صورة متداولة على صفحات دعم أيمن موسى
أيمن موسى

عندما ينسى العالم سأتذكر

عن الصداقة التي تنشأ خلف القضبان

منشور الأحد 31 يوليو 2022

عزيزي أيمن،

هل تذكر يوم انفجاري في البكاء في زاوية زنزانتنا بمعسكر السلام لقوات الأمن المركزي؟ كان اليوم السادس من أكتوبر/  عام 2013 وكانت أول ليلة في الحبس، مازال طين الشارع عالقًا بأحذيتنا، نرتدي ملابسنا المدنية، وتنبض الكدمات الزرقاء على امتداد أجسادنا مواقَع الركلات والعصي.

بكيتُ في السجن أول مرة؛ بعد اثنتي عشرة ساعة من اعتقالي من المظاهرة، كان وقع الصدمة مُزَلزِلًا لا زال. فُتح باب الزنزانة مزمجرًا ليكشف عن أمين شرطة سمين سميك الشارب، بدأ بإلقاء أشياء نحونا لم نتبينها في الظلام، حتى ارتطمت بي إحدى القذائف فتمعنت النظر: عيش وحلاوة. طعام السجون المصرية الشهير.

بُهِتُّ وقتها: أنا في السجن. ما يجري الآن واقعٌ حقيقي.

انفجر الرعب المعبأ في صدري شلالاتٍ، فامتصته ركبتا بنطالي ككتف رفيق صامد. دغدغ طعم الملح ملتقى لساني والحلق.

ربت والدي على ظهري، فاشتدت الدموع؛ كان وجوده هنا ذنبي. جاء فقط لحمايتي، وانتهى به المطاف معتقلاً بسببي. شرح أبي للسجناء المتراكمين فوقنا -زملاء القضية المستقبليين- أن اليوم كان يومي الأول كطالب جديد في الجامعة الألمانية بالقاهرة بمنحة دراسية لدراسة هندسة الميكاترونيكس.

سمعت التأوهات والسباب أولًا وأنت تدهس أصابع القدمين قافزًا نحوي. استغرق الأمر بضع نكزات حتى انتبهت ورفعت عيني المنتفختين. وجدتك تجلس القرفصاء قِبَلي، تحيط عينيك البنيتين تجاعيد خفيفة امتدت من ابتسامتك العريضة؛ ابتسامة ظلت أكثر سماتك المميزة عبر السنين.

"انت في الGUC؟"

أحدق حائرًا، كأن بعقلي عطبًا ما.

"اممم، آه، المفروض كمان ساعتين يكون أول يوم..". أجبت أخيرًا.

"بتهزر! أنا كنت GUC برضه بس شلت الكمبيوتر ساينس فحولت بريطانية عشان مخدوش خالص،" قلتَ بابتسامة مشرقة "انت ف هندسة برضه؟"

"آه ميكاترونيكس".

انفجرتَ ضاحكًا ليزيد استغرابي، ثم لكمتني في كتفي "يا عم احمد ربنا إنك اتمسكت، السجن أرحم ميت مرة!"

هناك، كانت أول ابتسامة استخلصتها مني، ابتسامة آذنت ببدء رحلتنا التي تحولتَ فيها إلى طوق نجاة وأُنْس أتعلق به وقت الضيق لسنوات ستأتي.

"بص، كلام جد، أول أسبوع كده كده lecture week مش بيبقى فيه أي سكاشن، ومفيش أي حد بيحضره أساسًا فمش هيفوتك حاجة. وكده كده هنخرج بكرة ان شاء الله". قلت غامزًا، ثم مددت يدك.

"أيمن موسى"

رفعت يدي وتصافحنا.

"عبد الرحمن الجندي"

وبدأت الرحلة.

احمد ربنا انك اتمسكت. السجن أرحم من ميكاترونيكس


عزيزي أيمن،

في كل مرة أفكر في التمرين لإنقاص وزني من جديد، أتذكر صالة الألعاب الرياضية الخاصة بك في ساحة سجن وادي النطرون. لطالما كنت أنت مهووس الرياضة في هذه الصداقة؛ مِلتُ أنا للهوس الأكاديمي. استغرقك الأمر عامًا واحدًا لتستقر وتؤسس روتين التمرين الخاص بك على الرغم من الرعب المتفشي حولنا. فرقونا في زنازين مختلفة بعد أسابيع من وصولنا، وقام والدي برشوة مناوبات الحراس بالكامل على مدى أشهر لنقلنا إلى عنبرك بعدما لاحظ تزايد اكتئابي.

عندما نجحنا في الانتقال أخيرًا، دخلتُ إلى العنبر وأسقطت حقائبي على الأرض مسرعًا إلى الفناء الداخلي حيث كانت زنزانتان تمضيان ساعة التريض.

رأيتُك ورأيتَني. تعالى صياحنا فوق صراخ الحَرَس وهم يطاردونني بينما أركض نحوك، حتى ارتطمنا في عناق وتقافزٍ كما الأطفال في ساحة المدرسة بعد نهاية يوم دراسي ثقيل. لم أكترث للعناتهم وهم يسحبونني جرَّا من احتفالنا؛ كنت في أسعد لحظاتي منذ شهور.

التقينا في هذا الفناء كل يوم. زنزانتانا، رقم ثمانية وتسعة بعنبر اثنين، كانتا تتشاركان وقت التريض. لمدة ساعتين يوميًا تجولنا في الفناء، نتحدث عن صديقة طفولتك المقربة التي تزوجت قبل أسبوع، الشجار الكبير الذي اندلع بيني وبين مجموعة الإخوان المسلمين التي تهيمن على زنزانتي، كومة جديدة من الرسائل التي قمنا بتهريبها في الزيارة، نحلل الشائعة التي مفادها أننا سنُبرئ في النقض النهائي بعد أن أرسل النظام رسالته المبتغاة بجعلنا مثالًا رادعًا: حكمًا بخمس عشرة سنة من السجن المشدد تحت تهم معتادة من التجمهر والإخلال بالسلم العام وغيرها من المحفوظات.

أربعةَ أيام من الأسبوع كنتَ تمارس الرياضة. حمَلَتْ تلك الزاوية البعيدة من الفناء اسمك: الأسياخ والدعامات الفولاذية التي تحمل السقف لتمرين العقلة، درجات الإسمنت العالية على الجانب كالمدرجات لتمارين الساق والضغط بأرجل مرفوعة، ملابس السجن الممزقة المَجْدُولة لتُكَوِّنَ حبلَ قفز، الأعمدة الحديدية حول الجدار للتمرين المضحك الذي أريتنا إياه لعضلة الذراع الثلاثية، عندما واجهت العمود ووضعت كلا القدمين على جانبيه، ثم أمسكت الناحيتين بيديك مقرفصًا في وضع الجلوس، وسحبت حتى يلمس صدرك الحديد ذهابًا وإيابًا عدة مرات. سقطنا جميعًا ضاحكين على منظرك؛ كنت كأنك تضاجع العمود.

أتذكر يومًا على وجه الخصوص يزورني كل حين بتفاصيله. كنت أتمشى بطول ممر الزنازين ذي المتر الواحد عرضًا، أجر قدمي حتى باب الفناء ثم ألتف عائدًا لنهاية الطرقة. لم أكن أريد مواجهة الشمس الحارقة في جحيم صيف السجن؛ كان احتراق الممر أخف بعض الشيء.

سَلَّيْت نفسي بقراءة العلامات على كل باب من أبواب الزنازين، منقوشة بالأصفر تشير إلى جريمة سكانها: قتل، سرقة، مخدرات؛ حتى اقتربت من مجموعة زنازيننا. قرأت كلمة "تجمهر" ممتدة بعرض الباب وهززت رأسي على النكتة المؤسفة.

كنت شمرت سروالي القصير القطني الباهت وأكمام القميص الداخلي الأكبر من حجمي خمس مرات، محاولًا إفساح المجال لأي نسمة هواء شاردة لتداعب جسدي الملتهب. ارتديت قميصي مقلوبًا كما يفعل معظم السجناء في الصيف لتجنب الخياطة الداخلية الشائكة التي تلهب بشرتنا المتهيجة بالفعل. برأس حليق تمامًا بعد جز الرؤوس الإجباري كل أسبوعين تلو الزيارة، بدوت مثل الأطفال المشردين تحت كباري القاهرة يشمون الكُلَّة الرخيصة بحثًا عن لمحةِ نشوة عابرة.

خطوتُ إلى باب الفناء وناديتك.

"باقي مجموعة واحدة وأخلص!" أجبتني قافزًا من تمرين العقلة للأرض، تتدلى من كتفيك حقيبة ظهر محشوة بزجاجات مياه بلاستيكية لإضافة وزن للتمرين.

جلسنا سويًا بعد دقائق في الممر: وضع القرفصاء مع إسناد الظهر للحائط؛ جِلسةُ المساجين الرسمية.

التقطتَ كومة الرسائل المهربة، ورسائل السوشيال ميديا الخاصة بك من زنزانتك، وأحضرتُ أنا كومتي، وبدأنا طقوسنا المقدسة في غربلة الكومتين معًا. بعض الرسائل أثرت فينا حتى دمعت عينانا، وانتزع منا البعض الآخر الضحكات. كنا نستمتع بمقارنة ما يتخيلنا عليه الناس -السجناء السياسيين الأبطال- بما نحن عليه بالفعل: قمصان مقلوبة، سراويل مُشَمَّرة، حقائب ظهر مليئة بالزجاجات، نتصبب عرقًا، برؤوس لعب عليها الحلاق الجنائي الفورميولا-1 بشفرة الحلاقة.

أخبرتك عن أعصابي المحطمة والعام الدراسي المقبل. لم أستطع تخيل دراسة الهندسة الميكانيكية بجامعة عين شمس في السجن لعام آخر.

"خير يا عم.. ع الأقل فيه خبر حلو" رفعت حاجبي مع كلماتك.

"الأسبوع الأول lecture week يا صاحبي" قُلتَ هازًّا كتفيك.

ضحكنا بشدة في ذلك اليوم يا أيمن، على الرغم من أن المأساة في الأمر فاقت الكوميديا. ضحكنا ظمئًا للضحك، ثم ضحكنا أكثر. تحولت هذه إلى نكتنا السنوية حتى تخرجتُ رسميًا كمهندس ميكانيكا داخل السجن بعد خمس سنوات من جامعة عين شمس.

جلجلت قهقهاتنا في الممر وصفقنا على أفخاذنا ودفعنا بعضنا إلى الأرض على الرغم من ثقل ظل النكتة. انتشينا بانتزاع تلك اللحظات الثمينة النادرة من وجع البطن الحُلوِ والدموع الفَرِحة على سبيل التغيير. نسينا للحظات قعقعة أبواب الزنازين والأصفاد، السباب المتطاير كما الذباب في مقلب نفايات، طعام السجن الذي يسمم البطن ويجعل الجوع خيارًا أكثر إغراءً، بطاطين السجن وملابسه الميري التي تحك أجسادنا وتخدشها، والمساجين المتكتلة في زنازيننا المكتظة تلتصق بأجسادنا كل لحظة في كل يوم.

لو نظر أحدهم على المشهد من أعلى لما لاحظ سوى علامة يتيمة تشير إلى بقايا إنسانيتنا المهترئة —نضحك. بكل بساطةٍ نضحك.

هل ما زلت تعرف طعم الضحك يا أيمن؟ أدعو أن تكون بأعجوبة قادرًا ولو على الابتسام من آنٍ لآن.

سَلَّيْت نفسي بقراءة العلامات على كل باب من أبواب الزنازين: قتل، سرقة، مخدرات؛ حتى اقتربت من زنازيننا. "تجمهر"


عزيزي أيمن،

وقفنا كتفًا بكتف ونحن ندخل السجن لأول مرة، نحدق في وجوه المساجين القديمة وراء السور الشبكي، تلتهمنا نظراتهم الجوفاء العابسة، يعلو نبضنا رعبًا ونخشى مصيرهم. وأسرع مما ظننا ممكنًا، تحولنا نحن لنفس الجثث الثقيلة وراء الشَبَك، نحملق في الوافدين الجدد، نذيرَ شؤم يبث فيهم الفزع مما هو آتٍ.

هل تذكر الأشهر القليلة التي نقلوك فيها إلى العنبر المجاور فلم نستطع التواصل إلا من خلال ذاك الثقب في الجدار الحديدي الفاصل بين عنبرينا؟ كنا ندعو كل يوم أن تتصادف ساعات تريضنا، نتعلق على عوارض السقف ونغرس ساقينا في النتوءات حتى نصل لفتحة الجدار، فنتحدث.

لم تلائم الوقفة المحادثات الطويلة، فلجأنا لكتابة الجوابات وتمريرها لبعضنا كل يوم. كانت خطابات العالم الخارجي بمثابة شريان حياة، لكن تلك المراسلات الداخلية بيننا عبر فتحة الجدار تحولت لمصدر طاقة أتطلع له كل يوم.

أهرع إلى فرشتي بعد التريض يوميًا لأعرف أخبارك: الوجبة التي أحرقتموها في الزنزانة أثناء محاولتكم تحويل طعام السجن إلى مذاق لا يسبب القيء، زميل الزنزانة الذي توفيت والدته بعد مرضها لأشهر لم تستطع خلالها زيارته فلم يلتقيا للوداع، وأحدث أعضاء صالة التمرين الجديدة التي افتتحتها في عنبرك.

أومئ في أسىً ثم تفلت أحيانًا ضحكاتي فينظر لي زملاء الزنزانة شذرًا فأكتمها. أجتذب ورقة وقلمًا وأشرع في الرد وكتابة أخباري الجديدة أيضًا، ثم أحشرها في جيبي جاهزة لتمر عبر الثقب في تريض اليوم التالي.

مِن تشارُكِ زنزانة واحدة وقضاء ليالٍ كاملة في تبادل الحكايات، إلى التواجد في زنزانات متجاورة والالتقاء في التريض، إلى التواصل بالجوابات اليومية عندما نقلوك لعنبر مجاور، انتهاءً برسالة واحدة في الشهر عندما نقلوني أنا إلى سجن آخر. تفاقمت العقبات مع السنين، لكنّا دومًا وجدنا طريقة للاتصال.

أشد ما أفتقد في مشاركتك زنزانة يا أيمن هو سهرنا للحديث طوال الليل بين سيمفونيات الشخير، وقهوة ما بعد الفجر في العوامة، تلك المنطقة المغمورة بالماء بطرف الزنزانة بجوار الحمام. لم يسبق لي أن شربت القهوة في حياتي قبل أن ألتقي بك، ولم تيأس من المحاولة حتى جعلتني أجربها. بالتدريج أصبحتُ مدمنًا لا أستطيع إمضاء يومي دون كوب قهوة كبير كالذي أحتسيه الآن. أتمنى أن تكون سعيدًا!

شهدت العوامة فصولًا طويلة من رحلتنا: محادثاتنا وضحكاتنا المكتومة عندما يشتمنا صوت نعسان لنخرس، كل مرة جلستُ هناك لعزل نفسي للمذاكرة وقفزتَ جواري واعدًا بأنك لن تشتتني، فانتهى بنا المطاف في خضم مناقشة وجودية لمدة ثلاث ساعات. ذلك الثقب الأسود الذي ابتلعنا عندما رفضت محكمة النقض طعننا فبات حكم الخمس عشرة سنة نهائيًا باتًا غير قابل للطعن عليه؛ غبنا لساعات محدقين في الخواء كل يوم.

لكن، في اليوم الذي أخمدوا فيه نورك لم أكن معك.

أتذكر تلك اللحظة التي صرخ فيها رفيق باسمي على فتحة الباب في الزنزانة "جندي! نقلوا أيمن سجن المزرعة!"

كان وقت التريض قد فات، وكنا وقتها في عنابر مختلفة. لم أستوعب احتمال رحيلك بلا حتى فرصة للوداع.

الآن أقول يا ليته كان الوداع.

وجدناك عائدًا في اليوم التالي، وكان الخبر انتشر وقتها كالنار في الهشيم: مات عم علي والد أيمن، وأرسلوه لتلقي العزاء بالخارج بعد حملة كبيرة على السوشيال ميديا.

مرت أسابيع حتى سمعت الحكاية منك أخيرًا. بعينين دامعتين، أخبرتني كيف نقلوك من سجن وادي النطرون في سيارة ترحيلات مع ضابط أمن دولة بلا كلمة شرح أو تفسير. دارت الأفكار المظلمة داخل جمجمتك: هل فعلت شيئًا؟ هل أضافوني إلى قضية جديدة؟ هل أنا في خطر؟ بعد ساعات، توقفت السيارة.

اهتز صوتك وأنت تروي "الظابط لفلي وقاللي بص يا أيمن، عندي ليك خبرين. خبر حلو وخبر وحش. الخبر الحلو، هتروح بيتك دلوقتي. الخبر الوحش، أبوك مات".

فُتح الباب، وسحبوني خارج السيارة، ولم أتمكن من إدراك أي شيء حولي سوى صافرة طويلة صمَّت أذني".

تفطَّر قلبي شذراتٍ وأنت تحكي كيف تركوك في المنزل في مدينة نصر لساعة واحدة، ولم تكن أمك ولا أخوك على علم بمجيئك. هرعتا إلى القاهرة عندما أخبرهما جيرانكم في البناية، تاركين العزاء في مسقط رأس والدك بمحافظة الغربية، ولكن الوقت كان قد فات؛ كنتَ رحلتَ بالفعل.

في هذه الحالة، وضعوك في الحبس الانفرادي في سجن المزرعة لقضاء ليلة كاملة بمفردك. غلى دمي وفار؛ كيف مرت تلك الليلة بالنسبة لك يا أيمن؟ حتى الآن، بعد سبع سنوات، أعلم أن جرحك لم يلتئم بعد. كيف يمكنك أن تتعافى ولم تعانق والدك مرة أخيرة، وتقبل جبهته وداعًا، وتلوح له وهو يرحل إلى الأرض؟ لم تفعل، ولن تفعل أبدًا.

لا يشفى المرء من هكذا وجع.

لم تعد لطبيعتك منذ ذلك الحين. ذلك الولد الذي تقافز حول الردهة يدغدغ ويداعب زملاءنا في القضية عندما أعلِن عن حكمنا لمدة خمس عشرة سنة، يرتدي زي المحكومين الكحلي ويخبرنا ضاحكًا "ع الأقل الكحلي أشيك م الأبيض يا جدعان!".

ذلك الصبي الذي يقوم بالشقلبات الخلفية وحركات الرقص الاستعراضي التي تركتنا مشدوهين؛ لم يعد ذلك الولد موجودًا.

انهار السد وتوالت الكوارث تباعًا: رُفِضَ نقضنا بعد أشهر من وفاة والدك، وفصلتك الجامعة البريطانية من كلية الهندسة العام التالي.

يعتقد الناس أن المعاناة المهولة تُؤلَف بعد حين، أن تَعَلُّمَ التعايش مع العذاب يعني أنه يؤلم أقل في كل مرة.

كنت بجوارك بينما اختبرنا الطرق المبتكرة التي تتفوق بها الأقدار في سحق جزء مميز من أحشاء المرء مع كل مصيبة تفجعنا بها.

لا تزداد المعاناة إلا ألمًا؛ أنا أفهم ذلك جيدًا يا أيمن.

بص يا أيمن، عندي ليك خبرين. خبر حلو وخبر وحش. الخبر الحلو، هتروح بيتك دلوقتي. الخبر الوحش، أبوك مات


عزيزي أيمن،

عندما زعق الحراس باسمي لنقلي إلى سجن طرة شديد الحراسة 2 لبرنامج العفو الرئاسي للسجناء السياسيين، غمرت النشوة الزنزانة وأنا أعانق جميع أصدقائنا. تركتك لآخر وداع. بجوار الباب، تعانقنا بشدة وربَتُّ على ظهرك عدة مرات. وعدتك أننا سنجتمع في الخارج قريبًا.

لو كنت أعرف أنها ستكون المرة الأخيرة التي أراك فيها؛ لطال العناق.

لم أخرج في العفو. على مدار السنوات الثلاث التي تلت حتى إطلاق سراحي بمعجزة، تمكنا فقط من التواصل برسالة واحدة كل شهر في زياراتنا: زيارة لإرسالها، وأخرى لاستقبالها بعد أسبوعين. في كل زيارة، أغوص في كلماتك بين أخبار ونميمة السجن، ونصائحك للتمرين والنظام الغذائي، والقسم الوجودي الثابت في رسائلنا حيث نندب أقدارنا العثرة.

لذلك، عندما فتحوا زنزانتي في ديسمبر/ كانون الأول 2019، لم أفهم. تحركت الشفاه، وعجز عقلي عن الاستيعاب: قدمت عائلتي التماسًا، قام مكتب النائب العام بنظره لسبب غير مفهوم بعد سنين من التجاهل، وصدر أمر بإيقاف الحكم وإعادة محاكمتي كقاصر.

ست سنوات وثلاثة أشهر. استغرق الأمر منهم كل هذا الوقت للاعتراف بمحاكمتي غير القانونية كبالغ بينما اعتقلت في السابعة عشر. لا أعتقد أنني استوعبت إطلاق سراحي حتى الآن، بعد أكثر من عامين في الخارج.

ما يجعلني أتأجج غضبًا هو: لماذا لا تزال أنت في الداخل؟

ألقوا القبض علينا من نفس المظاهرة، أضافونا إلى نفس القضية بنفس مجموعة التهم، خضنا نفس المحاكمة، تلقينا نفس الحكم، رُفضَ نقضنا النهائي أمام محكمة النقض، واستبعدونا من كل عفو رئاسي تلاه؛ لا فارق بيننا!

كنتُ في السابعة عشر وكنتَ في التاسعة عشر يوم اعتقالنا. هذان الشهران اللذان فصلا بيني وبين عامي الثامن عشر من العمر كانا منبع هذا التحول الرهيب في مساراتنا. تحول وضعني أنا على هذا الجانب من السور، أكتب لك هذه الرسالة على جهاز اللابتوب في غرفتي، وتُركت أنت تمضي باقي الرحلة المشؤومة وحيدًا يائسًا في عامك التاسع وراء القضبان.

ما هذا الهراء؟

ذكر أخوك أنك طرت فرِحًا عندما علمت أن مغنيك المفضل، ويجز، شارك ستوري عنك على انستجرام في الحملة الواسعة من أجل العفو الرئاسي عنك. انضم عدد لا يحصى من المشاهير إلى السعى لفك قيدك. كتب بعض الممثلين والرياضيين بوستات، وشارك العديد من المغنيين قصصًا وفيديوهات مصورة للتضامن؛ قرأوا جميعًا سلسلة المقالات التي كتبتها عن مثابرتك: كيف بدأت مرة أخرى من الصفر وتخرجت من برنامج العلوم السياسية في الجامعة البريطانية أثناء سجنك.

مذهلةٌ كانت قوة إرادتك لإعادة المحاولة في مسار أكاديمي جديد بعد أن طردتك جامعتك من كلية الهندسة. ذرفنا الدموع ونحن نشاهد مقطع فيديو لدفعتك عام 2020 وهم يحيونك ويهدون تخرجهم إليك في خطاب حفل التخرج فتضُجُّ القاعة بالتصفيق الحار. أثارت إنجازاتك الرياضية الرائعة دهشة الجميع، وآلمتهم حكاياتنا خلف القضبان. رسمتُ صورة حية لحقيقتك من أعماق قلبي: الإنسان خلف الوسم، القلب النابض تحت الأوراق الرسمية والأرقام. سردت روحك، فشهدها العالم، ووقعوا في حبك.

"8 سنوات كفاية"، زأرنا على كل منصة افتراضية. ومع ذلك، يمر عامك التاسع أمام أعيننا ولم نسمع إلا الصدى ردًا.

لا أستطيع أن أقاوم شعور أن استنشاقي لهواء الحرية خيانة بينما أنفاسك لا تزال تعبر خلال القضبان والأسلاك، لذلك أعدك بعدم ترك باب غير مطروق ولا طريق لا أخطوه سعيًا.

أعدك ألا أتوقف حتى يصبح الهواء الذي تتنفس حرًّا.

مغنيك المفضل، ويجز، شارك ستوري عنك على إنستجرام


عزيزي أيمن،

عندما أحاول أن أشرح للناس على هذا الجانب من الجدار، لا يفهمون. لا أحد يفهم ما يعنيه وجود أخ في السجن. كم هو محرر أن تجد إنسان آخر يفهم من أنت، من أين أتيت، ويرافقك الطريق. لا يمزق السجن الأحشاء بنفس القسوة مع كتف آخر يرافقك المشوار.

كان السجن تابوتًا خانقًا وكنا أكثر حرية من احتمال القفص. في عزلة عنيفة، نحتنا بأظفارنا مساحاتِ تنفس ضئيلة أينما ومتى استطعنا. عندما فشلنا في خرق الأسوار حفرنا في الأرض. قمنا بمسح محيطنا بحثًا عن كل قشة لنتعلق به، وعندما لم تتزحزح الجدران المقبلة لسحقنا بلا رحمة، رفعنا دروعًا من الفكاهة السوداء والسخرية لإلجامها بعيدًا.

تبادلنا البكاء والضحك، ولم نكذب مرة وندعي أن شيئًا سيكون على ما يرام. شكّلت هذه أهم قاعدة في صداقتنا: لا وجود للهراء الفارغ بيننا.

كنا نساير الأيام. كائنان فضائيان تصاحبا لتخفيف رهاب الوحدة.

هل ما زلتَ قادرًا على المسايرة؟

تسعة أعوام.

عندما يسمع الناس كلمات lecture week سيرجعون بالذاكرة إلى قاعات المحاضرات وضجيج المقاعد والمدرجات الصاخبة والمحاضرين الرتيبين، لكنني لن أفعل.

أنا، الصبي الذي لن يرى أبدًا أسبوع محاضرات في حياته، سوف أتذكر فقط الابتسامة النابضة بالحياة، تلك التي أذابت الجليد المحيط بقلب طفل مذعور في السابعة عشر. سأتذكر أنه عندما تقوقع كل فرد في شرنقته مرتعبًا، واستنزف الخوفُ كلَّ ما يشابه الأمل والفرح والبراءة من الجو، كنت أنت دون سواك تملك فائضًا لتغمرني به.

عزيزي أيمن،

عِنْدَمَا يَنْسَاكَ العَالَمُ، سَأَتَذَكَّرْ.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.