IMDB
من فيلم وسطي ضمن أنطولوجيا ستة شبابيك في الصحراء

ستة شبابيك في الصحراء: نسخة سعودية ضد القمع

منشور الخميس 29 يوليو 2021

حسب تصنيف شبكة نتفليكس، فإن ستة شبابيك في الصحراء أنطولوجيا تضمّ ستة أفلام قصيرة، تتباين في الموضوعات والرؤى والهموم وحتى المدد، من إنتاج تلفاز 11 بشراكة مع نتفليكس، وهي تجربة جذابة بالنسبة لنا كمُشاهدين، نودّ التعرف على السينما السعودية، التي تتجدد بداياتها الواعدة منذ سنوات، وسط قيود المُجتمع المُحافظ، الذي ظل شيوخه يُحرّمون الفن لسنوات بلا عدد، ومنها السينما بكل تأكيد.

تغيّر المشهد أخيرًا، أو هو في طور التغيير، تتجه الدولة السعودية حاليًا إلى تشجيع الإنتاج السينمائي، وسُمح أخيرًا بتكاثر دور العرض، "الستة شبابيك" هي أيضًا تجربة مُهمة، بالنسبة لصُناعها من شباب السينمائيين الذين يبحثون عن أصواتهم الخاصة، ساعين في الوقت نفسه إلى البدء مما انتهى إليه الآخرون، أي تقديم أفلام غير بدائية، ولابد أن تكون قادرة على جذب جمهور المنصة الواسع.

تبدأ هذه الأفلام بفيلم وسطي، إخراج علي الكلثمي، وكتابة: نواف الشبيلي، وعلي الكلثمي، ومؤيد النفيعي، الفيلم الأول الذي يُشجع على التفاؤل بالتجربة إجمالًا، مُستلهم من حادثة حقيقية، اعتدى فيها مجموعة من "المُحتسبين" على أبطال عرض مسرحي أُقيم في مدينة الرياض، بجامعة الحمامة عام 2006، كان سبب التربص بالعرض آنذاك، الذي أدى إلى الاعتداء، الموسيقى التي استُخدمت كخلفية في المسرحية، بالإضافة إلى وجود أدوار لنساء، على رغم أن تلك الأدوار، أداها على خشبة المسرح رجال، يرتدون أقنعة النساء. مع ذلك لم يسلم العرض، ولا مَنْ حضر العرض.

مؤلم هو مشهد الاعتداء، في المسرحية التي يُعاد تمثيلها، داخل الفيلم القصير، ويتماس هذا الألم مع قصة سعد، الشاب الذي كان يعمل في محل لبيع الآلات الموسيقية، كان سعد يحاول أن يستمتع بالغناء والرقص مع أصدقائه في الجلسات الخاصة، هذه التي كانت تُمثل حياة كاملة في المجتمع المُنغلق، بعيدًا عن أعين المُحتسبين، لكنه يُبتلى فجأة بضعف عصب العين، وتفشل محاولات العلاج، ما يؤدي به تدريجيًا إلى فقد البصر.

برومو ستة شبابيك في الصحراء


تشاء السماء أن يكون سعد، حاضرًا للعرض المسرحي، يحاول أن يواصل الاستمتاع بالحياة، ولو بالتخفيض، عن طريق أذنه، بعد أن فقد حاسة الإبصار. يعتقد سعد، لحُسن الحظ، أن العنف الذي يسمعه يجري على خشبة المسرح حين بدأ المُحتسبون في الهجوم على العرض وضرب المُشاركين به، جزءًا من المشهد، فلا يسعى إلى الاحتماء، وتُصيب فردة حذاء طائشة، رأس سعد، فترد إليه، بطريقة أشبه بمعجزات السينما المصرية والهندية، بصره الضائع.

هذا الفيلم المُنتصِر للفن حتى الرمق الأخير، والذي يعدنا في نهايته، ببداية مختلفة للفن في السعودية، ولو بعد حينٍ. يفتتح الستة أفلام، ويُمهد لنا ثيماتها الرئيسية؛ الولع بالتجريب، وطرح الأسئلة، التمرد، والتمسك بالبراءة.

 البراءة

في الفيلم الثاني هل تذهب سُمياتي إلى النار؟ إخراج مشعل الجاسر، وكتابة نواف الشبيلي ومشعل الجاسر، تُصبح البراءة، هي المسوغ فني لطرح الأسئلة وللتمرد على النتائج المعروفة سلفًا. هنا حكاية خادمة فلبينية، مُضطرة إلى العمل في بيت عائلة من المُشغِّلين، وكل فرد في هذه العائلة يعتبرها ملكية خاصة، ولا يُقدِّر ضعفها الجسدي. الوحيدة التي تلتقط ألم سُمياتي (وحتى اسم سُمياتي ليس اسمها الحقيقي، إنما الاسم الذي اختار أن يُطلقه عليها وعلى كل خادمة الجَدّ، تسهيلًا على ذاكرته) هي الطفلة الصغيرة التي تروي الحكاية، وتُطلق ببراءة السؤال المُخيف: هل تدخل خادمتنا سُمياتي الجنة؟

تربط الصغيرة، بين ضعف سُمياتي التي تسقط الأطباق من يدها، تحت ضغط طلبات أفراد العائلة التي لا تنتهي، وبين كتكوت رقيق كانت تُربيه، وسرعان ما تنتهي حياته. تقول الأم إن سُمياتي ساحرة، تماديًا في نزع صفة الإنسانية عن الخادمة، التي تحمل هموم البيت فوق كتفيها، ولا يحق لها الاعتراض. بينما تتساءل مجددًا الطفلة، إذا كانت سُمياتي ساحرة، فلماذا لا تُحرر نفسها من هذا الأسر، لتعيش حياة كريمة دون مذلة، ودون أن تُفارق طفلها؟

يُحيلنا هذا العمل إلى فيلم وجدة لهيفاء المنصور الصادر عام 2012، من حيث إن بطلته أيضًا الصغيرة  تأخذها فطرتها إلى التمرد على بديهيات المجتمع، بحثًا عن العدالة والمساواة.

القادم من المُستقبل

تتحرك الأفلام الست في الزمن بحرية، وحتى في المكان، تلف الكاميرا وتدور، ثمة تأثر بالمسرح  ولعب بالنور والظلال، هذا التجريب أيضًا، يُبرر أحيانًا، انقطاع خط السرد، فنحن أمام حالة فنية، لا تسعى إلى الاكتمال، لكن في الأساس إلى التحقق.

في الفيلم الثالث  ومن كآبة المنظر، إخراج فارس قدس، وكتابة صهيب وفارس قدس. نُتابع ضياع طائرة مُسافرة من مدينة جدة إلى لندن، لا تجد فِرق الإنقاذ لها أثرًا، أما المسافرون على متنها، فلا يفقدون الأمل، أن أحدًا سيعثر عليهم ذات يوم.

 

من الفيلم القصير ومن كآبة المنظر


تحاول المجموعة، أن تخترع طرقًا للحياة، فيتغذون على ما تبقى من طعام معهم، ويستمعون إلى شرائط التسجيل التي كانت بحوزتهم كي تُسرّي عنهم، وبينما تتواصل مداخلات الأبطال الكوميدية أحيانًا، والحزينة في أحيان أخرى، يتيهون في الزمن أكثر ونتيه معهم. يلتقي الأبطال في نهاية الفيلم، بشاب عابر يُمسك بيده جهاز موبايل، ويعرض عليهم المساعدة. يُفاجأ الأبطال بهذا التطور التكنولوجي الهائل، الذي يكاد أن يُصيبهم بالجنون. فكم لبثوا تقريبًا، في ثقبهم الزمني ذاك؟ وإن كان قد وصل إليهم عابر الطريق، بعد كل ذلك الزمن، فكيف لم يتمكنوا من التحرر، قبل الآن؟ يبدأ الفيلم بالماضي، لكنه ينتهي في منطقة ضبابية، بعد المستقبل. مما يجعلنا نتساءل عن حاضر المجتمعات العربية، وكيف يمكن صناعة الجسر إلى المُستقبل، الذي لا يستطيع أحد التنبؤ بأحداثه.

كافكا السعودي

في الفيلم الرابع الجرذي من كتابة وإخراج فيصل العامر، يحدث ذلك التخلي التام عن الزمن، فأي مشهد من مشاهد هذا الفيلم، يمكن أن تتأخر أو تتقدم، على طريقة الكوابيس. البطل الموظف، يستيقظ ذات يوم، ولا يجد نفسه سوى مُطاردًا بصورة مديره، أو أبيه. هو في خياله يشبه جرذًا، يحاول التخلص منه. تحبس الصورة الباردة الكئيبة البطل في حدود جدران مبنى عمله الرأسمالي، حيثُ رتابة تكرار حركات العمل. إن أيًا من الظاهرين على الشاشة، يمكن أيضًا أن يكون البطل، الذي سيتحمل ذنب موت المدير، لأنه لم يمتثل لأوامره. الجرذي، هو أكثر أعمال هذه الأنطولوجيا تجريبية، وأصرحها سياسيًا.

حضور المرأة

فيما تختفي المرأة تقريبًا عن الفيلم الأول وسطي، بل ويقوم بدورها في المسرحية داخل الفيلم، رجال، على طريقة بدايات المسرح اليوناني القديم، تحضر بقوة في الفيلمين الأخيرين، وهما لمُخرج واحد هو محمد سلمان، لتصبح مرّة شريكة للبطل، تحاول مثله التمرد بنعومة، وتتلقى مثله الجزاء. وفي الثاني، تكون البطلة التي تبحث هي عن رفيق أو صديق في رحلتها، بالإضافة إلى ظهورها في سُمياتي، الذي يُميز بين نوعين من النساء إحداهما مقهورة منذ الميلاد: الخادمة الفيلبينية، والأخرى المُشغّلة، التي تُشيطن السيدة الضعيفة، وتحتل مكانتها الأعلى بأريحية، وهي تُحرض على المرأة الأخرى الأكثر فقرًا.

في 27 شعبان، يتراوح الأسلوب السينمائي بين الواقعي والرومانسي والساخر، وينتهي دون توقع إلى مفارقة تراجيدية. ينهض الفيلم على مفارقة، حين يأخذ البطل حبيبته التي يراسلها عبر الموبيل، إلى غرفة في فندق مُتخصص في استقبال المواعدات الغرامية ليتعارفا. لم ير البطل وجه المرأة من قبل، كل ما يُريده أن يراها، وبينهما وعد بالزواج. بالتأكيد تعود أحداث الفيلم، إلى ما قبل عهد الهواتف الذكية.

 

برومو فيلم 27 شعبان


يتناثر اللون الأحمر، الدالّ على المناسبات الغرامية، أكثر من اللازم، ويكاد يعمي البطل والبطلة. من ناحية، تجلس الحبيبة خائفة من الأحكام الأخلاقية التي يُمكن أن يُصدرها عليها، حبيبها الشاب، إن هي كشفت وجهها، ومن ناحية أخرى، يتعثر الشاب في طريق رجوعه إلى الغرفة في الفندق، فيضلّ ويصبح السؤال كيف يتعرّف على حبيبته، في ضياعه بين الغرف، وهو الذي لم يرَ وجهها من قبل؟

أما الستارة، وهو الفيلم الأخير في هذه الأنطولوجيا، فيقدم الحياة في مشفى كبير تعمل به مريم، الممرضة الشابة التي بالكاد استلمت وظيفتها، وترغب في الأيام الأولى، بأقل قدر من الصدام، مع المرضى الرجال، الذين لا يخجلون من التمادي في التدخل في شؤون حياتها، فقط لأنها امرأة.

تخلط مريم بين الواقع والحلم بطريقة شبه عمدية؛ فهناك في الحلم، هي طفلة لا تُفلت يد والدها، برغم أنها تدور معه أيضًا في أروقة المستشفيات، بعد أن عانى جلده من آثار حريق كبير. والدها الموصوم من المجتمع، مرة أخرى، لأنه كان عوّادًا، والذي تعرض إلى الشماتة، بسبب النظرة المُزدرية للفن، وتضرر منها ربما أكثر من النيران، وتضررت معه مريم. رغم الضغوط، لا تتخلى مريم عن حلمها في مُمارسة التمريض، وتستخدم الستارة، كطريقة لردع الآخرين عن مسّها بأحكامهم وأفكارهم، على الرغم من أن الطريق كما يبدو، مازال غير ممهدٍ، أمامها.

يمكننا أثناء مشاهدة هذه السُداسية، استدعاء البداية الجديدة والمُلهمة أيضًا للسينما السودانية، كفيلم الحديث عن الأشجار لصهيب قسم الباري، وستموت في العشرين لأمجد أبو العلا، وأوفسايد الخرطوم لمروى زين. هو نفسه النضال ضد سلطة قمعية تسكن العقول، وتُعادي الفن والحُب، نضال فطري، ولا غنى للحياة عنه، حتى من قبل الفن. ثمة في ستة شبابيك في الصحراء مقدار من الأمل يُمنينا، بألا يصح في النهاية سوى الصحيح.