تصميم: يوسف أيمن- المنصة
ومن على مقهى زهرة البستان المقر الرسمي لحرافيش الثقافة وغاضبيها، بدأت الدعوة لإصدار مجلة الكتابة الأخرى كمجلة مستقلة تنشر الأعمال المتجاوزة لكل السقوف

ثلاثون عامًا على "الكتابة الأخرى": صعاليك المقاهي ينتقمون من المثقف الكبير

منشور الاثنين 12 يوليو 2021

في بدايات عام 1991 بدأ جدل في الحياة الثقافية، إثر نشر الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، في مجلة إبداع التي كان رئيسًا لتحريرها، افتتاحية تضمنت ما يفيد بأن المجلة لن تنشر لـ "حرافيش الكتابة"، وما يفيد أيضا أنها مجلة للصفوة. وعلى الفور أعادت مقولاته ما سبق أن فعله عباس العقاد قبل قرابة خمسين عامًا عندما قام بتحويل ما وصله من قصائد الشعر الجديد المتحرر من القافية والبحور التقليدية، ومن بينها قصائد لحجازي نفسه، إلى لجنة النثر بمجلس الفنون والآداب، أو النسخة القديمة للمجلس الأعلى للثقافة الحالي،  باعتبار أن ما وصله ليس شعرًا من الأصل. والمثير للدهشة أن حجازي نفسه كان أول من هاجم العقاد على موقفه بضراوة وقسوة بالغة ربما كان العقاد يستحقها.

ما كتبه حجازي كان ردًا على قصائد أرسلها للنشر في مجلة إبداع، الشعراء الشباب آنذاك، الذين لم يكتفوا بالتحرر السابق لقصائد رواد ما سُمّي آنذاك بالشعر الجديد، بل كتبوا قصيدة النثر التي لم تكن مجرد خروج وتحرر تام من الوزن والقافية، بل تضمنت رؤىً جديدةً تمامًا ومفهومًا مختلفًا للشعر والكتابة والتاريخ والواقعين السياسي والاجتماعي. باختصار كانت إضافة كبرى للقصيدة العربية ومازالت آثارها ممتدة حتى الآن في موجات متتالية.

كانت السنوات السابقة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي شهدت تجربتين مهمتين نهض بهما الكتاب والمثقفون في مصر، من أجل الاستقلال عن الأجهزة الرسمية وانتزاع الحق في إقامة منابر مستقلة، بعد عقود متوالية من اشتداد وسيطرة قبضة الضباط الأحرار على الثقافة، تم خلالها تأميم الصحافة وفرض الرقابة على الكتّاب وسائر الإنتاج الأدبي والفني والفكري. وعلى خلفية الهزيمة المروعة عام 1967 أصدرت مجموعة من الكتاب من على مقهى ريش مجلة جاليري 68 التي صدر منها ثمانية أعداد في تجربة هي الأولى من نوعها. لم تكن المجلة مجرد رد على عار الهزيمة فقط من خلال النصوص المنشورة التي شكّلت انقلابًا على الإنتاج الأدبي السابق عليها، بل كانت أيضا التجربة الأولى في انتزاع الاستقلال ومواجهة القوانين الجائرة المتعلقة بالنشر والالتفاف عليها.

أما عقد السبعينيات فشهد التجربة الثانية المتمثلة فيما كنت قد أطلقتُ عليه في مقال سابق للمنصة؛ ثورة الماستر، حيث جرى تطور محدود في الطباعة، كان بالنسبة لأبناء السبعينيات ثورة لأنهم لم يحتاجوا لمطبعة وترخيص وإذن من الأمن لإصدار مطبوعاتهم، بل مجرد كتابة على الآلة الكاتبة يتم تصويرها في عدد كبير من النسخ في غضون ساعات قلائل، هذا إلى جانب التكلفة المالية التي يمكن تحملها، كما أن النسخ كانت تباع للأصدقاء والمتعاطفين حتى يتمكن القائمون على هذه المجلات من الاستمرار في نشر المطبوعة، مع الأخذ في الاعتبار أن كل تلك العملية تقوم على التطوع ولا أحد يتقاضى أجرًا بل يدفع من جيبه من أجل نجاح التجربة.

وهكذا صدرت عشرات المجلات المستقلة مثل خطوة، ومصرية، وآفاق، وأدب الغد، والنديم، والحساب، وإضاءة، وكاف نون، فضلًا عن سلاسل مستقلة تصدر كتيبات صغيرة، شكلّت ميدانًا مفتوحا للتجارب المتحررة تمامًا من الثقافة السائدة ومن الصحافة الرسمية بكل قيودها. كانت هذه الأوراق توزع باليد وتصدر في أعداد لا تتجاوز العشرات أو المئات القليلة جدًا ،أي أن توزيعها كان محدودًا إلى أقصى حد، لكن ما كان يهم الكتاب آنذاك هو الاستقلال وكتابة ونشر ما كان يشكّل خروجًا وتجاوزًا للسقف المفروض.


اقرأ أيضًا: ثورة الماستر: من أوراق المقاومة في سنوات المقاطعة

 


حرافيش وصفوة

استمرت هذه التجارب طوال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي العقود نفسها التي شهدت تأسيس المنظمات والحلقات الماركسية السرية، وهو ما أسهم إلى هذا الحد أو ذاك في ضخ المزيد من الجهود من أجل انتزاع المنابر المستقلة، لحلحلة السيطرة الشاملة التي كان نظام يوليو قد فرضها على القوى السياسية المختلفة.

في ظل هذه الظروف نشر حجازي افتتاحيته السابق الإشارة لها، والتي تسببت في غضب شديد وأثارت سحبًا من الغبار، فحجازي كان يتمتع بتقدير شديد من جانب الكتاب الجدد على الرغم من الخلافات المشروعة. ومن على مقهى زهرة البستان المقر الرسمي لحرافيش الثقافة وغاضبيها، بدأت الدعوة لإصدار مجلة الكتابة الأخرى كمجلة مستقلة تنشر الأعمال المتجاوزة لكل السقوف، وتصطدم بالتابوهات ذات السطوة: السياسة والمقدس والجنس.

منذ عددها الأول الصادر في مايو/ آيار 1991 ،وعبر مايزيد عن عشرين عددًا في الإصدار الأول حتى بداية الألفية، وثلاثة أعداد في الإصدار الثاني حتى اندلاع ثورة 25 يناير. نجحت الكتابة الأخرى في تقديم واحدة من أهم تجارب العمل الثقافي المستقل وأطولها عمرًا وأكثرها تأثيرًا.

بدا الطابع الصدامي للمجلة واضحًا منذ افتتاحية العدد الأول التي ذكرت فيها المجلة الوليدة أن "الصعاليك قرروا الانتقام من الجلوس على المقاهي وصنع الكتابة الأخرى"، وتضيف "لقد أثبتت التجارب الكثيرة مدى عقم الاعتماد على المؤسسة الثقافية الرسمية بمصر، حتى بتنا نخجل من نقلها خارج جدرانها الأربعة، بل نفكر جديًا في الحجر عليها".

وفي إشارة لا تنقصها الشجاعة أبدًا لما ذكره حجازي عن الصفوة والحرافيش وأن إبداع سينشر فيها الصفوة، تساءلت الكتابة الأخرى عن الصفوة التي يقصدها حجازي"هل هي التي أفرزها بترول الخليج بصحفه ومنابره ومجلاته، حتى أصبحت الشهرة مقترنة بما يملكه الأديب أو المثقف من علاقات بترولية" . أما أهداف المجلة حسبما قررت الافتتاحية فهي "تبني إبداع الجيل الجديد، وترسيخ وممارسة حرية الكتابة، وإفساح الطريق للمغامرة، والالتزام بالآراء الجادة مهما كانت حدتها، وتأكيد قيمة الحوار كهدف مفتقد في الثقافة العربية".

 

غلاف العدد الأول من مجلة الكتابة الأخرى. الصورة: الكاتب محمود الورداني- أرشيف خاص

الواقع أن الكتابة الأخرى لم تلتزم فقط بما ورد في الافتتاحية، بل كانت أيضًا ساحة مفتوحة للهجوم على الثقافة الرسمية وممثليها، إلى جانب الهجوم المتواصل أيضًا على مَن يبادرون هم بالهجوم على الكتابة الأخرى، ومَن يقدمون بلاغات ضدها لمَن يعتبرونهم "أولي الأمر". كذلك أفردت المجلة صفحاتها للدفاع عن الكتّاب الذين يتعرضون للاعتداء بسبب كتاباتهم المتجاوزة مثلما جرى مع الشاعرين حلمي سالم وعبد المنعم رمضان. أما الأهم من كل ذلك في رأيي فهو أنها كانت ساحة مفتوحة لسيل لا يتوقف من التجارب الجديدة، وعلى الأخص في قصيدة النثر، بل لا يمكن تصور المدى الذي وصلت إليه قصيدة النثر بدون إسهام الكتابة الأخرى. رفعت المجلة وطبّقت شعار أنه لا حدود للتجديد والتجريب، واعتبرت التجريب قيمة في حد ذاته.

كانت الكتابة الأخرى بلا مقر، فمَن يصدرونها يفعلون ذلك من على كراسي مقهى زهرة البستان في وسط البلد، وبلا تمويل من أي نوع، وكاتب هذه السطور كان يشاهد الشاعر هشام قشطة المحرر العام والمسؤول عن المجلة، وهو يحمل الأعداد جالسًا على المقهى يوزعها ويصرّ على تقاضي ثمن كل عدد، كما يحمل أعدادًا أخرى لبائعي الصحف في وسط البلد، ليجمع تكاليف الطباعة بعد الاتفاق مع المطابع وتجار الورق على تسديد الثمن بعد صدور العدد. وفي إحدى المرات؛ كما ذكر لي هشام قشطة، أنه عندما توجه للحاج محمد مدبولي، أحد أشهر بائعي كتب وسط البلد، أخبره الأخير أن أجهزة الأمن أمرت بعدم توزيع الكتابة الأخرى، فبدأت المطاردة والملاحقة منذ العدد الأول.

على المستوى القانوني؛ لم يكن ممكنًا إصدارها بوصفها "مجلة" حيث يلزمها ترخيص بذلك، فصدرت بوصفها كتابًا غير دوري وغير منتظم، بل مجرد كتاب، اعتمادًا على صدور قانون في عهد السادات، إبان الهوجة الكاريكاتورية التي استهلّ بها حكمه بإلغاء الرقابة على المطبوعات، ومسرحية حرق أشرطة التسجيل بعد نجاحه في تصفية خصومه في مايو 1971، وهو إجراء شكلي كما تبين بعد ذلك، إلا أن هذا القرار سمح فيما بعد بإفلات مجلة مثل الكتابة الأخرى إلى حين.

"المجلة القذرة"

 

افتتاحية العدد الأول. الصورة: الأرشيف الشخصي للكاتب

العبء الأكبر في الكتابة الأخرى على مدى أعدادها التي تجاوزت خمسة وعشرين عددا، تحمله هشام قشطة بتصميم وتبتل المؤمنين بالرسالات الكبرى، وظل محررًا عامًا ومديرًا مسؤولًا، ليس فقط أمام المطابع وتجار الورق، بل أمام أجهزة الأمن. فمثلًا لم يكن له عنوان معروف في القاهرة لأجهزة الأمن، وعنوان مراسلات المجلة كان على صندوق بريد، لذلك استدعي الأمن والده من قريته القريبة من دكرنس بالشرقية وتم التنبيه عليه بضرورة ذهاب هشام لمقابلتهم وإلا قبضوا على الوالد، فاضطر هشام للذهاب إليهم بالفعل، وهناك هددوه بأنه إذا لم يغلق هذه "المجلة القذرة" سيتعرض للقبض عليه وما إلى ذلك من تهديدات، ثم طلبوا منه التوقيع على تعهد بعدم إصدار المجلة، ووقّع هشام على التعهد بالفعل، وخرج من مبنى مباحث أمن الدولة ليواصل إصدارها.

التقليب في بعض الأعداد قد يكون مفيدًا في استعادة ماذا كانت تعني الكتابة الأخرى. فمن بين مواد العدد الأول مثلا دراسة لعلي فهمي أحد علماء الاجتماع بعنوان دين الحرافيش بمصر المحروسة، ومحور عن الشاعر عفيفي مطر، إحدى الأيقونات التي اهتمت بها المجلة بشدة في أكثر من عدد لها، واعتُبر الأقرب إلى تجاربهم الشعرية، إلى جانب النصوص الشعرية والقصصية، مع تركيز خاص على قصيدة النثر.

بينما تؤكد افتتاحية العدد الثاني مثال، وهي بعنوان "اختراق التابو" على أن "الأرض التي أرادوا لنا الوقوف عليها (الضمير يعود بالطبع على النظام السائد) وجدناها إما هشة لايمكن الوثوق بها، أو جرداء عديمة الجدوى"، وإذ تصدر المجلة في هذه الظروف فهي تؤكد "أننا نملك قوة لايستهان بها: قوة الرفض والتمرد"، وتضيف "ذلك هو السبب الذي ألهب ظهورنا بالسياط حتى أخرجنا من دائرة التمرد الأبله إلى فضاء التمرد الإيجابي" وأيضا "من البدهي إذن أن ندعو الجميع إلى مشاركتنا في صياغة هذ المشروع (..) والمعركة الرئيسة التي نخوضها الآن هي الدعوة إلى تحرير الثقافي من قبضة السياسي، ذلك القيد الذي وسم مشروعنا الثقافي بميسم الانفعالية والغوغائية، أدى بنا إلى أحد طريقين: إما التماهي في الآخر الغربي أو التماهي في الآخر السلفي، وكلا الطريقين أوصلا مجتمعنا العربي إلى الشلل التام"، ولا تتوقف المجلة عن صياغة هذا الموقف الواضح وإنما  تضيف" المعركة إذن ليست هيّنة، إذ أنها تتطلب بداية اختراق التابو الجنس، السياسة، الدين"، وفي هذا السياق نشرت دراسة طويلة لسيد القمني عنوانها "النسخ في الوحي".

يحيا الفن المنحط

من بين مآثر المجلة اهتمامها الفائق بجماعة الفن والحرية، وربما هي المطبوعة الوحيدة التي اهتمت بها على هذا النحو. ففي العدد الثالث الذي صدر غداة رحيل أنور كامل أحد أبرز مؤسسيها عام 1992 أصدرت ما يكاد يشكلّ عددًا خاصًا عن واحدة من أكثر الجماعات الأدبية والفنية راديكالية منذ تأسيسها عام 1939، فأعادت نشر البيان الأول للجماعة بعنوان "يحيا الفن المنحط"، وشهادة أنور كامل ونص أحد أهم أعماله وهو الكتاب المنبوذ الصادر عام 1936، وأعادت أيضًا نشر  مقالات عدد من كتابها وفنانيها مثل جورج حنين ورمسيس يونان، وعبد الحميد الحديدي، وكامل التلمساني، إلى جانب دراسة طويلة في العدد نفسه لعصام محفوظ عن السوريالية المصرية وقصائد لـجورج حنين، وقصة لـألبير قصيري.

 

غلاف الطبعة الحديثة من أعداد مجلة التطور

يجب أن أذكر هنا ماقاله لي هشام قشطة عن أنور كامل تحديدًا، الرجل الذي اعتاد وهو شيخ تجاوز الثمانين على المرور على مقهى زهرة البستان يوم الثلاثاء من كل أسبوع حاملًا إحدى فسائله، وهي عبارة عن هدية استخرجها من هنا أو هناك: قصة أو قصيدة أو مجتزء من كتاب أو مقال وقام بتصويرها على طريقة الماستر، ثم يوزعها باحتفاء على الجالسين حوله، لحُسن الحظ عاصره كاتب هذه السطور وسعد بلقائه وبالطاقة الإيجابية التي كان ينثرها حوله، وقال لي هشام قشطة إن كامل كان أحد أكبر داعميه على المستوى النفسي، وكثيرًا ما انفرد به يشكو له مايتعرض له من مشاكل وعوائق مثبطة حول المجلة، وعادة ماكان لقائه به ينتهي بما يشبه السحر، فالراحة والسعادة التي كان يشعر به عقب اللقاء تتجاوز كل شيء.

أما في العدد الرابع على سبيل المثال، فقد خصصت فيه المجلة محورًا للدفاع عن الشاعر عبد المنعم رمضان، الذي تعرض لهجوم واسع، إثر نشره لقصيدة اعتبرها البعض "اجتراءً على المقدس"، فأعادت نشر القصيدة ذاتها بكل شجاعة وأصدرت بيانًا للتضامن مع الشاعر، كما نشرت دراسة لعلي فهمي بعنوان "المهمشون في مصر المحروسة"، وترجمة لدراسة تيموثي ميتشيل قام بها بشير السباعي عن "المجازات اليومية للسلطة"، هذا إلى جانب ما اعتادت عليه الكتابة الأخرى ويعد مأثرة من بين مآثرها  بنشر عدد كبير ربمايشغل ثلثي عدد صفحات كل عدد ويضم تجارب واعدة وجريئة لقصائد نثر الشعراء الجدد.

في هذا السياق خصصت العدد المزدوج 5 و6 الصادر في سبتمبر/ أيلول 1993 بكامله لنشر قصائد لسبعين شاعرًا، وقصصًا لأكثر من ثلاثين كاتبًا، وأشارت في الافتتاحية إلى أن "ما نحن بصدده الآن هو محاولة أولى لتصوير حالة الثقافة الروحية في مصر"، كما تشير في الوقت نفسه إلى أن تلك النصوص المنشور تكشف "عن ذلك التوتر الذي يجتاح الأنتلجنسيا الإبداعية في مصر الآن، بين اشتهاءالإمساك بزمام معرفة جمالية بالعالم تسمح باكتشاف آفاق تجاوزه، واشتهاء البحث عن ملاذ جمالي من عالم مثير للغثيان".

.. ونبني على ما سبق

استكملت المجلة المشهد ذاته في العدد التالي السابع في فبراير/ شباط 1994، تحت عنوان "أي مشهد الثقافة المصرية الآن"، لكنها خصصت أغلبه للشهادات، فأفرد ت مساحة كافية لممثلين للتجارب المستقلة السابقة عليها مباشرة للإدلاء بشهاداتهم، فكتب كل من إدوار الخراط وإبراهيم منصور عن مجلة جاليري 68، وأمجد ريان عن مجلة إضاءة، وأحمد طه عن مجلة أصوات، ومحمود أمين العالم عن المجلة الفصلية قضايا فكرية التي كان يرأس تحريرها، وفؤاد حجازي عن سلسلة كتب أدب الجماهير التي كان يديرها من المنصورة، وعبد العزيز جمال الدين عن مجلة مصرية، وسيد البحراوي عن مجلة خطوة .. وغيرها من التجارب المستقلة، وإلى جانب دراسات طويلة عن قصيدة النثر في مصر، تضمن العدد عشرون شهادة لكتاب ينتمون لاتجاهات مختلفة، ثم اختتم العدد بندوتين، إحداهما لشعر العامية والأخرى للقصة، وبالطبع شارك في هذا وذاك عدد كبير من الكتاب المنتمين أيضا لتيارات واتجاهات مختلفة.

وهكذا فإن من بين سمات الكتابة الأخرى الأساسية الحشد و إتاحة الفرصة والنشر للجميع، فلا أحد كان يملك سلطة الحكم على صلاحية هذا النص أو ذاك، وكل التجارب الجديدة كانت مدعوّة للمشاركة ولا حجر ولا اعتراض على أي مادة.

الأعداد التالية في الإصدار الأول كانت متميزة وجادة وعنيفة بالطبع، وسأكتفي بذكر بعض العناوين، فمحاور العدد الثامن الصادر في يونيو/ حزيران 1994 مثلًا هي الصهيونية والحكم العسكري، والمكارثية المصرية، وفن المصادرة. ومحاور العدد التاسع الصادر في أكتوبر/ تشرين الأول 1994 تدور حول الكتابة الشهوانية، والمثقف المصري والتطبيع، والفكر السينمائي الجديد، والعدد التالي كان عن الدين والسلطة في مصر، والعدد الذي يليه جاء لاستكمال المحور السابق عن الدين والسلطة.

وإذا كنتُ قد فقدت الأعداد الثلاثة التالية، فإن العدد المزدوج التالي الذي يحمل رقم العدد 19/ 20 في فبراير 1999 خصص محوره للاحتفاء بمرور ستين عامًا على تأسيس جماعة الفن والحرية، ثم صدر العدد المزدوج 23/ 24 في ديسمبر/ كانون الأول 2001 وتضمن محورا ضخما بعنوان الصورة والسلطة، إلى جانب ترجمة كاملة لديوان بودلير بعنوان سأم باريس قام بها بشير السباعي.

الطريق إلى السجن

توقفت الكتابة الأخرى نحو تسع سنوات قبل أن تعاود الصدور تحت عنوان الإصدار الثاني، فصدر العدد الأول في يناير 2010 وتضمن محورًا مهمًا عن إنتاج واستهلاك الجسد الأنثوي في مصر، وعشرات النصوص والملفات المتنوعة، ونلاحظ أن هذ العدد مثل سابقه تجاوز عدد صفحاته 400 صفحة من القطع الكبير، ثم صدر عددان يعدان وثيقتان نادرتان على كل المستويات، أولهما عن ثورة 25 يناير، وصدر بعد الثورة بشهرين فقط، والثاني والأخير عن الثورة التونسية وصدر في أغسطس/ آب 2012.  أكرر.. كلاهما وثيقتان نادرتان حيث سجلتا الحدثين الكبيرين في لحظة اندلاعهما وتشكلهما.

للأسف العدد الأخير عن الثورة التونسية أودى بهشام قشطة تمامًا وكاد يدخل السجن بسببه، ليس لأسباب سياسية، بل لأسباب أخرى، كان هشام قد اتفق مع عدد من الشخصيات المهمة والتي تشغل مناصب مسؤولة على إصدار عدد عن الثورة التونسية، وسافر إلى هناك وأمضى عدة أيام في تجهيز العدد وجمع المادة الصحفية، وسافر إلى القاهرة ليطبع العدد بناءً على اتفاق بأن تشتري تونس 500 نسخة، وطبع العدد وتم شحنه بالبريد الجوي بتكاليف باهظة بالطبع، وعندما سافر مرة ثانية إلى تونس لتنفيذ الاتفاق، تنصل الجميع، وكانت ضربة غير متوقعة لايمكن مواجهتها، فهناك في القاهرة تنتظره شيكات بلا رصيد كتبها على نفسه ثمنًا للورق والطباعة، واضطر هشام لبيع مايملكه واستدان وطرق كل السُبل للإفلات من السجن، لكن حياته ارتبكت تماما وتدهورت، خصوصًا وأنه كان قد تزوج حديثا، فقرر ألا يعاود التجربة وابتعد عن النشر تماما حتى كتابة هذه السطور.

أختتم هذه الدراسة أو القراءة بذكر أمرين؛ الأول أن الكتابة الأخرى أصدرت، إلى جانب المجلة عددًا كبيرًا من الدواوين الشعرية تحت عنوان إصدارات الكتابة الأخرى، كما أعادت إصدار الأعداد الكاملة لمجلة جاليري 68، والأعداد الكاملة لمجلة التطور، وصدر منها طبعتان بسبب نفاد الطبعة الأولى، وكذلك الأعداد الكاملة لـمجلة الكاتب المصري التي كان يصدرها طه حسين في أربعينيات القرن الماضي في مجلدين.

الأمر الثاني ماذكره لي هشام قشطة حول التمويل، وأكد أن صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة تكفل بدفع تكاليف طباعة جاليري 68 والتطور والكاتب، وكذلك اعتمدت المجلة على إعلانات لدور نشر خاصة لم تتجاوز إعلانًا أو اثنين في بعض الأعداد، كما اشترت مؤسسة بروهيلفسيا السويسرية خمسين نسخة من المجموعة الكاملة حتى العدد الثاني عشر، وكذلك اشترت البعثة الفرنسية للتبادل العلمي عددًا آخر من النسخ ثمنًا للإعلانات التي نشرتها المجلة لمطبوعات البعثة.

تلك هي على وجه الحصر، كما ذكر لي هشام، قيمة المبالغ التي تلقتها المجلة، ولاحاجة للقول أنها استخدمت بالتأكيد في إصدار المجلة.

على أي حال؛ ماسبق هو حكاية واحدة من أهم تجاربنا الصحفية المستقلة وأكثرها تأثيرًا، وأدعو الزملاء والأصدقاء الأصغر في السن أن يعكفوا على دراستها للاستفادة من نجاحاتها كما إخفاقاتها.