك المنتمين إلى التيارات السياسية الشريكة في الائتلاف الحكومي.

ومع ذلك، ثمة ملاحظة بشأن طبيعة المشاركة يمكن تسجيلها وسط الأحداث المتسارعة منذ انطلاق شرارة الاحتجاجات الشعبية حتى وقت كتابة هذه السطور:

في اليومين الأولين، كان يمكن تقسيم الجمهور المشارك في التظاهرات إلى أربع فئات، بحسب الشعارات التي يرفعونها، وطبيعة تحرّكهم، فضلًا عن الخريطة الجغرافية للاحتجاجات:

  • اليساريون وناشطو المجتمع المدني، وهم غالبًا ما ينزلون إلى الشارع للاعتراض على قضايا متعددة ذات طابع اقتصادي– اجتماعي.  
  • القاعدة الشعبية لحزب الله، لا سيما الفئات الأكثر فقرًا ، وهم عنصر جديد في الحراك الشعبي، وقد أظهروا مستوى عالٍ من المواجهة، سواء في الصدامات مع قوات الأمن، أو في تحرّكهم المنظّم إلى حد ما في قطع الطرقات.  
  • مناصرو حزب الكتائب اللبنانية الذي فضّل البقاء خارج الحكومة الحالية.  
  • المواطنون غير المسيّسين ممن رأوا الفرصة مناسبة للتعبير عن غضبهم ورغبتهم في التغيير.  
  • يضاف إلى تلك الفئات الأربع فئة هامشية ترفع شعارات من قبيل "الجيش هو الحل" و"تسليم الحكم للجيش لمحاربة الفاسدين"، وهي تعبّر بشكل عام عن مزاج تقليدي في المناطق المسيحية على وجه الخصوص ترى في الجيش منقذًا.

أما في اليومين اللاحقين، وتحديدًا بعد الكلمة التي وجهها سعد الحريري للبنانيين، وما تلاها من أعمال عنف وتدخّل للجيش إلى جانب قوات الأمن لفض المتظاهرين أو من وُصفوا بـ"مثيري الشغب"، ومن ثم خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله:

  • انكفأ جمهور حزب الله عن المشهد العام (يتردد أن ثمة قرار حزبي بمنع نزوله إلى الشارع، مع استثناءات قليلة).  
  • قابل ذلك تحوّل جديد في انتماء المشاركين، الذين باتوا في غالبيتهم الساحقة من المواطنين غير الحزبيين.  
  • دخول فئة جديدة على الحراك (خصوصًا في المناطق ذات الغالبية المسيحية)، وتضم مناصري حزب القوات اللبنانية بعد استقالة وزرائه الأربعة.

 

3- كيف تتعامل القوى السياسية مع ما يجري؟

بالرغم من أن الحراك موّجه إلى الطبقة الحاكمة بأكلمها وهو ما يختزله شعار "كلّهم يعني كلّهم"، إلا أن الغضب بدا موجّهًا في الأساس باتجاه الرئاسات الثلاث: رئيس الجمهورية ميشال عون (وصهره وزير الخارجية جبران باسيل)، ورئيس الحكومة سعد الحريري، ورئيس مجلس النواب نبيه بري.

يواجه "العهد"، سواء رئيس الجمهورية أو وزير الخارجية (الذي ربما يكون قد سجّل رقمًا قياسيًا في عدد الشتائم التي تلقاها من المتظاهرين) وحاشيتهما، التطوّرات بمقاربة تندرج في إطار الانتهازية، عبر محاولة تجيير الغضب الشعبي للقول بأنه "يقوي موقف الرئيس وموقفنا وموقف كل الإصلاحيين"، وتقمّص دور الضحية البريئة عبر الإشارة إلى "حرب اقتصادية على لبنان تستهدف العهد"، بجانب الترويج لمقولة "إما نحن وإما الفوضى"، بحسب كلمة جبران باسيل في اليوم الثاني من الحراك.

ومن جهة ثانية، يحاول الفريق العوني أن يستغل ضعف سعد الحريري لتحقيق ما أمكن من مكاسب، بجانب حليفه حزب الله، وخصوصًا في ما يتعلق ببعض الخطط الحكومية، كخطة الكهرباء وغيرها.

أما سعد الحريري، فيبدو الحلقة الأضعف في الحراك الراهن، سواء بحكم موقعه كرئيس للسلطة التنفيذية، وبالتالي المسؤول المباشر عن النهج الاقتصادي الحالي،  أو لجهة استشعاره بأنّه بات "البقرة المذبوحة" بالغضب الشعبي، والتي تكثر حولها سكاكين "شركاء الحكم"، كالعونيين وحزب الله، تمامًا كمنافسيه المحتملين على الزعامة السنية، بجانب تخلي معظم الحلفاء عنه، أو استعدادهم لذلك.

ومع ذلك، يمكن للحريري أن يتسلّح برغبة دولية في أن يبقى رئيسًا للحكومة اللبنانية، وإن كان هذا العامل قد لا يتسم بالثبات.

أمّا نبيه بري، فيقارب الأمر بطريقة "السكوت المريب"، إذ لم يخرج عنه سوى موقف خجول جدًا طوال فترة الاحتجاجات، ومع ذلك فإنّ مناصريه لم يتورّعوا عن الاعتداء العنيف على المتظاهرين في جنوب لبنان، علاوة على أن ثمة من يعتقد أن "أعمال الشغب" التي تلت كلمة الحريري مساء الجمعة، يقف خلفها مناصروه أنفسهم، الذين لطالما تدخلوا في الكثير من الحركات الاحتجاجات السابقة لتولي مهمة تخريب الحراكات المدنية.

ويبدو واضحًا أن هذه المحاولات لم تعد تجدي نفعًا، لا سيما أمام الحشود المليونية التي خرجت إلى الشارع خلال اليومين الماضيين، وإن كانت احتمالات اللجوء إليها بشكل منظّم وأكثر عنفًا تبقى واردة.

يضاف إلى ما سبق أن ما حدث كشف عن خلل داخل منظومة المصالح التي تبني عليها حركة أمل، وغيرها من أحزاب السلطة، شعبيتها، وذلك بالنظر إلى أن هذا الشكل من التبعية النفعية قد اهتز بفعل القيود التي فرضتها الأزمة الاقتصادية في البلاد، والتي تطلبت اقتطاعات كبيرة في الموازنة.

يبقى تموضع حزب الله هو الأكثر إثارة للجدل. من المؤكد أن الحزب سعى إلى استغلال الحراك الشعبي إلى أقصى درجة ممكنة، سواء في الصراع الدائر بينه وبين المصارف، أو في السعي لتنفيس غضب بيئته الحاضنة، التي تأثرت بشكل أو بآخر بتراجع موارده المالية بسبب العقوبات الأمريكية.

وبالرغم من أن انخراط حزب الله في الحراك الشعبي ينطوي على مكاسب اجتماعية، إلا أن تحوّل الحزب إلى جزء من التركيبة السلطوية طوال السنوات الماضية، جعله أسير التوازنات التقليدية في السياسة اللبنانية.

على هذا الأساس، لم يكن متوقعًا على الإطلاق أن يتلاقى حزب الله مع مطالب الشارع باستقالة الحكومة، خصوصًا أن هذا السيناريو يفتح الباب أمام شكل جديد من الحكم على قاعدة ما أعلنه وليد جنبلاط في اليوم الأول للاحتجاجات "حكومة أكثرية في مقابل معارضة بدلًا من حكومة الوحدة الوطنية" بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر خارجية.

كذلك، لا يبدو حزب الله قادرًا على الوقوف في وجه حليفيه المسيحي ميشال عون، والشيعي حركة أمل، خصوصًا أن هذين الحليفين يشكلان الحماية السياسية، وإلى حدّ ما المالية، لنشاطه.

الأهم من ذلك، فإن  وجود حزب الله نفسه رهن بالتركيبة الطائفة، وبالتالي فهو لا يمكنه استساغة شعارات من قبيل "إسقاط النظام" وإقامة "الدولة المدنية".

وإذا كان حزب الله يرى في تموضعه الطائفي ركيزة وجودية، فإنّ موقفه الذي عبّر عنه حسن نصرالله بشكل مرتبك في خطابه السبت الماضي، وما تضمنه من لاءات ثلاث: لا اسقاط للعهد، لا استقالة للحكومة، ولا للانتخابات النيابية المبكرة، هذه اللاءات تفقده مصداقيته تجاه شريحة واسعة من اللبنانيين، وربما جزء من قاعدته الشعبية، بالنظر إلى أنه يكرّس انحيازًا لصالح الطبقة الحاكمة بدلًا من الانحياز إلى الفئات الشعبية المنتفضة.

من جهة أخرى، فإنّ بعض القوى السياسية استشعرت مستوى الغضب الشعبي، وسعت بالتالي إلى إظهار أشكال متفاوتة من التعاطف مع الحراك الشعبي، قد أمّنت لها ساترًا  في مواجهة هذا الغضب، وهذا ما ينطبق مثلًا على القوات اللبنانية التي دعت منذ البداية إلى استقالة الحكومة، قبل أن تتخذ قرارها باستقالة الوزراء، وكذلك الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يسعى زعيمه وليد جنبلاط للمناورة إلى أقصى حدّ ممكن بين التصعيد وركوب موجة الحراك الشعبي (من قبيل حديث عن عدم امكانية الجلوس مع جبران باسيل على طاولة واحدة)، وبين التهدئة في محاولة للحفاظ على المكاسب السياسية والاقتصادية سواء في الحكومة الحالية، إن استمرت، أو في غيرها.

 

4 – ما هي آفاق الحراك؟

تبدو آفاق الحراك الشعبي مفتوحة على عدّة احتمالات. فالحركة الاحتجاجية، بما حققته حتى الآن، تمتلك الكثير من أوراق الضغط التي جعلت الحكومة مضطرة للذهاب إلى مناقشة إصلاحات قد لا تكون كافية لتهدئة الشارع.

ومع ذلك، فإنّ هذه الحركة الاحتجاجية نفسها تعاني من خلل جوهري يتصل بغياب القيادة التي يمكنها أن ترفع مطالب محددة وتسعى لانتزاعها من السلطة الحاكمة، ولذلك، فإنّ الحراك الشعبي الحالي لا يزال في حالة بدائية، سواء في تنظيمها أو في المطالب التي ترفعها، والتي اختزلتها لافتة علقت على تمثال الشهداء في وسط بيروت عنوانها الجوهري: يسقط كل شيء.

على هذا الأساس، فإنّ استمرار الحراك الشعبي بهذا الزخم يبقى رهنًا بالتوافقات السياسية الجارية حول الورقة الاقتصادية التي طرحها سعد الحريري، وبقدرة بعض القوى المعارضة الأكثر تنظيمًا على الحفاظ على الزخم.

وفي العموم، فإنّ عدم التوافق على الورقة الاقتصادية سيُبقي حالة الاحتقان في الشارع على حالها، وربما تذهب نحو اتجاهات أكثر تصعيدًا.

أما التوصل إلى اتفاق فيفتح الباب أمام احتمالات شتّى، فرهان السلطة الحاكمة حينها سيكون على اقتناع الفئات غير المسيّسة بأن ثمة نية فعلية للإصلاح الاقتصادي، وبالتالي فقدان الحراك الحاضنة الجماهيرية الواسعة التي جعلته مليونيًا منذ ثالث أيام الاحتجاج، ليقتصر الشارع على بضعة آلاف من المتظاهرين الذين يمكن احتواؤهم إما بنهج "دعهم يتظاهرون حتى يملوا" أو حتى بالقمع الرسمي وغير الرسمي.

أيا تكن السيناريوهات المفتوحة في أكثر من اتجاه، فإنّ ثمة ثابتة وحيدة، وهي أن مرحلة ما بعد 17 أكتوبر/ تشرين الأول لن تكون كما قبلها، فالحراك الشعبي أثبت سريعًا قدرته على كسر قوة النظام الطائفي اللبناني الذي ظل طوال عمر الجمهورية الهيكل المؤسسي للمنظومة السياسية والاقتصادية، وهزّ بالفعل الاقتصاد السياسي للطائفية في مرحلة ما بعد الحرب.

ويبدو واضحًا أن المشاكل الاقتصادية العميقة لم تترك للحكومة اللبنانية سوى خيارات قليلة، فإذا كان الرهان على التقشف في موازنة العام 2020، فإن الأيام القليلة الماضية أظهرت أن ما يسمّى بـ"الإصلاحات" باتت تكلفتها السياسية باهظة، وبالتالي فإنّ أهم ما يمكن أن يبنى عليه في الحراك الأخير هو أن الطبقة الحاكمة باتت مضطرة مكرهة على إيجاد بدائل خارج منظومة الحلول السهلة التي تستبيح لقمة عيش المواطن.

وبالنظر إلى أن السلطة الحاكمة فقدت بالفعل منذ مدّة أية امكانية للحصول على دعم من رعاتها الإقليميين؛ فإنّ الحراك الحالي، أيًّا كانت احتمالاته المستقبلية، بات قادرًا على انتزاع ما لم يكن من الممكن انتزاعه خلال المرحلة السابقة، سواء تعلق الأمر بفرض مساهمة المصارف في ضريبة الانقاذ، أو بالذهاب إلى خيارات أكثر جذرية في حال ساهمت التناقضات داخل أطراف السلطة في استعادة المال العام المنهوب، أو على الأقل جزء منه.