تعود الفكرة لتنكزني من جديد، أتثاءب وأتناول قلمًا وورقة. يبهرني البياض ويستفزني لتلويثه، أعصر دماغي لعلّي أجد ما أكتبه، فمنذ أن أحرقت الحرب الزيتون لم يعد لدي غيرها لأعصره.
ولأني لا أرغب أن يؤول حالي محترقًا كشجر الزيتون والخوخ والحابل والنابل، كتبت على هامش الورقة تحذيرًا من كتابة اسمي الصريح، وزيادة في الحيطة عليّ الاختباء وراء الفكرة، أي فكرة، المهم أن تحميني من عيون الشياطين التي تترصدني.
بدأت رحلة البحث عن اسم مستعار، وقطعت تركيزي ذبابة تحوم حول أذني، كأنها تراقبني، مهلًا .. ربما! لكن لم يصل إلى علمي أن إيران أو روسيا جندوا الذباب أيضًا، "من يدري" أقول لنفسي، وأبعدها لأستقر أخيرًا على الاسم، فليكن جورج عمر العلي.
يا لغبائي، أي شيطان صغير سيعرف أن هذا الاسم مستعار. آآآآه حتى الاسم المستعار تشعر به مثل حشوة الضرس. ربما بدأت العملية من الخلف، لأبحث أولًا عمن سأكتب لهم، وقتها سيسهل تفصيله.
أبو صقر الجولاني
سأكتب بموقع تدعمه داعش أو النصرة، لن أجد صعوبة، خصوصًا أن لدي مراجع يمكن أن تفيدني. سألبس لباسهم وأتجول بينهم وأعمل ريبورتاج يضاهي اللقاء الذي أجراه عبد الباري عطوان مع بن لادن. وليكن اسمي وقتها أبو صقر الجولاني.
تعود الذبابة وتشوش عليّ، أطردها فتهرب الفكرة من دماغي. يا لها من سارقة، أو ربما كانت غير داعشية.
أعود إلى قلمي وأكتب: أي جنون أفعله. أذهب لمعاقلهم مقابل تحقيق بأقل من مائة دولار، أترك القلم جانبًا وأفتح دولاب الثياب. ألبس جلبابًا وشالاً وأنظر إلى المرآة وأضحك على حالي... أنا أبو صقر الجولاني، وهذا الصقر الصغير مشيرًا نحو حالي. وطبعًا سيكتشفون أمري، ومن ثم ينتشون ريشه ويذبحونه.
في غرفة التحقيق
أخلع ثيابي وكأنني أصبحت عاريًا في غرفة التحقيق، أحكي للمحقق دون طلب "والله ياسيدي كنت عندهم لداعش كي أكتب مقالة عنهم وأفضحهم، والله يا سيدي.. وكل الشي كان مجرد فكرة برأسي كتبتها على الورق فقط مجرد كابوس فرغته على الورق".
المحقق: ههه هات ما عندك من أحلام.
والله ياسيدي حلمت أني أكتب لجريدة الوطن.
المحقق: هيهه.. قلتلي الوطن؟ وتكتب هكذا؟ كيف لو أنك تكتب بالصحف المعادية؟
هات لنشوف حلمك احكي، ومعك دقيقتين فقط قبل أن تستيقظ من كوابيسك. أعدك أن أرجعك إلى أحلامك وكوابيسك وبموافقة شخصية مني.
وفورًا وبسرعة الدقيقتين شغلت مكنة دماغي المؤيدة لأفكار من يقف بالمرصاد فوق حلمي، فعصرت ذاكرتي المواربة والمختزلة، وبدأت أهلوس:
إن شعبنا العظيم يتعرض لأبشع أنواع الهجمات الإمبريالية والاشتراكية والليبرالية والنوستالجيا ووهن الأمة، وإن المعارضة العميلة معارضة الخمس نجوم، أي نجمتي علمنا، وثلاثة نجوم لعلمهم المعارض، وما بين نجومهم فرجونا نجوم الظهر. إن تلك المعارضة تأكل الكافيار بالمطرقة والسندان، ومن خلال مواقعها توهن الأمة. ووالدتي منذ سنوات أصابها وهن الأمة، وتعيش على كرسي متحرك وتأكل الموز بالعرض، والمعارضة حاملين السلّم بالطول والنظام بالعرض.
وقبل أن تنتهي مدة الدقيقتين التي خصصها لي المحقق، نكزني بكعب قدمه وسألني "ما معنى النوستالجيا؟" بعد أن ناولني ثياب توحي بلباس القوات الرديفة التابعة لإيران، وقال "بإمكانك العمل ضمن صفوف هذه الجماعة الموالية لنا ولولاهم لما كنت كاتب وتكتب".
وفتح الباب أمامي..
عادت الذبابة تحوم حولي بجنون ودون أن أكشها لعلها تكش أفكاري الشيطانية.
عادت الفكرة تنكزني من جديد، وهذه المرة بدأت تتطاير من الورق لتملأ رأسي المغطى بالعمامة السوداء.
خلعت العمامة أمام المرآة، ومسحت براز الذبابة عن رأس أرنبة أنفي. تنفست الصعداء واحتسيت الكأس الخامس من الكحول الرديء، ونفضت دماغي لعل فكرة محايدة تحتله وأكتبها وأرسلها وأقبض عليها نصف مخصصاتي من قوت يومي وكحولي. لكن كالعادة انقطعت الكهرباء.
في انتظار الكهرباء
عليّ الانتظار خمس ساعات لحين عودة التيار الكهربائي لأقل من نصف ساعة. لعل في هذا الوقت أكون قد رتبت أفكاري. على ضوء اللدات، تناولت القلم من جديد وعدت إلى الكتابة، لكن هذه المرة لمواقع كردية مدعومة من أمريكا وباسم مستعار أزاد صقر الصخر.
أعرف أنهم سيحبون الاسم، وأعرف أكثر أن المواقع التركية إذا عرفت أني صاحبه ستمنعني من النشر لديها ولدى من تدعمهم. صه وليكن.
عادت الفكرة لتنكزي مرارًا ومرارًا: انتبه الكتابة للأكراد يعني معاداة الأتراك والقطرين أيضًا، وأنت تعلم أن قطر تدعم ماديًا أكثرية المواقع.
تركت القلم جانبًا وصرت أبحث عن الذبابة.
طال الانتظار للكهرباء والنت، وغابت على نحو غير عادي الذبابة.. ومع نوَسان ضوء اللدات والكآبة غفوت لدقائق. ماذا كنت تحلم يا حيوان؟
-والله يا سيدي ....
وهنا عادت الذبابة للتشويش بطريقة مرعبة وكأنها تستغيث. قلت محدثًا نفسي ... معقول شاهد ما كنت أحلم به؟ يا للكارثة. وتذكرت أن كاتب عربي حلم بأنه اغتال رئيسه فهرب إلى أوروبا، وعندما سئل لماذا هربت أجابهم عن الحلم وخوفه من أن يكون رئيسه قد شاهده.
بس أنا حلمي صغير، هو أن أكتب بمواقع ومجلات خارجية، لأن كل ما حولي يضج بالأفكار المرعبة مقابل حفنة من الدولارات. حتى الحلم صار بده حلم.
- والله يا سيدي ما كنت أحلم، كنت بكابوس.
المحقق: أحكي عن كابوسك قبل ما كوبسك.
- كابوس يا سيدي مكبوس بأعداء الوطن من النوستالجيا وغيرهم.
تناولت القلم ووضعت أمامي كتاب رأس المال لماركس، والمنطلقات النظرية لحزب البعث الشيوعي، وبدأت بكتابة مقالة لموقع يدعمه، ضحك الرقيب الساكن داخلي، وهنا تذكرت المثل السوري القديم "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس".
ركلت الكتب جانبًا، وحاولت الكتابة لمواقع تدعمها أمريكا وهي كثيرة. فتذكرت يوم أن احتل الأمريكان العراق. وكيف تعلموا الدرس. وكيف أنهم وقت مطحنتنا السورية استفادوا من مثلنا الذي يقول فخار يكسر بعضه، فاحتلوا نفطنا دون أن يخسروا جندي ولا حتى أن تغبر ثيابهم، ومن ثم لن يحتاجوا إلى مقالي وربما لن يدفعوا له.
فنجان قهوة
سأكتب إذًا عن مرتزقة الكتاب الذين يكتبون بالكثير من المواقع والصحف التي تعمل لمن يدفع أكثر.
تنفست الصعداء واحتسيت الكأس الخامس من الكحول المغشوش. تناولت القلم وكتبت بينما احتسي الخمر ...
محيت كلمة الخمر لخوفي من أن يكون رواد المواقع إسلاميين متشددين، فكتبت وأنا أشرب المتة المشروب الأكثر شعبية في الساحل السوري. متة؟ تساءلت: متة؟
ضحكت سيمنعون نشرها ربما لأن كاتب المقال يشرب المتة لظنهم أن من يشرب المتة مؤيد للنظام.
هنا لمع الحل بعقلي: كوني مثقف، سأكتب "وأنا احتسي القهوة السادة"، وأضع داخلها المتة والكثير من الكحول.. وهكذا أكون قد مرقت مشروبي من رقابتهم كمثقف مختبئ بالقهوة، وأخيرًا اخترت اسم مستعار ولن أتنازل عنه علي صفر، نعم صفر وليس صقر. فيكون بيني وبين اسمي الحقيقي نقطة واحدة.
مع نوَسان ضوء اللدات والكآبة، غفوت لدقائق وإذ بالمحقق أمامي من جديد: ولك بماذا تحلم وتكتب يا حيوان؟
استيقظت مرعوبًا، وتمعنت بما كتبته وكانت الصدمة الجميلة التي ستحميني من المسائلة أن أوراقي لا زالت بيضاء. دهشت أكثر وأنا أقلبها، فإذ بالورقة الأخيرة مكتوب بنهايتها المقالة بقلم علي صقر.
أمعنت النظر، ولأنني متأكد من اختياري اسم علي صفر دققت فإذ بالذبابة قد وضعت برازها بجانب نقطة الفاء لتؤكد لهم ولي أن كاتب المقالة علي صقر.
- والله يا سيدي اسمي علي صفر وليس علي صقر. وإذا لم تصدقني اسأل الذبابة.