تصوير حسام السكري
شاطيء زاباجينيا على ضفاف الدانوب في المجر

كشك العم يانوش على ضفاف النيل

منشور الاثنين 20 فبراير 2023

في كشكه الصغير وقف السيد يانوش ومعه سيدتان، يجتهدون لتلبية طلبات طابور قصير وقفت فيه مع آخرين في انتظار وجبة شهية وسريعة عُرف بها المكان. يتناوب يانوش وزوجته وشقيقتها الأدوار فيما بينهم. أحدهم يقف أمام شباك المنفذ للتعامل مع الزبائن، وآخر يصب العجين السائل على سطح الزيت الحار ليصبح فطيرة مسطحة طرية ومقرمشة، ثم يخرجها بعد تسوية جانبيها، ويعلقها على خيط مشدود لتصفية الزيت. في المرحلة الثالثة يتم تغطية الرغيف باختيارات الآكلين التي تتنوع بين الجبن، والقشدة، وشرائح اللحم المقلي المدخن، ورشه من عصير الثوم حسب الاختيار.

فطيرة شهية تعرف باسم لانجوش Lángos، تعرفها شعوب المجر وبعض دول وسط أوروبا. الكشك ذاع صيته محليًا وحصل على مراجعات جيدة في جوجل. وهو واحد من محال عدّة تجتذب الزبائن من العاصمة المجرية بودابست، ومن القرى والمدن القريبة، ومن السياح العابرين بطريق سريع يمر بمحازاة  نهر الدانوب، ثاني أطول أنهار أوروبا بعد الفولجا.

فطيرة اللانجوش المجرية

من أجل الناس

يقع كشك العم يانوش على مدخل "جَيْب" صنع على جانب الطريق، يمتد ليصل إلى شاطئ صغير، يستقبل الزوار للاستمتاع بمشهد انسياب النهر الهادئ، والطبيعة الجميلة على ضفته الأخرى في الشتاء. أمّا في الصيف فتستمتع العائلات والأطفال بهذا كله إلى جوار السباحة وركوب القوارب، وممارسة ألعاب الشاطئ.

قبل الكشك وعند مدخل "الجيب"، خصصت البلدية مساحة لاصطفاف السيارات. في المسافة الممتدة بين الكشك والشاطئ ستجد كشكًا آخر لتأجير الدراجات، وقوارب الكاياك. وفي الجهة الأخرى من "فم الجيب" يوجد منفذ لبيع الآيس كريم، وآخر لوجبات الهامبورجر الخفيفة. وفي مقابله، على الجانب الآخر من الطريق السريع يمكنك أن تدخل إلى مدينة زاباجينيا الصغيرة الهادئة، ذات الألف ومئتي نسمة، للاستمتاع بوجبة شهية في واحد من مطاعمها الثلاثة، أو بشرب القهوة مع حلوى الريتاش الطازجة الشهية من مخبز لا ينتج سواها.

على الشاطئ الصغير نُصبت مظلتان كبيرتان لمن يريد تجنب حرارة الشمس في الصيف بالقرب من بعض الأدشاش (جمع دش) للاغتسال بعد السباحة في النهر. وعلى بعد نحو عشرين مترًا اصطفت أربعة أكشاك لتغيير الملابس، إلى جوار دورة مياه وحمامات لخدمة الزوار. المساحة كلها مفتوحة للجمهور مجانًا ودون رسم دخول لأي مما يقدم فيها من خدمات.

في نهاية الأسبوع، تتحول الساحة بين مدخل الجيب وجراج السيارات إلى سوق صغيرة ينتشر فيها باعة لأنواع لا أول ولا آخر لها من السجق، والسلامي، والمربى، ومعجنات الفلفل والشطة الحراقة التي اشتهرت بها المجر، وصنوف أخرى من الحلوى والفاكهة، يحصلون على مكوناتها محليًا أو يزرعون بعضها في أراضيهم.

الغالبية العظمى من هذه الأنشطة يمكن اعتبارها أعمال "متناهية الصغر". أنشطة عائلية تقدمها مجموعة صغيرة من الأقارب وأحيانًا الجيران تتعاون فيما بينها لتقديم خدمة للمجتمع المحيط واللصيق. في هذه المنطقة الصغيرة، لا يوجد كنتاكي أو ستاربكس أو برجر كنج أو سلاسل من أي نوع، يستثنى من ذلك فقط أحد منافذ سلسلة سوبرماركت SPAR، ومكتب للخدمات البريدية.

مِشّ وجبنة قديمة وعسل

غرست أسناني في لانجوش العم يانوش المقرمش لأول مرة عام 2017 وبعدها تكررت زياراتي، وعرفت أن هذا النموذج يتكرر على امتداد الدانوب. شواطئ ومساحات تقوم الدولة بإعدادها وتنظيفها وتزويدها بالخدمات التي تكون في أغلب الحالات مجانية (موقف السيارات، الحمامات، المظلات)، لتتحول إلى مساحات جاذبة للأعمال متناهية الصغر. ومنذ ذلك الحين تكاثرت علامات الاستفهام في ذهني حول إمكانية استلهام هذا النموذج على امتداد نهر النيل وشواطئه من شمال المحروسة إلى جنوبها.

جيوب ومساحات صغيرة وربما شواطئ، تُعدُّ لاستقبال الزوار. حمامات ودورات مياه نظيفة. مساحات لصف السيارات، وأكشاك لتقديم المنتجات المحلية للمترددين على المكان يستأجرها سكان القرى والمدن القريبة لاستغلالها تجاريًا لتقديم المنتجات الغذائية، والمصنوعات المحلية من ريف وصعيد مصر. وكما يستمتع المترددون على قرى الدانوب بلانجوش العم يانوش، ستقدم هذه الأماكن للمصريين والسياح الفطير المشلتت، والخبز الفلاحي، وبرطمانات المربى المعدة منزليًا، وعبوات الجبنة القديمة، والمش، والعسل، والطحينة.

منتجات محلية تصنعها الأسر ويشارك فيها أبناؤهم وبناتهم وأقاربهم وجيرانهم. أكشاك لبيع خيرات الأرض من خضروات وفاكهة، إلى جانب الأطعمة التقليدية، والمنتجات اليدوية على اختلاف أنواعها.

بؤر للترفيه والمعرفة

مساحات للتنزه والاستجمام وربما للسباحة والتجديف بالكاياك في الأماكن الملائمة لذلك. نماذج مستدامة، لا تنتهك البيئة أو تصادر المساحات العامة لصالح القادرين والأغنياء فقط. نمد الخيال على استقامته ونتخيل أيضًا متحفًا صغيرًا يضم بعضًا من الآثار التي اكتشفت في الأماكن القريبة، لتسهم في تحويل هذه الأماكن إلى بؤر للترفيه والمعرفة بحضارتنا وتاريخنا، وتدفع النشاط الاقتصادي المحلي، وتكون ساحات لمهرجانات ثقافية وفنية.

يمكن أن نسرح قليلًا ونتصور أن هذه البؤر ستكون جاذبة للسياح الراغبين في الاقتراب أكثر من الثقافة المحلية لفهمها والتعلم منها، بما يخلق احتياجًا لأماكن إقامة يتم توفيرها بالشكل الذي تعمل به شبكة إير بي آند بي ‎Airbnb. غُرف تجهز داخل البيوت بمواصفات تسمح باستقبال الزوار ويمكن حجزها عبر شبكة الإنترنت لفترات تطول أو تقصر. منظومة كاملة من النشاط التجاري والثقافي تدعمها الدولة بهيئات لتدريب السكان وتوعيتهم بمهارات التعامل مع السائح، وبمعاير للحفاظ على نظافة وجودة المنتجات والتزامها بالمعايير الصحية.

دورة الاستنزاف المفرغة

لأسباب عدّة يمكن حصرها، لكن يصعب فهمها تمامًا، هناك ميل عنيف لتشجيع المؤسسات الكبرى على الاستثمار، ولاجتذاب الشركات الضخمة لعمل مشروعات ذات واجهات براقة وعناوين مثيرة. وبعد انتهاء الضجة ومرور عدة سنوات يتبين أن هذه المبادرات الضخمة والشراكات الكبرى، أقيمت بقروض ضخمة من البنوك المحلية وبتسهيلات مالية أكثر من مجزية، وإعفاءات ضريبية لفترات ليست بالقصيرة. وتستورد هذه المشروعات كثيرًا من احيتاجاتها من الخارج بالعملة الصعبة، وعندما تحصل على أرباح تحولها إلى دولارات ويوروهات وتضخها خارج البلاد!

بعد انتهاء سنوات العسل والتسهيلات والإعفاءات، توقف هذه الشركات نشاطها، ثم تبدأ دورة أخرى من الاستنزاف بالأشخاص أنفسهم أو بأقاربهم، لتبدأ سلسلة جديدة من الأخبار البراقة، والآمال العريضة، تتمخض بعد سنوات عن النتيجة ذاتها: إعفاءات تُحلب، وأموال تخرج، وسوق تُستنزف، وأوضاع اقتصادية متردية.

في المقابل، تتميز الأعمال الصغيرة المشار إليها بأنها لا تنهك الاقتصاد. فهي لا تعتمد على الاستيراد، ولا تحتاج لتحويل أرباحها إلى عملات أجنبية لضخها خارج البلاد. إذ تقوم بالدرجة الأولى على تسويق المنتج المحلي، وما تحصل عليه من عوائد وأرباح يبقى داخل البلاد ويستثمر في مزيد من النمو، وبالطبع يزيد من حصيلة الدولة ومدخولاتها، إضافة إلى اتساع رقعة المستفيدين بها.

في الولايات المتحدة

في آخر ربع قرن، أسهمت الأعمال الصغيرة في الولايات المتحدة في خلق 66% من مجموع الوظائف. الهيئة الأمريكية لإدارة الأعمال الصغيرة أصدرت تقريرًا عام 2019 جاء فيه أن قطاع الأعمال الصغيرة كان وراء نحو 44% من النشاط الاقتصادي في البلاد، وفي العام نفسه كان مسؤولًا عن خلق ثلثي الوظائف.

في تقرير آخر، تبين أن قطاع الأعمال الصغيرة تمكن وحده من تعويض 60% من خسائر الوظائف التي فقدت في الولايات المتحدة بسبب جائحة الكورونا في العام التالي لمنتصف 2020.

لدينا بالفعل مبادرات لدعم الأعمال الصغيرة ومتناهية الصغر، لكننا نحتاج منظومة دعم وتسهيلات تقودها هيئات الحكم المحلي، توفر "سياقًا" يدفع المشروعات الصغيرة للنمو، ويترجم بعض أوجه نشاطها على أرض الواقع بما يدعم الاحتفاء بالتنوع الثقافي والجغرافي والفني والغذائي للمناطق المختلفة، من أجل تنشيط اقتصاديات المناطق الاكثر فقرًا في مصر.

سياق يسهم في تحويلها لنشاط محسوس يدفع عجلة الاقتصاد ويحسن "جودة الحياة". ليس فقط من خلال مكاسب مالية للعائلات والمجموعات التي تمارسها، لكن أيضًا للمستمتعين بهذه الخدمات والمترددين عليها وللمستفيدين من ظهور مساحات عامة للنزهة والترفيه والمعرفة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.