قمة براتسلافا: من يملأ فراغ بريطانيا في منظومة الأمن الأوروبي؟

منشور السبت 17 سبتمبر 2016

انعقدت أمس في العاصمة السلوفاكية براتسلافا أول قمة أوروبية غير رسمية بدون مشاركة بريطانيا، منذ أن قرر ناخبوها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في استفتاء صادم تم أواخر يونيو/حزيران الماضي. سعي زعماء الدول السبع والعشرين إلي التوصل إلي خارطة طريق لإعادة إطلاق الاتحاد الأوروبي، قبيل حلول الذكري الستين للمصادقة على اتفاقية روما في مارس/آذار المقبل. أسئلة الدفاع المشترك، وحماية الحدود الخارجية، وإعادة هيكلة سياسات الهجرة واللجوء مثّلت المحاور الرئيسية للمداولات، التي أسفرت عن أجندة تفاهمات مبدئية، أعلنت عنها المستشارة الألمانية والرئيس الفرنسي في مؤتمر صحفي عقب انتهاء القمة.

تزامن طرح قضية الدفاع الأوروبي المشترك علي جدول أعمال القمة، مع خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية، مؤكدًا فيه قناعات سابقة بضرورة التوصل إلي صيغة مطورة من التعاون العسكري بين الوحدات الفاعلة في فضاء الشنجن، ومع ما أوردته صحيفة زوددويتشه الألمانية من وثيقة مقترحات توصلت إليها أورزولا فون دير لاين وزيرة الدفاع الألمانية، بالشراكة مع نظيرها الفرنسي جان ايف لودريان بشأن تطوير السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة، بما يُمَكّن بروكسل من ملء الفراغ الناجم عن غياب ضلع فاعل في منظومة الدفاع الأوروبية، ومواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. نحاول في السطور القادمة تحليل الوزن النسبي لبريطانيا في منظومة التعاون الأمني المشترك، والدور الطليعي الفرنسي-الألماني في إعادة إطلاق المنظومة الدفاعية، وما قد تواجهه من تحديات مستقبلية.

بريطانيا..فصول من المبادرة والتردد

حتي صباح الثالث من ديسمبر/كانون الأول عام 1998 لم تكن الطموحات الأوروبية الساعية لتكامل عسكري في إطار فيدرالية سياسية تتعدى حاجز النصوص التأسيسية المفتقدة لأدوات التفعيل والإنفاذ، سواء الواردة في الفقرة الأولي من المادة 42 لمعاهدة ماسترخت، التي أنشأت السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة كجزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية المشتركة للاتحاد الأوروبي، أو تلك الواردة في المادة 43 المُفَصِّلة للمجالات المستهدفة من أية تنسيق دفاعي مشترك في 3 محاور، هي علي التوالي؛ حفظ السلام، منع النزاعات، العمليات ذات الطابع الإنساني أو ما يعرف اختصارًا بمهام بيترسبرج.

بحلول نهاية اليوم التالي تمأسست للمرة الأولي المخرجات النظرية للسياسة الدفاعية الأوربية.كان ذلك عندما أصدر الزعيمان الفرنسي شيراك والبريطاني بلير ما عُرف لاحقًا بإعلان سان مالو، عقب قمة استمرت يومين بحث فيها الطرفان مستقبل الأمن الأوروبي. المبادرة البريطانية-الفرنسية ارتكزت علي نقاط خمس تدور حول صياغة معادلة توافقية للسياسة الأمنية والدفاعية الأوربية المشتركة، وإنشاء قوة عسكرية أوروبية، قادرة علي التحرك سريعًا في مواجهة الأزمات المستحدثة، التي لا يتحرك حلف الناتو لحلها، وتوفير هياكل مؤسسية قادرة علي التخطيط الاستراتيجي، وتقييم المواقف الأمنية، وتحليل مصادر الاستخبارات.

الدوافع كانت جد متباينة بين محوري المبادرة. فبينما كانت الاستقلالية العسكرية عن المظلة الأمنية الأمريكية محركًا للتواجد الفرنسي في المبادرة، كانت بريطانيا تطمح لأن يتحول التنسيق الدفاعي الأوروبي لمنصة يمكن الاعتماد عليها أميركيًا في مناطق النزاع التي قد تُحجم واشنطن عن التدخل فيها. التوافق علي صياغة بنية عسكرية أوروبية متمايزة كان، علي اختلاف الغايات، تطورًا حتميًا في مستقبل الأمن الأوروبي، في ظل الصراعات العسكرية التي نشبت بين مكونات الجمهورية اليوغوسلافية، وكان مدعومًا من الإدارة الأميركية التي رأت في الوجود البريطاني المكثف ضمانًا كافيًا لعدم انجراف السياسة الدفاعية الأوروبية للحد الذي يسمح بإنشاء جيش أوروبي موحد، كبديل أوروبي عن حلف الناتو، ومنافس للنفوذ العسكري الأمريكي في العالم.

بعد أيام من انتهاء 78 ليلة من قصف الناتو ليوغوسلافيا، دخلت المبادرة البريطانية –الفرنسية موضع التنفيذ، عندما تبنت قمة مجلس أوروبا في "بون" مخرجاتها. صيغت السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي تحت مسمي ESDP  وتم توفير الهياكل التنظيمية بإنشاء اللجنة العسكرية الأوروبية EMC لتقديم التوصيات العسكرية للمجلس الأوروبي، وخلية تخطيط عسكرية للاتحاد، ولجنة سياسية وأمنية تشمل موظفين بدرجة سفراء، فضلًا عن استحداث منصب سياسي لإدارة المنظومة الأمنية المشتركة، وهو منصب الممثل الأعلي للسياسة الخارجية والأمنية المشتركة، الذي شغله خافيير سولانا. أما التطبيق الفعلي الأول للسياسة الدفاعية المشتركة فقد تحقق في العام 2002 عندما أرسل الاتحاد الأوروبي بعثة مكونة من 130 شرطي لبناء قدرات الشرطة المحلية في البوسنة والهرسك، فيما عرف بعملية EUPM.

الضبط البريطاني لاستراتيجيات الدفاع الأوروبي المشترك بما يحقق غايات الاتحاد في تطوير بنية دفاعية مستقلة، ويحفظ مصالح حلف الناتو بعدم تضارب الاختصاصات ظهر جليًا في مرحلة مفصلية لتطور المشروع الأوروبي. توصلت  بروكسل في قمة هلسنكي في ديسمبر عام 1999 إلى اتفاق مبدئي طموح بإنشاء قوة عسكرية أوروبية مشتركة بطاقة بشرية قوامها 60 ألف جندي، وترسانة من التجهيزات جوية وبحرية تضم 400 طائرة قتالية و100 بارجة، قادرة علي الانتشار السريع خلال مدة أقصاها 60 يوم. لكن قمة الناتو  في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002 في العاصمة التشيكية براج استبقت تاريخ الإعلان عن تأسيس القوة القتالية الأوروبية في 2003، باستحداث قوة تدخل سريع قوامها 21 ألف من قوات النخبة. أصبح هناك قوتان متماثلتان من حيث الاختصاص في المهام قوة التدخل السريع للناتو NRF ونظيرتها الأوروبية ERRF .هنا ظهرت المبادرة البريطانية في القمة الفرنسية-البريطانية في La Touquet فبراير 2003، لتطوير مفهوم جديد لقوات التدخل الأوروبي السريع، مختلف كلية عن ذلك المطروح في هلسنكي. قوات قتالية متعددة الجنسيات، لا تزيد عن ألفي جندي قادرة علي التحرك لتأمين المصالح الأوروبية.

بعد توقيع اتفاق السلام بين الحكومتين الكونغولية والأوغندية في العاصمة الأنجولية لواندا في 2002 الذي أنهي الحرب الكونجولية. بدأ انسحاب القوات الأوغندية من "إقليم إيتوري" شرق الكونغو تدريجيًا، لتحل محلها قوات حفظ السلام الأممية المكونة في معظمها من جنود من الأوروجواي. خَلّف فراغ القوة الناجم عن انسحاب الجنود الأوغنديين بشكل كامل في 6 مايو/آيار 2003، رغبة جارفة لدي الميلشيات الكونجولية المحلية وفي مقدمتها ميليشا UPC  في السيطرة علي الإقليم الحافل بتاريخ من الاضطراب العرقي. التجهيزات المتواضعة لقوات حفظ السلام - لم تنجح في احتواء تمدد نفوذ الميلشيا، وبالتبعية تفاقم الأزمة الإنسانية التي بدأت ملامحها في الظهور سريعًا بتهجير قرابة 50 ألف مدني. بادر الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بإرسال خطاب لمجلس الأمن بضرورة تحرك قوة عسكرية من إحدى الدول الأعضاء لتثبيت اتفاق السلام ومنع وقوع كارثة إنسانية بحق مدنيين.

الاستجابة الفرنسية أتت مباشرة في خطاب ممهور بتوقيع شيراك في 28 مايو عن نية باريس التدخل بعملية عسكرية أطلق عليها اسم "مامبا". سرعان ما تغيرت القناعات الفرنسية لصالح "أَوْرَبة" العملية، ومشاركة دول الاتحاد الـ 14، تحت مظلة السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة ESDP، وعليه تم تغيير اسم العملية لتصبح Artemis. أقرها مجلس الأمن في 30 مايو، ووافق عليها مجلس الاتحاد الأوروبي في 12 يونيو. تم تشكيل قوة عسكرية أوروبية قوامها 1785 جندي بقيادة الضابطين الفرنسيين، الجنرال برونو نوفو، والجنرال جان بول تورنيه. استمرت العملية العسكرية حتي 30 سبتمبر ونجحت في طرد الميليشات والسيطرة علي اشبتاكات مخيم مالا وإرساء الأمن، ومن ثم تسليم الإقليم تدريجيًا لقوة حفظ سلام أممية مكون من 5000 جندي من نيبال وبنجلاديش وباكستان، حتي لحظة الانسحاب النهائي.

من رحم العملية الكونجولية وُلد للمرة الأولي التطبيق العملي للرؤية البريطانية عن الطبيعة الجديدة لمهام وتشكيل قوات التدخل الأوروبي السريع، مفهوم Battle Groups؛ وهي مجموعات قتالية متعددة الجنسيات، تتمتع بإمكانات دعم بحري، جوي، طبي، لوجستي، يتراوح عدد جنودها ما بين 1500 -2200 جندي، قادرين خلال 10 أيام علي التعبئة والانتشار في أي بقعة تمتد علي دائرة قطرها 6000 كم من بروكسل، وتأدية مهام بيترسبرج لمدة زمنية قد تمتد لـ 120 يوم. اكتمال الغطاء السياسي بتوافر الدعم الألماني مَكَّن من تدشين المفهوم في 10 فبراير /شباط 2004، وتوفير "آلية أثينا Athena Mecanismus" التي تنظم تمويل العمليات، انطلاقًا من قاعدة Costs Lie where they fall لتوزيع الأعباء المالية علي الدول المشاركة قياسًا علي حجم مساهمتها العسكرية فقط.

استدارة لندن الجزئية طيلة فترة حكم العمال عن عقيدتها الراسخة بوجوب الاحتفاظ بمسافة واسعة عن أي صيغة تكاملية من شأنها تعزيز سلطة بروكسل ومبادرتها بإنشاء السياسية الأمنية والدفاعية المشتركة، وتطوير مفهوم المجموعات القتالية. كل ما سبق يجّب مثالب الدور البريطاني بتفعيل "10 داوننج ستريت" كوابحها المؤسسية لعرقلة تكامل عسكري شامل، كما حدث في استخدام الفيتو للاعتراض علي تطوير مهام وكالة الدفاع الأوروبية. حتي مع النكوص عن الالتزامات المعنوية منذ بداية حكم المحافظين في 2010 وإحجامها الواضح عن قطع خطوات أكبر، بل والوقوف في وجه الأفكار الداعية لإنشاء مقر قيادة عمليات مشتركة، واستعادتها نبرة التأكيد الحادة علي دور الجيوش الوطنية المتفرد في رسم السياسات الدفاعية، ظلت بريطانيا فاعلًا رئيسًا في السياسة الدفاعية الأوروبية المشتركة، من شأن غيابه أن يعيد طرح سؤال الدفاع، في وضع بالغ الحساسية، تواجه فيه أوروبا أخطارًا مضاعفة، مثل الإرهاب، وتمدد النفوذ العسكري الروسي، وتأمين الحدود الخارجية في مواجهة نازحي الحروب.

 

الدور الطليعي الفرنسي- الألماني

غابت الإجابات النموذجية لسؤال ملء فراغ بريطانيا في منظومة الدفاع الأوروبية المشتركة. قرار الانسحاب كان مربكًا للمؤسسات فوق القُطرية ومؤسسات صنع القرار الوطنية وحتي التكتلات الأوروبية البينية التي طالما سادت مواقفها درجة واضحة من التوافق المشترك. في حين طالبت المجر والتشيك ألمانيا بالإسراع في تشكيل جيش أوروبي موحد، عارضت باقي أعضاء دول تجمع فيزجراد، بولندا وسلوفاكيا، إنشاء سلطة عسكرية فيدرالية تحد من صلاحيات الجيوش الوطنية.وبينما تحدث رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر عن أفق إنشاء جيش أوروبي موحد، تراجعت مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمن فريدريكا موجريني خطوة للوراء بالتأكيد علي مركزية السلطات المحلية في اختصاصات الدفاع.

برزت من جديد مركزية قلب القوة الصلب للمشروع الأوروبي، المحور الألماني-الفرنسي، في قيادة الجهود الأوروبية نحو إيجاد صيغة مثلى للأمن الأوروبي. بحسب صحيفة زود دويتشه الألمانية توصل وزيرا دفاع البلدين إلي ورقة مقترحات تمهيدية حول التغيرات الواجب استحداثها لمواجهة تحديات خروج بريطانيا. لم تقفز المقترحات خطوات واسعة للأمام تجاه إنشاء جيش فيدرالي أوروبي، بكل ما قد يتبعه من استثارة المخاوف الروسية واستنفار الحس القومي لدي دول وسط وشرق أوروبا. ولم تترك في الوقت نفسه مسألة تعزيز التكامل الأوروبي حبيسة للقرار البريطاني النهائي بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، ولا للمخاوف الشعبوية المتنامية. لا يمكن فصل المقترحات الفرنسية-الألمانية بإنشاء مقر قيادة عمليات عسكرية مشتركة، وأكاديمية عسكرية أوروبية، واستحداث أنظمة مراقبة مشتركة بواسطة الأقمار الصناعية وتبادل وسائل لوجستية، عن سياق تاريخي أوسع من التنسيق بين الطرفين تجاه تكامل عسكري شامل.

الدور الطليعي الفرنسي-الألماني في تنسيق السياسات الأمنية والدفاعية المشتركة يعود بجذوره إلي منتصف الستينيات. آنذاك مثّل الاستقلال السياسي والعسكري الفرنسي وبالتبعية الأوروبي عن المظلة الأميركية مُحددًا بارزًا من مُحدّدات العقيدة الديجولية. عارضت فرنسا ديجول انضمام بريطانيا للتجمع الاقتصادي الأوروبي انطلاقًا من اعتبارها قوة ليست أوروبية وإنما قوة محيطة أقصي مراميها السياسية أن تكون رأس حربة للنفوذ الأميركي داخل أوروبا. وبدأت حقبة من القطيعة مع القيادة العسكرية لحلف الناتو، بقرار ديجول الانسحاب في العام 1966 احتجاجًا على تصاعد الهيمنة الأميركية علي الحلف بما يمس بالسيادة الوطنية الفرنسية في رسم السياسات الدفاعية.

التغيرات الجيبوليتكية المدفوعة بإدراك ذاتي لحتمية إيجاد مركز مستقل لباريس في عالم متغير ينتقل فيه مركز القيادة تجاه واشنطن، وتلك الجبرية المدفوعة بحركات التحرر الوطني التي جففت نقاط الارتكاز الفرنسية بصيغتها الكلاسيكية في الشمال الأفريقي وأفريقيا جنوب الصحراء، أضافت مرتكزًا جديدًا للعقيدة الديجولية، بضرورة تطوير العلاقات-الفرنسية-الألمانية كمفصل تتكيء عليه باريس في سعيها لتشكيل مظلة اقتصادية-دفاعية تضمن لها موقع السيادة في الفكرة الأوروبية. في هذا السياق أتى اللقاء التاريخي بين الرئيس ديجول والمستشار أديناور في مطلع يناير من العام 1963 ليدشن فصلًا جديدًا في علاقات البلدين، ويشهد توقيع معاهدة الصداقة الفرنسية-الألمانية، التي وضعت بدورها حجر الأساس في تنسيق التعاون علي المستوي الأمني والدفاعي كجزء من مظلة أوسع للتنسيق السياسي.

الخطوة الأبرز علي صعيد تطوير التنسيق الدفاعي الفرنسي-الألماني تكفل بها ميتران وكول في العام 1987 بتوقيع بروتوكول، أنشئ بموجبه مجلس التعاون والدفاع الفرنسي-الألماني، الذي أفسح الطريق أمام إنشاء الكتيبة-الفرنسية-الألمانية. ثم بعد أقل من عام سادت رغبة في توسيع نطاقها العسكري، جسدتها رسالة  خطية مشتركة لمجلس أوروبا، فإعلان قمة لاروش في العام 1991 بإنشاء الفيلق الأوروبي، الذي نواته الصلبة الكتيبة الفرنسية الألمانية المشتركة. منذ ذلك الحين تطور الهيكل التنظيمي للفيلق الأوروبي أفقيًا بتوسيع قاعدة الدول المنضوية تحت لوائه بعد عضوية كل من أسبانيا ولوكسمبورج وبلجيكا، ورأسيًا باستحداث قواعد تنظيمية، تلائم التطور السريع للفيلق من كتيبة مشاركة في استعراض يوم الباستيل تحت إمرة الجنرال الألماني هيلموت فيلمان، إلي مشروع يحمل في طياته بذور تعاون عسكري أوروبي، قد يفضي في مرحلة متوسطة لإنشاء جيش أوروبي موحد.

يستطيع المحور الألماني-الفرنسي المبادرة مجددًا لإعادة إطلاق مسار التكامل الأوروبي، ليس فقط من خلال تطوير ورقة مقترحات، بل من خلال استدعاء تجربة الفيلق الأوروبي كنموذج لما ينبغي أن يؤول إليه مسار التكامل الدفاعي، وربما أيضًا من خلال إعادة إحياء دوائر تحالف أوسع، تستوعب تمثيل القوي الصاعدة، كما في إحياء مثلث فايمار، باجتماع ضم مؤخرًا وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا في إيترسبرج، من أجل إكمال الضلع الناقص في مثلث ميزان القوي الأوروبي بعد قرار الناخبين البريطانيين بالانسحاب. لا توجد قواسم مشتركة كبيرة بين مواقف الأضلاع الثلاثة، رغم مساعي تطوير التعاون. ألمانيا تجلس بجوار فرنسا علي الجهة المقابلة دائمًا من أي مائدة حوار تجمعهما ببولندا.

في قضايا الهجرة تروج ألمانيا لسياسة الحدود المفتوحة، مدعومة بترحيب فرنسي بالمواقف الإنسانية لبرلين، بينما تقف بولندا إلى جوار المجر الداعية لإغلاق الحدود ورفض استقبال لاجئين مسلمين. سياسات الطاقة هي ميدان آخر لتبيان تمايز المواقف، ترفع ألمانيا من الاعتمادية الأوروبية علي الطاقة الروسية بالخط الثاني من مشروع "نورد ستريم 2" الواصل بين موسكو وجرايفسفالد، بينما تسعي وارسو في مسارين متوازيين، أولهما تقويض المشروع أوروبيًا تحت دعاوي الاحتكار، ودفع المؤسسات الاقتصادية الأوروبية المنضوية تحت لواء "كونسرتيوم نورد ستريم" بالشراكة مع "غاز بروم" الروسية إلي تعليق استثماراتها، وثانيهما تأمين منافذ إمداد بديلة، من خلال استيراد الغاز القطري المُسال إلي "مرفأ شفينويتشه"، وإعادة طرح مشروع أنبوب البلطيق لاستيراد الغاز النرويجي عبر الدانمارك بأنبوب يصل طوله إلي 230 كم.

لحظات التقارب المشترك وإن توافرت، كإنشاء قوة قتالية مشتركة بين البلدان الثلاثة في 2011 بقيادة بولندية، ومقر قيادة بالقرب من باريس، ودعم لوجستي وطبي ألماني، إلا أنها لا تنفي واقع الفشل الوظيفي للمثلث، بعد ربع قرن من نشأته، في بناء شبكة من الثقة والاعتمادية المتبادلة بين أضلاعه، وهو ما يطرح تحديًا أمام إمكانية تطوير المحور الألماني-الفرنسي-البولندي كبديل عن التوازن التقليدي الذي انهار بانسحاب بريطانيا، خصوصًا إذا ما أخدنا في الاعتبار  تصريحات وزير الخارجية البولندي فيتولد فاشيكوفسكي أمام الغرفة الأدنى من الهيئة التشريعية الوطنية، عن التماثل بين العقيدتين البولندية والبريطانية في ما يختص بشئون الدفاع الأوروبي، وأخري تنتقد الأنا الألمانية في سياسات الهجرة والطاقة. فضلًا عن التحدي الأبرز المتعلق بفارق الوزن الضخم في معايير القوة الشاملة بين وارسو ولندن.

ملاحظات ختامية

خسر الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا إحدي قوتيه النوويتين، وأكبر ميزانية أوروبية إنفاقًا علي التسليح، وامتدادًا يصلها بالضفة المقابلة من الأطلسي، وبقدر ما يمثل خروج بريطانيا تحديًا استراتيجيًا أمام الاتحاد الأوروبي، إلا أنه يحمل في ثناياه فرصة لتوسيع مسارات التكامل العسكري من حيث أرادت لها بريطانيا أن تتوقف.

نظريًا تستطيع كلا من برلين وباريس تطوير المشروع الأوروبي تدريجيًا وصولًا- علي المدي البعيد - إلي إنشاء شنجن دفاعي. لكن في الطريق إلي ذلك يتعين علي طرفي المحور الأوروبي، ليس فقط التغلب علي أصوات أوروبية مشككة، بل أيضًا على تباين غاياتهما. الاقتراحات السابقة لبراتسلافا، وكذا الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والأمنية التي دشنتها فدريكا موجريني في قمة بروكسل يونيو/حزيران المنصرم، وإن أظهرت توافقًا علي تطوير درجة أكبر من التعاون العسكري، تؤمّن لبروكسل مزيدًا من السيادة في مواجهة الأخطار الخارجية وفق اقتراب شامل يمزج بين أدوات القوة الناعمة الصلبة، وتتيح لأعضائها موقعًا أكثر فعالية في إطار حلف الناتو. إلا أنها لم تعين علي وجه الدقة ماهية وظائف تلك القوة. أهي قوة مدنية تلائم تصور برلين عن دور أوروبا في العالم في نشر الديمقراطية ومفاهيم الحكم الرشيد وسياسات التنمية المستدامة وحفظ الأمن وإعادة بناء السلام، أم قوة تستند إلي مبادئ السياسة الواقعية، وتُعلي من استخدام أدوات القوة الصلبة عند التحرك تجاه مناطق النزاع، كما تريدها باريس؟

التعاون الدفاعي في مواجهة التهديدات الأمنية محصلة لبناء التضامن أولًا في ميادين أخري أكثر إلحاحًا سواء في سياسات الهجرة أو النمو الاقتصادي، وإنجاز مساومات بين كتل الاتحاد، تراها المستشارة الألمانية حتمية لتجاوز أزمة وصفها رئيس المفوضية الأوروبية في بيان حالة الاتحاد بأنها تهدد وجود الفكرة الأوروبية. لكن الأجواء السابقة واللاحقة لقمة براتسلافا تشي بجلاء عن غياب الإرادة الجماعية لخلخلة الاستقطابات الحادة بين تكتلات الاتحاد وإنجاز مساومات حول القضايا الخلافية.

قبيل عقد القمة دُشن في العاصمة اليونانية تكتل جنوب المتوسط بين اليونان وفرنسا واسبانيا والبرتغال ومالطا واليونان وقبرص، لبلورة موقف موحد تجاه قضايا النمو الاقتصادي، يتعارض مع السياسات الألمانية المتقيدة بقواعد الموازنة المتوازنة والتطبيق الصارم لسياسات التقشف. وعقب انتهاء القمة بدا تكتل فيزجراد، الذي يضم المجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا، متمسكًا بمواقفه المبدئية ومفضلًا إلقاء بيان منفصل بخصوص سياسات الهجرة. في حين دفع عدم الرضاء عن مخرجات القمة بشأن سياسات النمو برئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي لرفض المشاركة في المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه ميركل وأولاند عن إطلاق أجندة براتسلافا.

العائق لا يكمن فقط في اتساع هوة الخلافات الأوروبية. المؤسسات الحزبية التقليدية في القوي الرئيسة بالاتحاد، وفي مقدمتها ألمانيا، تعرضت لأزمة ثقة، تجسدت في تصويت الناخبين لحزب البديل من أجل ألمانيا في برلمانات 9 ولايات، والإطاحة بحزب المستشارة للمركز الثالث في انتخابات ولاية مكلنبورج. يتعين عليها إذن، حال ما أرادت إقناع مواطنيها بحتمية دفع المشروع الأوروبي خطوة للأمام، أن تقدم من الضمانات العملية الكافية لاحتواء تمدد الأحزاب الشعبوية المناهضة لليورو والهجرة، التي تستعد للانتخابات العامة، المتوقع لها أن تشهد بلوغ أول حزب يميني شعبوي عتبة النسبة المؤهلة لدخول البوندستاج، للمرة الأولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.