تصميم: يوسف أيمن- المنصة

في مئوية ثروت عكاشة: ما فعله الضباط الأحرار في الثقافة

منشور الأربعاء 10 مارس 2021

مائة عام مرّت على ميلاد ثروت عكاشة (1921 – 2012)، واحد من أهم من حمل حقيبة الثقافة في مصر، ومن تركوا بصمات لا تمحى في تاريخنا الحديث في الثقافة التي تتصدى الدولة لتقديمها. بل هو أول وزير للثقافة، وقبله كانت الثقافة مهمة المثقفين والمفكرين والأحزاب على نحو مستقل.

أبادر إلى القول إن النهضة الفكرية والأدبية في تاريخنا الحديث اضطلع بها الأفراد، ومع ذلك حققت وأنجزت الكثير، وأثرّت بوصفها حركة مستقلة. أما بعد استيلاء الضباط الأحرار على السلطة عام 1952، فإن الثقافة باتت أمرًا يشغل الضباط ويتولون هم كل ما يتعلّق بها، بل وخصصوا لها للمرة الأولى حقيبة وزارية، بعد الحقيبة الأولى، وزارة الإرشاد القومي وتولاها مدني هو فتحي رضوان أحد مناضلي الحزب الوطني القديم، وواضح من اسمها أنها كانت معنية بفرض الاصطفاف والطاعة والانضباط، وفق تكوين وأهداف ومفهوم الضباط الذين تورطوا في حكم مصر. وحسبما يروي عكاشة في مذكراته الضافية الموثقة والمعتنى بها، فإن الضباط عندما قاموا بـ"حركتهم" لم يكونوا يهدفون إلا إلى الاحتجاج ثم العودة فورا إلى ثكناتهم، لكن تداعيات الحركة فرضت الأحداث والوقائع التالية حتى طرد الملك وتعيين مجلس وصاية لولي عهده.

أما ثروت عكاشة تحديدًا فقد لعب أدوارًا متعددة، وتكاد سيرته الذاتية أن تكون سيرة مصر عشية حرب فلسطين عام 1948، وحتى تقاعده إبان السنوات الأولى من حكم السادات، فضلا عن الدور الرئيس والحيوي الذي لعبه في الثقافة سواء كمسؤول على رأس وزارة تنفيذية، أو ككاتب ومؤرخ للفن التشكيلي، ومترجم تصدى لترجمة أعمال فكرية وأدبية وسياسية مهمة.

ليلة الانقلاب

على أي حال تخرج ثروت عكاشة من الكلية الحربية عام 1939، وشارك في حرب فلسطين، وتعرّف على جمال عبد الناصر في وقت مبكر، واشترك معه في الانضمام للإخوان المسلمين لفترة ليست قصيرة، في الخلية نفسها التي كانت تضم عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين، كما التحق بكلية الآداب وحصل على دبلوم الصحافة عام 1951 لإشباع ميوله التي لم يتيسر له تلبيتها، فقد أتيح له في سنوات صباه أن ينهل من مكتبة البيت الذي نشأ فيه، وأن يعيش في الإسكندرية في سنوات ازدهارها كمدينة مفتوحة على الثقافة والفنون في العالم إبان سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي.

شارك ثروت عكاشة في الإعداد لليلة 23 يوليو من خلال دوره في تنظيم الضباط الأحرار. شارك فعليا في الأحداث التي انتهت بإلقاء القبض على قادة الجيش في مقر القيادة. وحسبما ذكر أيضا في مذكراتي في السياسة والثقافة، التي طبعت عدة طبعات، وبلغ عدد صفحاتها 1088 صفحة، وأعتبرها واحدة من أهم وثائق نظام 23 يوليو حتى عام 1970، عندما غادر عكاشة المسرح، ليتفرغ، بعد كل تلك السنوات للكتابة، حلمه وشغفه الذي لم يتح له أن يتفرغ له، حسبما ذكر، فقد كان مقررًا أن ينضم لمجلس قيادة الثورة، لكنه آثر رفع الحرج عن زملائه واعتذر، وأخلى مكانه لأحد زملائه الذي كان أقدم منه، وفق التقاليد العسكرية.

لا يلقي عكاشة الكلام جُزافا، فمذكراته تضم وثائق حاسمة، من بينها مثلا صور مكتوبة باليد للخطة العامة لليلة الانقلاب بخط عبد الحكيم عامر وإضافات زكريا محيي الدين وتعقيبات جمال عبد الناصر، إلى جانب خطة سلاح الفرسان بخط عكاشة نفسه.

وعندما قرر الضباط تأسيس أول مجلة تنطق باسمهم، وهي مجلة التحرير، عهدوا إلى الضابط اليساري يوسف صديق بتولي رئاسة تحريرها، واختار هو من جانبه الضابط أحمد حمروش وهو يساري أيضًا ليعاونه، لكن مجلس القيادة لم يتحمل المجلة إلا ثلاثة أعداد فقط، وسارع بإبعادهما، وأسندت رئاسة التحرير لثروت عكاشة، الذي كان معروفًا اهتمامه بالصحافة والثقافة، وكان حاصلًا على دبلوم في الصحافة من جامعة القاهرة، كما سبقت الإشارة.

كانت المجلة نصف شهرية وتكتب فيها أسماء لها وزنها آنذاك مثل صلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوي وسعد لبيب وحسن فؤاد على سبيل المثال. واجهت المجلة تدخلات فظة من جانب مجلس القيادة، كان أولها اعتقال عبد الرحمن الشرقاوي فور نشر قصة له اعتبر البعض أن بها مساسًا باللواء محمد نجيب الذي كان قائدًا للانقلاب آنذاك بسبب أصول أمه السودانية. لذلك سارع عكاشة بمقابلة محمد نجيب وترجاه وأقنعه أن الشرقاوي بريء، فأفرج عنه بعد عناء.

ستتكرر هذا التدخلات التي انتهت إلى الإطاحة بعكاشة نفسه بسبب كتابته لمقال عن ليلة 23 يوليو ولم يذكر فيه اسم صلاح سالم، واجتمع مجلس قيادة الثورة وقرر إبعاد عكاشة وديًا وتعيينه ملحقًا حربيًا في برن، لتبدأ مرحلة جديدة في حياته امتدت من عام 1953 وحتى عام 1957، شغل خلالها المنصب نفسه في باريس، حيث حصل من السوربون على الدكتوراه وكان موضوعها عن ابن قتيبة الذي حقق له مجلده "المعارف"، ثم أصبح سفيرًا لمصر في روما.

سنوات النفي الجميل

وعلى الرغم من الظرف الدراماتيكي الذي سبق إعفاءه من منصبه في المجلة ونقله المفاجئ، لكنه، حسبما كتب، أبلى بلاءً حسنا. شارك مثلا في مفاوضات لشراء السلاح، أو الحصول على معلومات عسكرية تتعلق بالصفقات التي تعقدها إسرائيل لشراء السلاح، وربما كان من أهم ما ذكره خلال تلك الفترة ما اعتبره "غدرًا شائنًا" من زملائه أعضاء المجلس الذين بادروا بإرسال ملحق جوي للسفارة المصرية أقدم منه وأرقى رتبة، وهو ما يعني تولي الأخير للمنصب، وتراجع عكاشة لوظيفة اعتبرها لا تليق به، فبادر بتقديم استقالته، لكن عبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين واتصالًا تليفونيًا من عبد الناصر أقنعوه بالعدول، إلى جانب استرضائه بتعيينه ملحقًا حربيًا في السفارة المصرية في باريس.

 

مع جاكلين كينيدي خلال زيارتها للمتحف المصري- الصورة: National Gallery of Art in the John F. Kennedy Presidential Library and Museum, Boston

في باريس كانت أمامه ملفات محددة من بينها مثلا الاحتلال الفرنسي للجزائر والمساعدات العينية والمادية السرية لثوار الجزائر، والتعامل مع ما كان يتم تدبيره في الخفاء عشية حرب 1956، ومن خلال صلات وصداقات خاصة رفض الإفصاح عنها، حصل على الخطة الفرنسية للهجوم على مصر عام 1956 وأرسلها سرًا لعبد الناصر الذي رفض أن يصدقها، لكن فرنسا قامت بتنفيذها حرفيًا.

كذلك يلفت النظر الاتصالات المبكرة جدا وغير المُعلنة مع إسرائيل. ففي ديسمبر 1954 اتصل به دان أفني الملحق الصحفي بسفارة إسرائيل وطلب مقابلته لإبلاغه رسالة هامة، واتفقا على اللقاء في أحد مقاهي الشانزيليزيه، واصطحب عكاشة معه أحد أعضاء السفارة. وبعد لف ودوران تبيّن أن اللقاء كان محاولة لدفع مصر للتدخل وتخفيف العقوبة في قضية حُكم فيها على جواسيس إسرائيليين تم ضبطهم في مصر، وبالطبع أبلغ عكاشة القاهرة بكل التفاصيل، كما أن هناك اتصالا آخر جرى بعد هذا بعدة سنوات، وبالتحديد عام 1958 مع إلياهو ساسون سفير إسرائيل في روما بسبب ما أذاعته الإذاعة العبرية في القاهرة من أن "الحل المناسب للقضية الفلسطينية هو من خلال احتواء إسرائيل في الوحدة العربية". وعندما اتصل ليستجلي الأمر في القاهرة، تبين أن الأمر لا يعدو اجتهادًا شخصيًا من المذيع ولا علاقة له بدوائر الحكم.

واستمرارًا لهذا الدور الذي لعبه، كانت هناك اتصالات استمرت فترة لا بأس بها مع جوزيف جولدن جولان مستشار الشؤون العربية لناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، والتقاه عكاشة للمرة الأولى في شتاء عام 1956، ثم توالت الاتصالات بينهما في غضون عام 1957 عدة مرات، وتضمنت الاتصالات على سبيل المثال أن الأخير ينوي التخلي عن جنسيته الأمريكية وترشيح نفسه لرئاسة إسرائيل، إذا ما لمس موافقة مصر على الحل السلمي، المتضمن العودة لحدود 1948 وإحلال السلام وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، بل وتم اتفاق على إمكانية عقد لقاء بين عبد الناصر وجولدمان في الهند أثناء حضور مؤتمر لدول عدم الانحياز، حتى أن جولدمان أبدى موافقة مسبقة على أن يكون اللقاء سرًا لكن كل ذلك بدا وكأنه مجرد جسّ نبض، لكن المؤكد أن الاتصالات غير المُعلنة لم تتوقف قط.

علاقة خاصة جدًا

من جانب آخر فإن العلاقة الخاصة التي ربطت بين عبد الناصر وعكاشة قبل الانقلاب، لم تكن مجرد زمالة كما سبق بيانه، وظل عكاشة محل ثقة عبد الناصر، وكان الأخير يبادر باسترضائه إثر ما كان يرتكب ضده من تجاوزات وهي كثيرة في حقيقة الأمر، وليس مفهومًا استمرار تلك العلاقة الملتبسة.

فعلى سبيل المثال، وأثناء تولي عكاشة الوزارة للمرة الأولى، استدعاه عبد الناصر غاضبًا ليبلغه بأنه تم تسجيل لقاء حضره يحيى حقي الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس مصلحة الفنون التابعة لوزارة الثقافة، وتم في اللقاء توجيه سباب وسخرية شديدين ضد عبد الناصر من جانب كاتبين لم يفصح عن اسميهما، صحيح أن يحيى حقي لم يتكلم مطلقًا لكن يكفي حضوره، وطلب ناصر فصله من وظيفته، لكن عكاشة أدرك أن مثل هذا التصرف هو فضيحة تصيب النظام قبل أن تسبب ضررًا لحقي، ومازال بعبد الناصر يسترضيه حتى تم تسوية الموضوع المخزي.

وعندما استدعى عكاشة وألح في استدعاء لويس عوض الذي كان يعمل أستاذًا بجامعة دمشق ليعاونه في وزارة الثقافة، اضطر عوض للموافقة بصعوبة، فقد كان وضعه المادي والأكاديمي جيدًا ومستقرًا. وسرعان ما تم اعتقاله بتهمة الشيوعية في حملة 1959. شعر عكاشة بالحزن الشديد فهو مسؤول عن استقدام عوض، فضلًا عن أنه كان يعلم جيدا أنه ليس شيوعيًا. لجأ لعبد الناصر الذي أحاله لوزير الداخلية، الذي استدعى المسؤول الأمني الكبير، وأصرّ الأخير على استمرار اعتقال عوض وهو ما حدث بالفعل، وتطول قائمة الوقائع التي تثبت أن أجهزة الأمن السياسي بالذات كانت لها اليد الطولى، والكلمة الأولى والأخيرة. وعندما تم القبض على مدير مكتب عكاشة وسكرتيره متهمين بأنهما كانا يعدان ما تيسر من النكت السياسية ضد عبد الناصر، لإرسالها للصحفي أحمد أبو الفتح المعارض للحكم والمقيم بالخارج، لينشرها بدوره في كتاب، ثار عكاشة ودعا ناصر للتدخل، وكان لديه من الوثائق ما يثبت براءة المتهمين، لكن أجهزة الأمن أصرّت على استمرار الاعتقال.

 شاعت في البلاد حيلة التسجيل غير القانوني، أي بدون استئذان النيابة، كما استأسدت أجهزة الأمن ولم يكن هناك سلطان لأي جهة عليها. ومن بين التناقضات التي يلمسها القارئ بقوة ما يذكره عكاشة كثيرًا وفي مواضع مختلفة من المذكرات، حول انفراد عبد الناصر بالحكم وعصفه بالديمقراطية، بل و "تحويل البلد إلى إقطاعيات كبرى منفصلة ينفرد بحكم كل منها ضابط من الجيش دون حسيب أو رقيب" حسب تعبيره، ورفضه المطلق للحوار أو الاعتراف بالخلاف السياسي. المدهش والمثير للغضب اعتراف عكاشة بكل ذلك والتدليل عليه بوقائع جرت له شخصيًا، ومع ذلك يقبل وينخرط في عمل متواصل سواء كملحق عسكري أو سفير أو وزير للثقافة.

حقيبة الثقافة

نأتي إلى أهم أدواره وأكثرها تأثيرًا وأبقاها، وهو توليه حقيبة الثقافة لمرتين: الأولى بين 1958 – 1962، والثانية بين 1966 و1970. ويمكن القول بلا أي مبالغة إن كل ما تملكه مصر من أبنية ومؤسسات وفرق فنية ونشر ومعارض ومتاحف ومشروعات في العصر الحديث هي من صنيع وإصرار وتفاني ثروت عكاشة ومن اختارهم معه من المثقفين والعاملين في الحقل الثقافي.

وبعد أن عقد مؤتمرًا عامًا للمثقفين فور توليه الوزارة، لبحث المشاكل والعقبات والموارد، خرج بتوصيات وفهم لأوضاع الثقافة ومشاكلها، وبدأ العمل على الفور، وفق خطة خمسية تم وضعها. على سبيل المثال أنشأت أكاديمية الفنون وقاعة سيد درويش وتأسست فرقة للباليه وأوركسترا القاهرة السيمفوني وفرقة الموسيقى العربية والسيرك القومي وفرقة للفنون الشعبية ودار للكتب، وبيوت للإبداع للفنانين التشكيليين في بيوت وقصور أثرية، ونظام للتفرغ وعروض الصوت والضوء وإنشاء عدد من المتاحف ومؤسسة عامة للمسرح وأخرى للسينما، فضلًا عن مأثرته الكبرى وهي إنقاذ آثار أبو سمبل والنوبة، التي كانت على وشك الغرق بعد بناء السد العالي، واستطاع بجهوده واتصالاته أن يدفع اليونسكو لتبني الحملة الدولية لإنقاذ معبد أو سمبل بتقطيع أحجاره وبناء هضبة بديلة وتركيب أحجار المعبد الشاهقة مرة أخرى في ملحمة كبرى، وبحملة تبرعات دولية شاركت فيها دول العالم المختلفة. كذلك تم تأسيس الثقافة الجماهيرية وإنشاء 25 قصر ثقافة في محافظات وأقاليم مصر المحرومة من الثقافة.

الصوت الواحد

ومع كل ذلك اضطر عكاشة بل دُفع بغلظة للاستقالة مرتين. في المرة الأولى بسبب عدوان مهندس الدعاية عبد القادر حاتم ووزير الإعلام والمدعوم من عبد الناصر شخصيًا على اختصاصات الثقافة، وحاول معالجة الأمر وديًا، لكن حاتم ازداد طغيانًا، فقد كان الوقت وقت الإعلام بوصفه دعاية وضجيجًا وتجييشًا وراء شعارات عالية الصوت ومفرّغة من المعنى، وقت الحشد والتلقين والتدليس، وهي أمور لا يجيدها عكاشة. واللافت للانتباه أن ناصر استجاب لطلب عكاشة بالاستقالة، وقام بضم الإعلام للثقافة تحت رئاسة عبد القادر حاتم، ليرتع ويلعب، ويحوّل الوزارتين معًا إلى بوق ضخم للدعاية.

 

عبد الناصر وثروت عكاشة- الصورة: من أرشيف مجلة فنون بإذن للمنصة

وشهدت مصر آنذاك كوارث عدة في الثقافة وخسائر لا حصر لها خلال السنوات التي تولى فيها حاتم. رفع الرجل مثلا شعار كتاب كل ست ساعات، وهو ما يعني سيل من الكتب والمجلات التافهة وبغرض الدعاية الفجة، التي تعرف طريقها إلى المخازن، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في كل مجالات الثقافة، وسيطر شعار الكم المفرّغ من المعنى على شعار الكيف والتأسيس والجدية الذي كان عكاشة يطبقه.

 اللافت للنظر أن ناصر وافق على الاستقالة، بل ودعا عكاشة ليتولى رئاسة البنك الأهلي المصري، والأشد والأنكى موافقة عكاشة.

 أود هنا أن أشير إلى أن الإنجازات الجبارة والبناء والتشييد، واقتحام أعقد المشكلات وأصعبها في مجالات متعددة في العمل الثقافي، خلال الفترتين اللتين تولى فيهما عكاشة، تحقق أصلا في مجتمع يفتقر لأبسط التقاليد الديمقراطية، ومحكوم بتنظيم سياسي وحيد وفاسد وخاضع لحكم فرد واحد، أي حكم بونابرتي توهم أنه من الممكن تأميم الصراع الاجتماعي والتغطية عليه بالضجيج عالي الصوت. لذلك لم تشهد تلك الفترة تيارات فنية وفكرية تتفتح وتتصارع وتتحاور وتتطور، بل شهدنا صوتًا واحدًا عاليًا جدًا ومفرّغًا من المعنى مثل "تماثيل رخام علي الترعة وأوبرا"، بينما لم تكن هناك في حقيقة الأمر تماثيل رخام على الترعة ولا أوبرا. والسبيل الواحد لتحقيق ذلك هو الديمقراطية التي كان نظام يوليو لا يرفضها فقط، بل ويجرّمها.

وفي النهاية لابد من الإشارة إلى الإنتاج الفكري والفني بالغ الثراء والتنوع الذي تركه لنا ثروت عكاشة، فقد أنجز بمفرده موسوعة ضخمة في الفنون التشكيلية تحت عنوان العين تسمع والأذن ترى وتضم ما يتجاوز العشرين مجلدًا في الفنون التشكيلية والعمارة، لا تتناول الفن المصري القديم فحسب، بل تمتد إلى الفن الإسلامي مرورًا بالإغريقي والروماني والبيزنطي وعصر النهضة، أما في الترجمة فقد ترك بصمات لا تمحى مثل ترجمة الشاعر الروماني أوفيد وأعمال جبران خليل جبران، وترجم أيضا كتاب برنارد شو مولع بفاجنر، وألّف على هامشه كتاب مولع حذر بفاجنر، وترجم أيضا كتاب المسرح المصري القديم لدريوتون وروايات مثل سروال القس لثورن سميث والسيد آدم لبات فرانك، وغيرها وغيرها من الكتب والموسوعات تأليفًا وترجمة. ووفق الثبت البيبلوجرافي الوارد في آخر طبعة لمذكراته، يحصي إحدى وخمسين عملًا لا أظن أن عملًا واحدًا منها يفقد قيمته مع الأيام.