اعتادت نوال أكرم* التبرع لمؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان"؛ تجمع كل فترة مبلغًا من أفراد عائلتها في صورة زكاة يخصصونها لحماية المشردين من برد الشوارع، وتتسلم إيصالًا بقيمته يعلوه شعار المؤسسة، وكان ذلك هو الحال لمدة سنتين قبل أن يطرأ على الإيصالات الأربعة الأخيرة شيء غريب.
منذ بداية العام الماضي، وهو الثالث في عمر تبرعات نوال للمؤسسة، بدأت المرأة التي جاوزت الستين، تتسلم إيصالات تحمل اسم مؤسسة أخرى اسمها "إنقاذ حياة"، ولما سألت عن ماهيتها "قالولي دي مؤسسة للأطفال المشردين، ومعانا لإنقاذ إنسان للمشردين الكبار، بس الاتنين نفس المؤسسة ونفس الكيان"، وفق ما ذكرت للمنصة.
لم تطمئن نوال التي تُسلِّم أموالها لمندوب من المؤسسة إلى ذلك الرد، فاتصلت برئيس المندوبين السابقين في المؤسسة، خليل حسونة، الذي أكد لها الكلام نفسه، أنهم "كيان واحد تحت إدارة شخص واحد هو محمود وحيد".
هدأ ذلك التأكيد شكوكها قليلًا فعادت للتبرع بعدها لثلاث مرات متتالية "مش المفروض دول أهل ثقة؟ مش محمود وحيد من صناع الأمل ومتكرم في دبي؟ اتبرعت 3 مرات بعدها، وكل الإيصالات جاتلي باسم إنقاذ حياة".
المؤسسة والمؤسسة الموازية
لم تكن نوال وحدها من واجهته الشكوك، فحاتم زهران، أحد مؤسسي المؤسسة وأمين صندوقها السابق، ساوره القلق نفسه بعد تلقيه اتصالًا من متبرعة أخرى "تشتكي أنها طلبت التبرع لمؤسسة معانا لإنقاذ إنسان، وفوجئت بإيصال تبرع باسم مؤسسة إنقاذ حياة"، حسبما يوضح للمنصة.
لكن زهران الذي شك "في أداء رئيس مجلس الإدارة وكيفية إدارته للمؤسسة"، قرر البحث في أمر ذلك التغيير حتى توصل إلى معلومات جعلته يحرر محضرًا في قسم شرطة الدقي، حمل رقم 2692 لسنة 2022 إداري، يتهم فيه رئيس مجلس الإدارة وعدد من الموظفين، أغلبهم من أقاربه، بتلقي تحويلات خارجية على حسابات بنكية خاصة تعود لموظفين يعملون في الجميعة، وتبرعات على فودافون كاش لا تخضع لرقابة وزارة التضامن.
ويضيف زهران "الأهم إني اكتشفت نوعين من الايصالات بأشكال مختلفة باسم مؤسسة إنقاذ إنسان، وإيصالات بدون الرقم المتسلسل باسم مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان".
أُشهرت مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان في 8 سبتمبر/ أيلول عام 2016، وتتخصص في رعاية من هم بلا مأوى أو المشردين من جميع الأعمار ومن الجنسين، ويتابع صفحتها الموثقة على فيسبوك أكثر من مليون شخص. توثق الصفحة إنقاذ رئيس المؤسسة، محمود وحيد، المشردين من الشارع دون إخفاء وجوههم.
أسس المؤسسة أربعة أشخاص هم محمود وحيد، وزوجته إيمان عادل، وحاتم زهران، وزوجته دلال محمود. ويتولى محمود وحيد منصب رئيس مجلس الأمناء بينما تتولى شقيقته شيماء منصب الأمين العام، ويعمل أربعة من أقاربه من الدرجتين الأولى والثانية في وظائف إدارية في المؤسسة.
توسعت المؤسسة بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، بدأت من وحدتين سكنيتين في منطقة أكتوبر واحدة مخصصة للنساء وأخرى للرجال، وكل منهما تضم خمسة أشخاص بلا مأوى، حتى افتتحت في نهاية عام التأسيس مقرها الحالي في شارع طهران بالدقي. وتملك حاليًا مقرًا للرجال في فيلا بالدقي، وآخر للنساء في فيلا بالهرم. كما خصصت وزارة التضامن للمؤسسة ثلاثة مبانٍ ضخمة في دور التربية في محافظة الجيزة، لرعاية المشردين من الأطفال والنساء والرجال.
ويتولى محمود وحيد كذلك رئاسة مجلس إدارة مؤسسة"إنقاذ حياة"، التي تأسست في عام 2019، لتنتقل لها أصول المؤسسة الأولى في حالة حلها "ولكنه استغلها كبوابة خلفية لتلقي التبرعات" وفق ما يقول زهران.
وفقًا للمادة 31 في لائحة مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان "تؤول أموال المؤسسة في حالة حلها إلى مؤسسة إنقاذ حياة للتنمية المشهرة برقم 6690 لسنة 2019".
ولا يمنع قانون تأسيس الجمعيات الأهلية رقم 149 لسنة 2019 تولى شخص واحد تأسيس أكثر من جمعية أهلية أو مؤسسة، وهو ما يطالب القانوني أحمد حشمت بإعادة النظر فيه "لأنه يمكن أن يستغل كطريق لإخفاء أو تتويه التبرعات".
المنصة تطلب التبرع
تواصلت معدّة هذا التقرير مع المؤسسة بغرض التبرع بمبلغ 50 ألف جنيه تحت اسم مستعار هو "جيداء أحمد". اتصلت بالخط الساخن الموضح على الصفحة الرسمية لمؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان"، فردّت مسؤولة كول سنتر المؤسسة، وبعد تلقيها طلب التبرع بالمبلغ ردّت "حضرتك عايزة التبرع زكاة أم صدقة علشان نكتب في الإيصال".
في اليوم التالي جاء مندوب تابع للمؤسسة ليتسلم التبرع، ومعه إيصال استلام باسم مؤسسة "إنقاذ حياة" مرفقًا به ملصق دعائي لمؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان" تحمل صور مشردين. رفضت معدّة التقرير التبرع وطلبت التواصل مع رئيس المؤسسة محمود وحيد.
وجاء رد محمود وحيد "الاتنين مؤسسة واحدة، وأنا اللي بديرهم، وبيعملوا نفس النشاط وهو خدمة المشردين وعملت بينهم بروتوكول داخلي مشترك. وبعدين إحنا شغالين كدا من سنة 2019، لو متضايقة أبعت لك إيصال تاني باسم معانا لإنقاذ إنسان".
وعن سبب تحويل أموال التبرعات الموجهة لمؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان" إلى مؤسسة "إنقاذ حياة" قال وحيد "كان لازم نلاقي طريقة تانية نأمن بيها فلوس التبرعات، الحساب البنكي لمؤسسة معانا أحيانا بيتعطل لمدة شهر".
أنهت معدّة التقرير المكالمة، وبعد دقائق تلقت مكالمة أخرى من موظفة الكول سنتر في مؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان" التي قالت إن مؤسسة إنقاذ حياة متخصصة في مساعدة الأسر الفقيرة وتقوم بتركيب وصلات مياه وتسقيف منازل بينما مؤسسة "إنقاذ إنسان" نشاطها مرتبط بإنقاذ المشردين، واعتذرت بأنها لم توضح الفرق في البداية.
احتفظنا بصورة من إيصال مؤسسة "إنقاذ حياة" التي تم تأسيسها باسم محمود وحيد المشهرة برقم 6690 عام 2019 و لم نجد لها صفحة على فيسبوك أو صور للأنشطة الخيرية التي تقوم بها.
ويبلغ متوسط التبرعات التي تتلقاها مؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان" مليون جنيهًا شهريًا، بحسب زهران.
ويقول خليل حسونة، رئيس المندوبين سابقًا في مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان، "شهدت عدة مواقف تثير الشك أثناء عملي في المؤسسة". بسبب هذه المواقف حسبما يوضح للمنصة "شعرت بالذنب، وتركت عملي في شهر مايو (أيار) الماضي".
يحكي حسونة عن تجربته في مؤسسة معانا قائلًا "كنت مسؤولًا عن إدارة التحصيل ويعمل معي 13 مندوبًا، لحد ما في مرة اتصلت متبرعة من الإسكندرية وطلبت التبرع بـ 50 ألف جنيه في شهر أبريل (نيسان) الماضي، وعندما وصل لها المندوب قالت إن مندوبًا آخر سبقه وحصل على المبلغ وأعطى لها إيصالًا من مؤسسة إنقاذ حياة".
ويتابع "في البداية أخبروني أن الجمعيتين تعملان تحت نفس المظلة، وهكذا كنت أرد على تساؤلات المتبرعين، ولكن لاحظت أن مبالغ التبرعات الكبيرة تحصل بايصالات باسم إنقاذ حياة بينما المبالغ الصغيرة تحصل بإيصالات معانا لإنقاذ إنسان".
ويضيف "لجأت إلى حاتم (زهران) أمين الصندوق، في البداية قال إن هناك خطأً غير مقصود. ولكن عندما تكرر الأمر بشكل مستمر أخبرني أن رئيس مجلس إدارة المؤسسة يتلاعب بالتبرعات، ويترأس جمعيتين، ويرسل إيصالات باسم مؤسسة إنقاذ حياة للمتبرعين عندما يطلبون التبرع بمبالغ كبيرة لمؤسسة إنقاذ إنسان".
كول سنتر وكول سنتر موازٍ
آلية تلقي التبرعات داخل مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان تتمثل في أن هناك كول سنتر، يتصل بالمتبرعين ويتلقى مكالماتهم، ثم يرسل مندوبًا يتلقى التبرع ويمنح المتبرع إيصالًا، بينما يعاود المتبرع تصوير الايصال وإرساله إلى من هاتفه من الكول سنتر مرة أخرى لتسجيله، بحسب قول زهران.
ولكن في عام 2019، أصبح لمؤسسة معانا لإنقاذ إنسان مركزين للاتصال وتلقي التبرعات، بعدما أصر رئيس مجلس الإدارة على خلق نظام موازٍ بالكامل، بحسب حاتم زهران، الذي يوضح أن وحيد كوّن فريقًا تابعًا له لتولي المتبرعين الـ VIP، وهو ما تحول فيما بعد إلى نظام موازٍ متكامل لتلقي التبرعات ذات المبالغ المالية الكبيرة.
يقول زهران إن القائمين على صفحة المؤسسة على فيسبوك يرسلون للمتبرعين خارج مصر أرقام حسابات بنكية لا تخص المؤسسة، بل موظفين فيها يرتبطون بصلات قرابة أو صداقة مع رئيس مجلس إدارة المؤسسة، وأنه أورد ذلك في البلاغ الذي حرره، وفي شكوى قدمها لوزارة التضامن الاجتماعي، حصلت المنصة على صور منهما.
اقتحام مقر المؤسسة
يؤكد زهران أن مواجهة رئيس مجلس الإدارة بالمخالفات المالية السابقة، نتج عنها فصله من منصبه كأمين للصندوق، واقتحام مقر المؤسسة، والاستيلاء على الأوراق والمستندات.
وحرر أمين صندوق مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان، محضرًا آخر، حمل رقم 9308 لسنة 2022 جنح الطالبية، ضد رئيس مجلس الإدارة وآخرين باقتحام المؤسسة وتمزيق بعض الدفاتر واستبدال دفاتر أخرى بها، كما أمدنا بتسجيل فيديو التقطته كاميرات المراقبة، يظهر فيه أشخاص يقتحمون مكانًا قال إنه مقر المؤسسة، ويحطمون بابه عنوة.
لو عايزين تقولوا إن فيه تقصير في الجهات الرقابية في الدولة انشروا الكلام ده
كما تقدم زهران بتظلم إلى رئيس نيابة الدقي، بخصوص حفظ محضر سابق رقم 2692 لسنة 2022، اتهم فيه وحيد بالاستيلاء على المال العام واستغلال النفوذ والتواطؤ مع موظفين عموميين في وزارة التضامن وتلقي أموال من الخارج. وأرفقه بمحفظة مستندات تضم صورًا من إيصالات المتبرعين وأرقام الحسابات البنكية، وصورًا من محادثات على واتساب ورسائل من صفحة المؤسسة الرسمية، تطالب بالتبرع على حسابات بنكية خاصة، لا تمتلكها المؤسسة وغير مسجلة لدى وزارة التضامن.
الاحتماء بالجهات الرقابية
عند مواجهته، رد رئيس مجلس إدارة مؤسسة "معانا لإنقاذ إنسان" محمود وحيد، بأن كافة التبرعات يتم تلقيها بالطرق الشرعية الخاصة بالمؤسستين، ويتم إرسال إيصالات موثقة. أما عن إرسال إيصالات باسم مؤسسة "إنقاذ حياة" فقال، "من حقي تلقي التبرعات على أي من المؤسستين، وقمت بعمل بروتوكول داخلي بينهما، ووزارة التضامن تشرف على أموال التبرعات".
وعند سؤاله عن أنشطة مؤسسة إنقاذ حياة التي لم يظهر لها أي دعاية على السوشيال ميديا، كما لا يوجد لها أي دار لإيواء أو رعاية المشردين، قال وحيد، "مؤسسة إنقاذ حياة لها أنشطة أوسع وأكبر من مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان وتقوم بعدة أنشطة خيرية للأسر الفقيرة وكذلك رعاية المشردين".
وأكد وحيد تلقي مؤسسة معانا لإنقاذ إنسان تبرعات على حساب فودافون كاش، وعند سؤاله عن صاحب الرقم تردد قليلًا قبل أن يجيب أنه باسم مؤسسة "إنقاذ حياة". أما عن شهادة حاتم زهران بأنه حرر محضرًا لتلقي التبرعات في صورة تحويلات خارج مصر على حسابات بنكية خاصة بعيدًا عن طرق الرقابة الشرعية، أجاب رئيس مجلس المؤسسة محمود وحيد أن "جهات التحقيقات الرسمية فقط من حقها البحث والتحري عن ذلك الأمر، لو عايزين تقولوا إن فيه تقصير في الجهات الرقابية في الدولة انشروا الكلام ده"، قبل أن ينهي المكالمة مهددًا بمقاضاة المنصة.
* اسم مستعار للحفاظ على خصوصية المصدر